كلمات في الوعظ
(6)
الثقلان وعلم الغيب
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فإن هناك أوجُهًا عديدة للشبه بين الثَّقَلَيْن -الإنس والجن-، منها: أنهما لا يعلمان الغيب، وهذا هو ما اقتضته حكمة الله الباهرة، وإرادته النافذة، بما يلائم قضية التكليف والعبادة، التي لأجلها خُلق الثقلان.
وذلك أن من علم عاقبته ومصيره؛ لم يتكلف عملا، ولم يأت عبادة؛ فاقتضت الحكمة أن يُغيَّب عن الثقلين مصيرُهم، حتى يقيموا جادة العمل والقربة.
واستحضر هذا جليًّا في خبر الجن مع نبي الله سليمان -عليه السلام-؛ إذ قال ربنا -عز وجل-: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾.
فانظر كيف كانت الجن تعمل كادحةً لسليمان -عليه السلام-، وقد كانوا يدَّعون علم الغيب، فأكذبهم الله -سبحانه-، وقبض نبيَّه الكريم -عليه السلام- وهم ينظرون إليه، فاستمروا في كدحهم يظنون أنه لا يزال حيا، حتى أكلت دابة الأرض عصاه، فخرَّ على الأرض، وتبيَّنت الجن وفاته.
فتأمل -رحمك الله- في شأن الجن: كيف أدَّى جهلهم بالغيب إلى مُضِيِّهم في عملهم، خوفا من سليمان -عليه السلام- أن يعاقبهم، ولو كانوا يعلمون الغيب، فتبيَّنوا موته؛ ما تكلَّفوا من العمل شيئا.
وهكذا الإنس، لا يعلمون الغيب، ولا يعلمون حالهم عند ربهم: أمقبولون هم أم محرومون، أمقرَّبون أم مطرودون، أأشقياء أم سعداء؛ وهذا يدفعهم إلى العمل والاجتهاد؛ خوفا من ربهم، وحذرا من سوء الخاتمة؛ ولو علموا الغيب، فعلم الشقي شقاوته، وعلم السعيد سعادته؛ لتركوا العمل، وأضاعوا التكليف، وعطَّلوا الأمر والنهي، وخرجوا عما لأجله خُلقوا.
وقد بيَّن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- هذا الأمر -بجلاء-، عندما خوطب في ترك العمل، والاتِّكال على ما سبق في علم الله، وما جفَّ به القلم، وما سُطِّر في اللوح؛ فقال -صلى الله عليه وسلم- قَوْلَته المعروفة: «اعملوا؛ فكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له: أما أهل السعادة؛ فيُيَسَّرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة؛ فيُيَسَّرون لعمل الشقاوة»، ثم تلا قول ربه -سبحانه-: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾.
فالعملَ العملَ! وإياكم والكسلَ!
والبَدارَ البَدارَ! وإلا؛ فالبوارَ البوارَ!
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 28/ربيع الثاني/1435
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
|