بصائر &nb"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :542590
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

بصائر في الفتن الأخيرة (الحلقة الثالثة)

المقال
بصائر في الفتن الأخيرة (الحلقة الثالثة)
4538 زائر
13/07/2013
أبو حازم القاهري السلفي

بصائر

في الفتن الأخيرة

(الحلقة الثالثة)


الحمد لله حمدا يليق بجلاله، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السماوات والأرض وما فيهما، وأشهد أن محمدا عبده المجتبَى ورسوله المصطفَى؛ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

فإننا نتناول في مقالنا هذا مسألة، هي أصل من أصول الفتن الكائنة -عجَّل الله زوالها-، وهي النظر في أصناف الخارجين عن الطاعة والمفارقين للجماعة، والتمييز بين القتال المشروع والقتال الممنوع -في هذا المقام-.

وهذه المسألة من أهم ما يجب تحريره في الفتن النازلة؛ فإن هذه الفتن دائما ما تبدأ من قِبَل أهل السوء، الذي يخرجون في المظاهرات وأخواتها، ثم يكون من أثرهم ما هو معلوم.

فتشتد الحاجة -إذن- إلى معرفة نوع هؤلاء، وحكمهم في الشريعة: هل هم خوارج أم بغاة؟ وهل يجوز قتالهم وتستباح دماؤهم -مطلقا-؟

وعلى شرطنا الذي ذكرناه في «الحلقة الأولى»: نعالج المسألة معالجة مختصرة جامعة؛ والله الموفِّق.

اعلم -علمني الله وإياك- أن كل من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة: يشمله اسم «الخروج» -بالمعنى العام-، فيقال: هذا خارج على الإمام، وشاقٌّ لعصا المسلمين.

وإنما فرق العلماء هنا بين طائفتين أساسيتين -من جهة الأحكام العملية-، وهما: «الخوارج»، و«البغاة».

وحاصل ما ذكروه من الفرق بينهما:

أن «الخوارج» هم الذين يخرجون عن عقيدة ومنهج، فيكفرون المسلمين، ويستحلون دماءهم.

وأما «البغاة»؛ فليس من شأنهم ذلك، وإنما هم خارجون عن طاعة إمام معين؛ لتأويل يسوغ مثله، ولهم شوكة ومنعة، تستوجب جمع الجيش لكفِّهم.

فإذا تبين ذلك؛ فلْنتعرف على صفة التعامل مع الطائفتين، وذلك في موضعين جامعين من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وأنا أنقلهما لك بطولهما.

* الموضع الأول:

سُئل -رحمه الله- عن «البغاة» و«الخوارج»: هل هي ألفاظ مترادفة بمعنى واحد؟ أم بينهما فرق؟ وهل فرقت الشريعة بينهما في الأحكام الجارية عليهما أم لا؟ وإذا ادعى مدع أن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما إلا في الاسم، وخالفه مخالف مستدلا بأن أمير المؤمنين عليا -رضي الله عنه- فرق بين أهل الشام وأهل النهروان؛ فهل الحق مع المدَّعِي؟ أو مع مخالفه؟».

فأجاب: «الحمد لله؛ أما قول القائل: إن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما إلا في الاسم؛ فدعوى باطلة، ومُدَّعيها مجازف؛ فإن نفي الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم -من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم؛ مثل كثير من المصنفين في «قتال أهل البغي»-؛ فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، وقتال عليٍّ الخوارجَ، وقتاله لأهل الجمل وصفين، إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام: من باب «قتال أهل البغي».

ثم مع ذلك؛ فهم متفقون على أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة: من أهل العدالة؛ لا يجوز أن يُحكم عليهم بكفر ولا فسق؛ بل مجتهدون: إما مصيبون، وإما مخطئون، وذنوبهم مغفورة لهم؛ ويطلقون القول بأن البغاة ليسوا فساقا، فإذا جُعل هؤلاء وأولئك سواء؛ لزم أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين على العدالة: سواء؛ ولهذا قال طائفة بفسق البغاة؛ ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة.

