كلمات في الوعظ
(5)
انتقام الحليم
الحمد لله البَرِّ الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله العليُّ العظيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الكريم؛ عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم.
يقال في الحكمة السائرة: «اتق شر الحليم إذا غضب».
فإن الإنسان إذا جاهد نفسه على تحمل شيء يخالف طبيعتها؛ فذلك أمر غاية في العسر والمشقة، يستدعي صبرا طويلا، ومكابدة قوية؛ حتى إذا نفد ذلك، كان رد فعل الإنسان شديدا، لا يكاد يقوم له شيء.
فكذلك الحليم: يحلم عمن جهل عليه، ويتحمل أذاه وإساءته، مجاهدا في ذلك نفسه، المجبولة على محبة الانتصار والعجلة بالعقوبة؛ حتى إذا نفد صبره واشتد غضبه، كان انتقامه يفوق انتقام الحاد العجول؛ لما فيه من القوة المكبوتة، فكان انتقاما هائلا عظيما، لا يكاد يقوم له شيء.
هكذا شأن الحليم من البشر، ولله المثل الأعلى.
فانظر -رحمك الله- إلى نعم الله تغمر العباد، وآثار رحمته تملأ البلاد؛ فما كان جواب العباد إلا مقابلة الإحسان بالإساءة، ومواجهة الكرم والحِلْم باللؤم والدناءة، يتفننون في معاصي الله -صغيرها وكبيرها-، ويبارزون ربهم بها -من غير حياء-، والله -جل جلاله- يحلم عنهم، ولا يبادر بعقوبتهم -مع قدرته عليهم-، ويمهلهم ليراجعوا عقولهم، ويتوبوا من غَيِّهم؛ بل يستمر في إحسانه إليهم بصنوف الآلاء، ويوفيهم رزقهم غير منقوص.
فما أعظم الله! وما أحلم الله! وما أكرم الله!
ثم يأتي يوم غضب الحليم وانتقامه!!
يوم القيامة! يوم الحسرة والندامة! يوم الفزع الأكبر! يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت! وتضع كل ذات حمل حملها! وترى الناس سكارى -وما هم بسكارى-؛ ولكن عذاب الله شديد!
اليوم الذي يقول فيه المرسلون: «إن الله غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قط، ولن يغضب مثله قط».
اليوم الذي يتجلى فيه غضب الله -بعد طول حلمه-: فتنشق السماء، وتتزلزل الأرض، وتتفجر البحار، وتنسف الجبال، وتبعثر القبور، وتدنو الشمس من الرؤوس، ويغشى الخلقَ ما يغشاهم من الكرب، ويؤتى بجنهم، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها -بلظاها ولهيبها، وتغيُّظها وزفيرها-، والخلق يتأهبون للجواز على الصراط فوقها -ما بين ناج ومخدوش ومكدوس-.
إنه يوم غضب الحليم وانتقامه!
فاعمل لهذا اليوم العسير، واخْشَ انتقام العلي الكبير، ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 7/رجب/1434
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا |