بصائر
في الفتن الأخيرة
(الحلقة الثانية)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فلا يزال حديثنا موصولا عن الفتن الأخيرة، وموضوع هذا المقال: التنديد بالمخالفين الضُّلَّال، وإظهار جهلهم وتناقضهم في الثورتين المشئومتين.
وذلك أنهم فرحوا بالثورة الأولى، ومجَّدوها -وأهلَها-، وادَّعوا -كذبا على الله- أنها من دين الله، وحشدوا لذلك من الشبهات ما حصل تتبُّعه ونقضه في غير هذا الموضع -ولله الحمد([1])-.
ثم ها هم أولاء ينكرون الثورة الثانية! ويقولون: هي خروج محرم على الحاكم!! ويذمون أهلها -وهم عينهم أهل الثورة الأولى-!!!
ومهما زعموا من الفوارق بين الثورتين؛ فما التفريق بينهما بمُسْتَطَاع، والتناقض لهم لازم لا محيص عنه.
فإنهم إن قالوا: كان «مبارك» كافرا.
قلنا: ما من سبب تكفرونه به إلا وهو موجود في صاحبكم: فإن كفرتموه بالقوانين الوضعية؛ فقد حكم بها صاحبكم! وإن كفرتموه ببعض الألفاظ الكفرية؛ فكذلك قد قال صاحبكم([2])! وإن كفرتموه بإقرار المعاصي العامة -كالربا، والزنا، والخمر، ونحو ذلك-؛ فقد أقرها صاحبكم! وإن كفرتموه ببعض المواد «الدستورية»؛ فقد أتى بمثلها صاحبكم! إلا أن يكون الفارق -عندكم- (!): أن صاحبكم يحفظ شيئا من كتاب الله، وقد «وعد» (!) بتطبيق الشريعة([3])، ولم يتعقبكم بالسَّجن والتشريد!! ولا تعليق!!
وإن قالوا: لم يتأمَّر «مبارك» بطريقة شرعية.
قلنا: وكذلك الانتخابات التي تأمَّر بها صاحبكم([4])، وكثير منكم يعترفون بذلك([5])!! و«مبارك» تولَّى حكمه -في البداية- بعد مقتل «السادات»؛ بوصفه نائبا له، وهذا لا إشكال فيه -عند الجميع-، وإنما تَرْمُون إلى ما كان يحدث في عهده من تزوير الانتخابات، ولم يكن عليه إجراؤها -أصلا-؛ فإن المشروع الذي جرى عليه عمل المسلمين: أن الحاكم يبقى في حكمه -مدة حياته-، وتحديد فترة الحكم: بدعة غربية ديمقراطية.
وإن قالوا: قد كان نظام «مبارك» ظالما فاسدا.
قلنا: وكذلك نظام صاحبكم قد ظهر فشله لِأَبْلَدِ العامة؛ والفشل، وسوء الإدارة، وأَخْوَنة البلاد، والتمكين لأعداء الله الرافضة: كل ذلك داخل في حد الظلم والفساد، المناقضَيْن لمقصود الولاية وثمرتها.
وإن قالوا: قد سقط «مبارك» بإجماع شعبي.
قلنا: كذبتم! بل كان له أنصار كُثُر -وهذا معلوم-، والذين ثاروا على صاحبكم لا يقلون عن الذين ثاروا على «مبارك»؛ بل هم عينهم -كما تقدمت الإشارة إليه-!! فالظروف واحدة، والثورة هي هي.
أَلَا قد ظهر تناقض المخالفين، وانكشف تلوُّنهم وتحكُّمهم؛ فأَوْلَى بهم: أن يلزموا بيوتهم، ويكفُّوا أيديهم وألسنتهم، ويبكوا الدم على خطيئتهم، وجنايتهم على الدين، وسوء أثرهم على المسلمين.
وأما أهل السنة؛ فأَنْعِمْ بهم وأَكْرِمْ من طائفة ثابتة راسخة، لا تتلون ولا تتنقل؛ وكيف لا، وهم أهل الحق -حقا-، وأتباع الهدى -صدقا-، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾.
كان «مبارك» -عندنا- حاكما شرعيا، وكذلك كان «مرسي».
وكنا نعتذر لـ«مبارك»، ونقول: لم تقم عليه الحجة؛ وكذلك شأن «مرسي».
وأنكرنا خروج الناس على «مبارك»، وندَّدنا بالمظاهرات وأخواتها؛ وكذلك فعلنا بشأن «مرسي».
وقلنا: إن الخارجين على «مبارك» لهم حكم البغاة، لا تُستباح دماؤهم -ابتداء-، ولا طاعة لـ«مبارك» إن أمر بقتلهم؛ وكذلك قلنا في الخارجين على «مرسي»، وفي الخارجين على من جاء بعده -أيضا-.
ولما سقط «مبارك»؛ لم ندَّع فيه الإمامة، ولم نعامله بأحكامها، ولم نطالب بإعادته؛ وكذلك شأننا مع «مرسي» -كما سيأتي تفصيله إن شاء الله-.
فأي الفريقين أهدى سبيلا، وأقوم قيلا؟!
إنها عبرة أخرى، يعرف بها العامي البليد أهل الحق، ويميزهم عن أهل الباطل؛ فإن التناقض من أظهر علامات الآخِرين، والثبات من أوضح سمات الأولين؛ وهذا أمر يُدرك بمجرد الفطرة السوية، لا يحتاج إلى علم بأحكام الشريعة.
وبالرغم من ذلك: لا يزال من عباد الله من هو في حيرته يتخبط، وفي ريبه يتردد، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾.
وللحديث بقية -إن شاء الله-، والله المستعان.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 3/رمضان/1434
([1]) راجع كتاب «النقض على ممدوح بن جابر» لراقمه -عفا الله عنه-.
([2]) هو صاحب العبارة المشهورة: «الخلاف بيننا وبين النصارى ليس دينيا، وإنما هو خلاف ديناميكي»!!! ولست أدري ما شأن «الديناميكا» و«الاستاتيكا» بهذا الأمر!!!
([3]) و«دستوره» (!) خير شاهد على تحقيقه لهذا الوعد!!
([4]) وتفصيل ذلك: في «النقض على القائلين بجواز العمل السياسي المعاصر» لراقمه -عفا الله عنه-؛ يسَّر الله إخراجه.
|