وأما جمهور أهل العلم؛ فيفرقون بين الخوارج المارقين، وبين أهل الجمل وصفين، وغير أهل الجمل وصفين -ممن يعد من البغاة المتأولين-؛ وهذا هو المعروف عن الصحابة، وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين، وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم -من أصحاب مالك، وأحمد، والشافعي، وغيرهم-.

وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «تمرق مارقة على حين فُرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق»([1])، وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة، ويبين أن المارقين نوع ثالث، ليسوا من جنس أولئك؛ فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية.

وقال في حق الخوارج المارقين: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة»([2])، وفي لفظ: «لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم على لسان نبيهم؛ لنكلوا عن العمل»([3])، وقد روى مسلم أحاديثهم في «الصحيح» من عشرة أوجه، وروى هذا البخاريُّ من غير وجه، ورواه أهل السنن والمسانيد؛ وهي مستفيضة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، متلقاة بالقبول، أجمع عليها علماء الأمة -من الصحابة ومن اتبعهم-، واتفق الصحابة على قتال هؤلاء الخوارج.

وأما أهل الجمل وصفين؛ فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب، وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا -لا من هذا الجانب، ولا من هذا الجانب-، واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ترك القتال في الفتنة، وبيَّنوا أن هذا قتال فتنة، وكان عليٌّ -رضي الله عنه- مسرورا لقتال الخوارج، ويروي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر بقتالهم؛ وأما قتال صفين؛ فذكر أنه ليس معه فيه نص؛ وإنما هو رأي رآه، وكان أحيانا يحمد من لم ير القتال.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في الحسن: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»([4])؛ فقد مدح الحسن، وأثنى عليه بإصلاح الله به بين الطائفتين -أصحاب علي، وأصحاب معاوية-.

وهذا يبين أن ترك القتال كان أحسن، وأنه لم يكن القتال واجبا ولا مستحبا؛ وقتال الخوارج قد ثبت عنه أنه أمر به وحض عليه؛ فكيف يُسوَّي بين ما أمر به وحض عليه، وبين ما مدح تاركه وأثنى عليه؟!

فمن سوَّى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين، وبين قتال ذي الخويصرة التميمي وأمثاله من الخوارج المارقين والحرورية المعتدين؛ كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين، ولزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة والمعتزلة، الذين يكفِّرون أو يفسِّقون المتقاتلين بالجمل وصفين؛ كما يقال مثل ذلك في الخوارج المارقين؛ فقد اختلف السلف والأئمة في كفرهم على قولين مشهورين، مع اتفاقهم على الثناء على الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين، والإمساك عما شجر بينهم؛ فكيف نسبة هذا بهذا؟!

وأيضا: فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتال الخوارج قبل أن يقاتِلوا، وأما أهل البغي؛ فإن الله تعالى قال فيهم: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾([5])، فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء، فالاقتتال ابتداء ليس مأمورا به؛ ولكن إذا اقتتلوا؛ أمر بالإصلاح بينهم، ثم إن بغت الواحدة؛ قوتلت.

ولهذا قال من قال من الفقهاء: إن البغاة لا يُبتدءون بقتالهم حتى يقاتِلوا، وأما الخوارج؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة»، وقال: «لئن أدركتهم؛ لأقتلنَّهم قتل عاد»([6]).

وكذلك مانعو الزكاة؛ فإن الصدِّيق والصحابة ابتدءوا قتالهم؛ قال الصديق: «والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لقاتلتهم عليه»، وهم يقاتَلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات -وإن أقروا بالوجوب-، ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها وقاتل الإمام عليها -مع إقراره بالوجوب-: على قولين، هما روايتان عن أحمد -كالروايتين عنه في تكفير الخوارج-.

وأما أهل البغي المجرد؛ فلا يكفرون -باتفاق أئمة الدين-؛ فإن القرآن قد نص على إيمانهم وأُخُوَّتهم -مع وجود الاقتتال والبغي-؛ والله أعلم» اهـ([7]).

* الموضع الثاني:

قال -رحمه الله-: «نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القتال في الفتنة، وكان ذلك من أصول السنة، وهذا مذهب أهل السنة والحديث، وأئمة أهل المدينة -من فقهائهم وغيرهم-.

ومن الفقهاء من ذهب إلى أن ذلك يكون مع وجود العلم التام من أحدهما، والبغي من الآخر، فيجب القتال مع العادل -حينئذ-.

وعلى هذا: الفتنة الكبرى بين أهل الشام والعراق؛ هل كان الأصوب حال القاعدين، أو حال المقاتلين من أهل العراق؟

والنصوص دلت على الأول، وقالوا: كان ترك قتال أهل العراق أصوب -وإن كانوا أقرب إلى الحق وأولى به من الشام إذ ذاك-؛ كما بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع، وتكلمنا على الآيات والأحاديث في ذلك.

ومن أصول هذا الموضع: أن مجرد وجود البغي من إمام أو طائفة لا يوجب قتالهم؛ بل لا يبيحه؛ بل من الأصول التي دلت عليها النصوص: أن الإمام الجائر الظالم يؤمر الناس بالصبر على جوره وظلمه وبغيه، ولا يقاتلونه؛ كما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك في غير حديث، فلم يأذن في دفع البغي مطلقا بالقتال؛ بل إذا كانت فيه فتنة؛ نهى عن دفع البغي به، وأمر بالصبر.

وأما قوله -سبحانه-: ﴿ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ﴾؛ فهو -سبحانه- قد بيَّن مراده؛ ولكن من الناس من يضع الآية على غير موضعها؛ فإنه -سبحانه- قال: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، فهو لم يأذن ابتداء في قتال بين المؤمنين؛ بل إذا اقتتلوا؛ فأصلحوا بينهما، والاقتتال هو فتنة، وقد تكون إحداهما أقرب إلى الحق، فأمر -سبحانه- في ذلك بالإصلاح.

وكذلك فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما اقتتل بنو عمرو بن عوف، فخرج ليصلح بينهم، وقال لبلال: «إن حضرت الصلاة؛ فقدِّم أبا بكر»([8]).

ثم قال -سبحانه-: ﴿ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾، فهو -بعد اقتتالهم- إذا أصلح بينهم بالقسط، فلم تقبل إحداهما القسط، بل بغت؛ فإنها تقاتَل؛ لأن قتالها هنا يُدفع به القتال الذي هو أعظم منه؛ فإنها إذا لم تقاتَل حتى تفئ إلى أمر الله، بل تُركت حتى تقتتل هي والأخرى؛ كان الفساد في ذلك أعظم.

والشريعة مبناها على دفع الفسادين بالتزام أدناهما، وفي مثل هذا: يقاتَلون حتى لا يكون فتنة، ويكون الدين كله لله؛ لأنه إذا أُمروا بالصلاح والكف عن الفتنة، فبغت إحداهما؛ قُوتلت؛ حتى لا تكون فتنة.

والمأمور بالقتال هو غير المبغي عليه، أُمر بأن يقاتل الباغية؛ حتى ترجع إلى الدين، فقاتلها من باب الجهاد، وإعانة المظلوم المبغي عليه.

أما إذا وقع بغى ابتداء بغير قتال؛ مثل أخذ مال، أو مثل رئاسة بظلم؛ فلم يأذن الله في اقتتال طائفتين من المؤمنين على مجرد ذلك؛ لأن الفساد في الاقتتال في مجرد رئاسة أو أخذ مال فيه نوع ظلم.

فلهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتال الأئمة -إذا كان فيهم ظلم-؛ لأن قتالهم فيه فساد أعظم من فساد ظلمهم.

وعلى هذا؛ فما ورد في «صحيح البخاري» من حديث أم سلمة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك؛ ليس هو مخالفا لما تواتر عنه من أنه أمر بالإمساك عن القتال في الفتنة، وأنه جعل القاعد فيها خيرا من القائم، والقائم خيرا من الماشي، والماشي خيرا من الساعي([9])؛ وقال: «يوشك أن يكون خيرَ مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»([10])، وأمر فيها بأن يلحق الإنسان بإبله وبقره وغنمه([11])؛ لأن وصفه تلك الطائفة بالبغي هو كما وصف به من وصف من الولاة بالأثرة والظلم؛ كقوله: «ستلقون بعدي أَثَرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»([12])، وقوله: «ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها»، قالوا: «فما تأمرنا يا رسول الله؟»، قال: «أدُّوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم»([13])، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحاح.

فأمر -مع ذكره لظلمهم- بالصبر، وإعطاء حقوقهم، وطلب المظلوم حقه من الله، ولم يأذن للمظلوم المبغي عليه بقتال الباغي -في مثل هذه الصور، التي يكون القتال فيها فتنة- كما أذن في دفع الصائل بالقتال، حيث قال: «من قُتل دون ماله؛ فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه؛ فهو شهيد»([14])؛ فإن قتال اللصوص ليس قتال فتنة؛ إذ الناس كلهم أعوان على ذلك، فليس فيه ضرر عام على غير الظالم؛ بخلاف قتال ولاة الأمور؛ فإن فيه فتنة وشرا عاما أعظم من ظلمهم؛ فالمشروع فيه الصبر.

وإذا وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- طائفة بأنها باغية -سواء كان ذلك بتأويل أو بغير تأويل-؛ لم يكن مجرد ذلك موجبا لقتالها، ولا مبيحا لذلك؛ إذ كان قتال فتنة.

فتدبر هذا؛ فإنه موضع عظيم يظهر فيه الجمع بين النصوص؛ ولأنه الموضع الذي اختلف فيه اجتهاد علماء المؤمنين -قديما وحديثا-: حيث رأى قوم قتال هؤلاء مع من هو أولى بالحق منهم، ورأى آخرون ترك القتال -إذا كان القتال فيه من الشر أعظم من ترك القتال؛ كما كان الواقع-؛ فإن أولئك كانوا لا يبدءون البغاة بقتال حتى يجعلوهم صائلين عليهم، وإنما يكون ذنبهم ترك واجب؛ مثل: الامتناع من طاعة معين، والدخول في الجماعة؛ فهذه الفرقة إذا كانت باغية، وفي قتالهم من الشر -كما وقع- أعظم من مجرد الاقتصار على ذلك؛ كان القتال فتنة، وكان تركه هو المشروع؛ وإن كان المقاتل أولى بالحق، وهو مجتهد» اهـ([15]).

* قلت:

فالفرق العملي بين الطائفتين: أن الخوارج مأمور بقتالهم -ابتداء-، فقتالهم -وكذا قتال اللصوص والمحاربين- مشروع؛ وأما البغاة؛ فلا يقاتَلون إلا بعد استصلاحهم وخشية كَلَبِهم، وقتالهم -حينئذ- مشروع، وأما قبله؛ فممنوع، وهو من قتال الفتنة المأمور بالقعود عنه -وكذا القتال على الملك ونحوه-.

فمن فهم ذلك -في ضوء ما استدل به شيخ الإسلام-، وفهم ما تقدم ذكره من حقيقة البغاة؛ عرف أنه يدخل فيهم موضع النزاع -من الخارجين في المظاهرات وأخواتها-؛ فإنهم لا يكفرون المسلمين، ولا يستحلون دماءهم، وإرادتهم خلعَ الإمام إنما هي بداعي الظلم، أو سوء الإدارة، أو نحو ذلك -وهو معنى التأويل السائغ-، وأعدادهم كبيرة، لا تجري في دفعها مجرى الرجل أو الرجلين، ولهم -غالبا- رأس يتكلم باسمهم.

وعليه؛ فلا يجوز البدار بقتالهم؛ بل يجب استصلاحهم، ولو أمر الإمام بقتالهم قبل ذلك؛ فلا طاعة له، والقتال -حينئذ- قتال فتنة، يجب تركه -بموجَب النص والإجماع-، ولا أَظْهَرَ في ذلك من شأن عليٍّ مع معاوية -رضي الله عنهما-.

وفي ضوء هذا: تُفهم الأحاديث الآمرة بقتال الخارجين عن الطاعة والمفارقين للجماعة، فليس المراد بها الابتداء بالقتال -إذا كان الخارج على صفة البغاة-، وإنما المراد: ما بعد استصلاحه -إذا لم يندفع شره إلا بالقتال-.

وبهذا يُعلم القول فيمن ثار على «مبارك» من قبل، ومن ثار على «مرسي» مؤخرا، ومن يثور له الآن!! فالجميع على سمت البغاة، وقد عرفتَ حكمهم([16]).

ويجب التنبيه -أخيرا- على أن قتال الخوارج والبغاة إنما هو للإمام؛ لما ذكرنا في حقهما من المنعة والكثرة، فلو تصدى عامة الناس لقتالهم؛ لعظمت البلية، واشتدت الرزية، في الصورة التي يقال لها: «الحرب الأهلية» -عافانا الله وجميع المسلمين منها-؛ ولأن القتال المذكور من جملة العقوبات الشرعية، التي لا يتولاها إلا إمام المسلمين؛ كقتال الطوائف الممتنعة عن بعض الأحكام الواجبة.

وللحديث بقية -إن شاء الله-، والله المستعان.

كتبه

أبو حازم القاهري السلفي

السبت 4/رمضان/1434



([1]) رواه البخاري (3344، ومواضع)، ومسلم (1064) -واللفظ له-، عن أبي سعيد -رضي الله عنه-.

([2]) حرف من الحديث السابق.

([3]) هذا الحرف لأبي داود وغيره، من حديث عليّ -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في «ظلال الجنة» (917).

([4]) رواه البخاري (2704، ومواضع) من حديث أبي بَكْرَة -رضي الله عنه-.

([5]) الحجرات: 9.

([6]) حرف من حديث أبي سعيد السابق تخريجه.

([7]) «مجموع الفتاوى» (35/53-57).

([8]) الحديث أخرجه البخاري (684، ومواضع)، ومسلم (421)، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-.

([9]) الحديث أخرجه البخاري (3601، 7081، 7082)، ومسلم (2886)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.

([10]) رواه البخاري (19، ومواضع) عن أبي سعيد -رضي الله عنه-.

([11]) الحديث أخرجه مسلم (2887) عن أبي بَكْرَة -رضي الله عنه-.

([12]) رواه البخاري (2376، ومواضع)، ومسلم (1059)، من حديث أنس -رضي الله عنه-.

([13]) رواه البخاري (3603، 7052)، ومسلم (1843)، من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.

([14]) رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم؛ من حديث سعيد بن زيد -رضي الله عنه-، وصححه الألباني في «الإرواء» (3/164).

([15]) «الاستقامة» (1/32-37).

([16]) إلا أن الفريق الأخير -أنصار «مرسي»- قد ينتقل إلى خانة الخوارج؛ فإنهم بدءوا يلوون ألسنتهم بتكفير الجيش، والدعوة إلى «الجهاد»!! ولكن هذا الأمر لم يصل إلى المستوى الظاهر، الذي نرتب عليه الأحكام، والقوم -حتى الآن- يتمسكون بالسلمية، ولا يسلُّون السيف على الأمة؛ فأحكامهم -إذن- لا تزال في دائرة البغاة.

لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت