تحقيق الاختلاف في أحداث مصر
ونصيحة إلى السعاة بالفتنة والوقيعة
الحمد لله حمدًا كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، خلق كل شيء فقدّره تقديرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله لنا بشيرًا ونذيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
فلا نزال نعيش في أعقاب ما مر بنا من الفتن، ولا تزال الأحداث تتوالى -ما بين خير وشر-، ونسأل الله تعالى أن يكشف الغمّة، ويرفع الفتنة، ويأذن لنا بأمن واستقرار، نعيش فيه عابدين لله -سبحانه وتعالى-، محقِّقين للغاية التي لأجلها خُلقنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وقد تابعت ما جرى عبر الأسبوع الماضي، وما وقع من التصريحات والمعالجات من قِبل المشايخ -في داخل مصر وخارجها- لهذا الواقع الذي حدث، ورأيت أن هناك اختلافًا ظاهرًا في معالجة هذه الأحداث والحكم عليها، فأحببتُ أن أتعرّض له؛ لأنه قد سبّب فتنة وإشكالاً عند كثير من الإخوة، مع التواصلات والمراسلات التي أتتني، وتطلب كشف الأمر وبيان وجهه.
وأخشى أن تتسبب معالجة هذه المسألة في إثارة فتنة جديدة بين السلفيين، يكثر فيها القدح والهمز واللمز والتجريح والإسقاط؛ كما هو معهود -للأسف- في كثير من الفتن، بفعل أهلها وأربابها من صغار الطلبة، الذين لا حكمة لهم ولا عقل، ولا دراية ولا علم.
فأحببتُ أن أتعرّض لهذه المسألة -في مقامي هذا-، كتوطئة لما أعلنتُ عنه من اللقاء المفتوح؛ ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لما فيه الخير، وأن يرزقنا الهداية والصواب والسداد.
لقد رأيتُ أن من تصدى لمعالجة هذه المسألة من المشايخ قد اختلفت أقوالهم على قولين رئيسيين:
أحدهما: قول من يفتي بقتال الخوارج، وينزّل الأحاديث التي وردت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قتالهم، ويفتي بالعمل بها وتطبيقها مع جماعة «الإخوان»، الذين هم أصل الفتن التي عشناها ونعيشها، وهم الأساس لهذه التظاهرات التي وقعت، والفتن التي حدثت.
والقول الثاني: قول من يقول: إن ما نعيشه الآن فتنة، يجب اعتزالها والبعد عنها، ويجب الكف عن الخوض فيها -من الأساس-، فلا يُتكلم فيها بشيء -أصلاً-.
فهذان قولان ظهرا للمشايخ في هذه الفترة، وفي البداية: سأنبِّه على مأخذ كل قول منهما، قبل أن نتكلم على الصحيح، الذي تجتمع عليه الأقوال -ن شاء الله تعالى-.
فأما القول الأول؛ فمأخذه مراعاة حال «الإخوان»، فإن «الإخوان» -كما هو معلوم لدى من خبَرهم- خوارج، يعتقدون التكفير والخروج والإفساد في الأرض، ومعلوم أن الذين قعدوا في تلك المظاهرات والاعتصامات كانت شعاراتهم الأساسية -التي تظهر على المنصّات ويُدعى لأجلها- شعارات للتكفير والجهاد ونحو ذلك.
فالذين قالوا بهذا القول نظروا إلى حال الخوارج، الذين هم الأصل والأساس لهذه الفتن التي وقعت، ونظروا إلى ما يُعلن في الاعتصامات -من الناحية الرسمية الظاهرة- من الأقوال التي تدعو إلى التكفير والجهاد ونحو ذلك.
وأما القول الثاني؛ فمأخذه أن الأمر قد يكون مختلطًا عند من قال به، فتصوروا أن في المسألة إشكالًا واختلاطًا، يسوغ معه إطلاق القول بالفتنة، وأنها تُعتزل ولا يُتعرَّض لها.
ولعلهم اعتبروا بحال القتال -من الناحية السياسية-، وأنه قتال لأجل السلطة والملك والدنيا، ومعلوم أن القتال الذي يكون على هذا الأساس هو قتال فتنة يجب اعتزاله.
ولعلهم نظروا أيضًا إلى جانب كبير من الذين شاركوا في تلك الاعتصامات والتظاهرات، الذين لا يصدق عليهم مسمّى التكفير، وإنما خرجوا لرفع ظلم يرونه، أو لمطالبة بأشياء يرونها، فليس عندهم تكفير ولا خروج ولا إفساد في الأرض، وإنما هم على الشاكلة المذكورة، وفيهم الكثير من المخدوعين، الذين يخرجون نصرة للدين، ودفاعًا عن الإسلام، إلى غير ذلك.
وقد يكون من جملة مآخذهم أيضًا: أنهم نظروا إلى أنهم لو أفتوا بالقتال؛ لأدى ذلك إلى أمور لا تُحمد، من ناحية المزيد من سفك الدماء، وأن هذا يُعد تبريرًا للسلطة في أن تفعل ما تشاء، وتتوسع في هذه المسألة الخطيرة.
فهذه كلها مآخذ يمكن سحب هذا القول عليها.
وبما تقدم تعرف أن المسألة قريبة، وأنه لا ينبغي التشنيع على أحد الفريقين، وهذا أمر طبيعي ومتوقَّع جدًا في الفتن.
فعند نزول الفتن والنوازل: تتفاوت الأنظار، وتختلف الآراء؛ حتى عند العلماء الكبار المجتهدين، الذين هم الأساس في الإفتاء في النوازل.
واعتبروا -مثلا- بفتنة اللفظ في القرآن، فمعلوم أن أهل السنة يقولون إن كلام الله تعالى غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ولما نشأت الجهمية وفروعها من الذين خاضوا في مسألة اللفظ والوقف؛ تصدى لهم أهل السنة، ومنعوا الكلام في المسألة أصلاً، وكان متقلد ذلك: الإمام أحمد -رحمة الله عليه-، فنهى عن الخوض في هذه المسألة أصلا، وأنه لا يُتكلم باللفظ، ولا يقال بأنه مخلوق أو ليس بمخلوق؛ حسمًا للمادة وسدًا للذريعة؛ لئلا يتسلط المبتدعة على معتقد أهل السنة، ولئلا ينشروا شيئًا من ضلالاتهم وبدعهم -تحت ستار اللفظ ونحوه-.
ومع ذلك: لما انقرضت هذه المرحلة؛ وقعت الفتنة بين أهل السنة أنفسهم؛ لأن هذه المسألة وقعت الحاجة إلى تحريرها، فصارت طائفة من أهل السنة تطلق القول بأن اللفظ غير مخلوق، وصارت طائفة تطلق القول بأن اللفظ مخلوق، والفريقان -على الحقيقة- متفقان غير مختلفَيْن.
فالذي قال: «اللفظ بالقرآن غير مخلوق» إنما عنى الملفوظ به -الذي هو القرآن-، ولهذا يقول أهل السنة في عقائدهم: «القرآن كلام الله غير مخلوق -بجميع جهاته-»؛ فقولهم: «بجميع جهاته» يعني: إذا كتبته في الصحف، وإذا تلفظت به بالألسنة، وإذا وعيته في الصدور، وإذا علمته للأطفال؛ فهو كلام الله تعالى، ويبقى غير مخلوق.
والذي قال: «اللفظ مخلوق» إنما عنى فعل العبد -الذي هو التلفظ نفسه-، وأفعال العباد مخلوقة -بإجماع أهل السنة كما هو معلوم-.
ولهذا؛ فصّل علماء أهل السنة -من بعد-، فقالوا: اللفظ -الذي هو فعل العبد- مخلوق، والملفوظ به -الذي هو كلام الرب- ليس بمخلوق.
مثال آخر: عندما وقعت نازلة حرب الخليج؛ اتفق علماء المملكة -رحمة الله عليهم، وحفظ الله من كان حيا منهم- على جواز الاستعانة بالكفار في تلك الحرب، وخالفهم الإمام الألباني -رحمة الله عليه-، فقال بعدم الجواز؛ وهي مسألة نازلة، والذي تصدوا للإفتاء فيها إنما هم علماء مجتهدون.
مثال آخر: مسألة القوانين الوضعية: لما وقعت هذه النازلة؛ قال غير واحد من العلماء الأكابر: إن تحكيم القوانين الوضعية كفر أكبر، فلما اتضحت الصورة أكثر، وتبيَّن أنها تقبل التفصيل -كشأن الحكم بغير ما أنزل الله في الأصل-؛ فمنهم من رجع -كالشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى-، واستقر الأمر على التفصيل في هذه القوانين الوضعية -بحسب الجحود والاستحلال ونحو ذلك-.
إذن؛ فتفاوت الآراء في الفتن أمر طبيعي وعادي، لا ينبغي أن يتلقَّى بهذا التشنج وهذه العصبية، يتلقى الإخوة القول من هاهنا فيعقدون عليه الولاء والبراء، ويتلقون القول من هاهنا فيعقدون عليه الولاء والبراء، من غير تمحيص لحقيقة الخلاف: هل هو مما يسوغ، أم مما لا يسوغ؟
لا بد أن ننظر في رتبة الخلاف، وفي حقيقة الأقوال ومآخذها: هل هي قريبة أم لا؟ وهل الخلاف فيها واسع أم لا؟ لأن هذا هو الذي يترتب عليه الولاء والبراء.
فأنا ذكرتُ لكم الآن القولين بمأخذيهما، والصحيح -في نفس الأمر إن شاء الله تعالى- أنهما غير مختلفَيْن،
وهذا يعرَف من خلال التفصيل الذي ذكرناه مستفيضًا في الجمعة الماضية -بحمد الله تعالى-.
لقد قلنا: هؤلاء المعتصمون -في أصلهم- خليط، منهم الخوارج ومنهم البغاة؛ نعم لا شك أن الذي يظهر على المنصات تكفير صريح، ولا شك أن الرءوس يعتبرون خوارج؛ لكن لا ينبغي أن ننسى أن هناك قطاعا عريضا من الناس لا يصدق عليهم مسمى التكفير، وإنما خرجوا للأغراض التي ذكرتها لكم.
فالأمر مختلط، والتمييز متعذر؛ فكيف نتعامل إذن؟
قلنا: حتى نحتاط للدماء؛ سنعامل الجميع معاملة البغاة، ومعاملة البغاة -كما ذكرنا في كتاب الله تعالى، وإجماع العلماء- أنه لا بد من البدء باستصلاحهم، فإن سعينا في الإصلاح، ووقع الإصرار والعناد؛ فعندئذ يُشرع القتال -بالنص والإجماع-؛ ولكن هذا القتال له آداب وأحكام وضوابط -كما ذكرناه مفصلاً-.
بهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة، ولو أن هذا التفصيل عُرض على أصحاب القولين؛ لاتفقوا عليه -إن شاء الله تعالى-.
والذي قال بقتال الخوارج: قوله -في نفسه- صحيح؛ أليس الخوارج مأمورا بقتالهم-بالنص والإجماع-؟ أليس في هؤلاء المتظاهرين خوارج كُثُر، يكفرون، ويدعون إلى الجهاد؟ وقد رأى الجميع ما صنعوا برجال الأمن، وبغيرهم من عامة الناس.
فأصحاب القول الأول: قولُهم على هذا القسم يتنزل، وهذا لا إشكال فيه، ولا يقول عاقل -فضلاً عن عالم- إن هؤلاء الذين يهجمون على الأقسام، ويستحلون الدماء، ويعيثون بالفساد في الأرض: لا يجوز قتالهم!!
والظن بأصحاب هذا القول -وإن لم يتطرقوا لجانب البغاة-: أنهم لو عُرض عليهم هذا الجانب؛ لأقروا به، فلو قيل لهم: هناك أناس لا يعتقدون التكفير ولا الخروج؛ ما تقولون فيهم؟ الظن بهم: أنهم لا بد أن يقولوا: إنهم لا تُستحل دماؤهم.
فالقوم في فتاواهم نصوا على الخوارج، وليس في كلامهم أصلاً تعرُّض لسواهم.
والكلام هنا يتركز على فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان -حفظه الله تعالى-، وأنا استمعتُ إلى طرف من أقواله في هذه المسألة، فوجدت له كلاما صريحا يفرّق فيه بين الخوارج والبغاة واللصوص، وإنما اغتر من يشنع عليه بكلامه الأول، وهو في مقطع بعنوان: «التكفيريون والجيش»، وهو واضح من اسمه، فالرجل يتكلم عن التكفيريين الخوارج، لا يتكلم عن عامة الناس؛ فحتى لو لم يكن له إلا هذا الكلام، لوجب أن يُحمل على هذا المحمل؛ فكيف وله كلام آخر صريح، يفرق فيه بين الخوارج والبغاة واللصوص؟!
وأما أصحاب القول الثاني؛ فيتنزل كلامهم على الحالات التي ذكرتها لكم:
فقد تكون المسألة عندهم غير واضحة أصلا، والصورة التي وقعت ولا يرتاب فيها أحد: أن قوما اجتمعوا واعتصموا في مكان، وهم -في اعتصامهم هذا- جمعوا بين رأيين: رأي يكفِّر، ويدعو إلى الخروج والإفساد في الأرض، ورأي لا يدعو إلى ذلك؛ وهم -مع ذلك- حملوا السلاح -وهذا أمر معروف-، ووضعوا لجانا للتأمين، وهم -مع ذلك- يعطلون المصالح، ويسيِّرون المسيرات التي تقطع الطرق، وتعتدي على الممتلكات الخاصة والعامة، وهم -مع ذلك- قد استُصلحوا، وعُرضت عليهم العودة والأوبة إلى المجتمع، وحصل العناد والإيذاء؛ هذه هي صورة الواقع.
فلعل الذي بلغ هؤلاء المشايخ: أنهم مجرد عوام، ثاروا على السلطة؛ دفاعًا عن الإسلام؛ فصار الأمر -في حقهم- فتنة، ولا شك أن الفتنة تُعتزل.
وقد يكون حصل للمشايخ شيء من مزيد الاحتياط، فالأمر -بالنسبة إليهم- فيه نظر: هل وقع الإصلاح بالطريقة المطلوبة الكافية، أم لا يزال الأمر يحتاج إلى المزيد من الإصلاح والسعي؟
وقد يكون حصل عندهم نوع من التورع في الفتوى، كأنهم قالوا: لو أفتينا بالقتال؛ فإن هذا سيؤدي إلى كذا وكذا، فنعتزل إذن، ولا نخوض في المسألة أصلا.
فأصحاب القول الثاني يمكن أن يصوَّر مأخذهم على شيء من هذه المآخذ، وبالتالي فلا حرج عليهم -إن شاء الله تعالى-، ولو عُرض عليهم شأن الخوارج، والصائلين على الممتلكات الخاصة والعامة ودماء المسلمين؛ فإنهم لا يترددون.
فالحاصل: أن هناك إطلاقًا من جهة، وهناك إطلاقًا من جهة أخرى، وهذا الإطلاق -في نفسه- سائغ، وذاك الإطلاق -في نفسه-سائغ، والفريقان -في الحقيقة- متفقان غير مختلفَيْن.
وحتى نفهم المسألة؛ لا بد أن نفهم أصلا من أعظم أصولها، وهو: معنى «الفتنة»، ومعنى «قتال الفتنة».
لا بد أن يحرَّر هذا أولا؛ لأن كثيرًا من المتكلمين في العلم يقعون في خطر كبير، عندما يعدُّون كل قتال بين المسلمين قتال فتنة، ويأتون -في هذا المقام- بالآثار التي وردت عن السلف، والأقوال التي وردت عن العلماء، وأن من أصول السنة: اعتزال الفتن ومجانبتها والقعود في البيوت.
ولا شك أن هذا الأمر -في نفسه- صحيح؛ ولكن لا بد أن نحرر معنى «الفتنة» ومعنى «قتال الفتنة»، وهناك مقطع موجود على الموقع -لمن أراده-، تكلمنا فيه عن معنى الفتنة، وإطلاقاتها في اللغة والشرع.
اعلموا -بارك الله فيكم- أن الفتنة تطلق في موطنين رئيسيين:
تطلق في موطن يُطلب فيه الكف والاعتزال، وتطلق في موطن لا يُطلب فيه الكف ولا الاعتزال.
نبتدئ بالموطن الثاني، مثاله: قول الله تعالى: ﴿إنما أموالكم وأولادكم فتنة﴾، فهل المراد اعتزال الأموال والأولاد؟! كلا، وإنما الفتنة -في أصل معناها اللغوي- هي الابتلاء والامتحان، فالمراد: أنك -في ملابستك لمالك وولدك- مبتلى، ينظر الله تعالى في شأنك: أتتبع الحق وتسير عليه، أم لا؟
فالفتنة تُطلق في المواطن التي لا يُطلب فيها الكف ولا الاعتزال، ويكون المقصود بها: مراعاة جانب الابتلاء والامتحان -من الناحية الشرعية-؛ حتى يستقيم المسلم على الجادة، وينظر الله تعالى في صبره وإيمانه، وتمسكه بأحكام الشرع.
وأما الفتنة التي تطلق في مقام يطلب فيه الكف والاعتزال؛ فهذا يكون في أمرين:
الأمر الأول: الاشتباه والاختلاط.
والأمر الثاني: مخالفة الشرع.
فأما الأول؛ فلو أن أمرا اشتبه عليك، ولم يتضح لك فيه الحق ولا الباطل؛ فهو في حقك فتنة، يجب عليك أن تبتعد عنه.
ومعنى الفتنة -في هذا المقام- قريب من معنى الشبهات، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ لدينه وعرضه»، فالشبهات -في قول طائفة من أهل العلم- هي الأمور المختلطة، التي لا يتبين فيها الحلال من الحرام، وهذا نص الحديث: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس».
وأما الأمر الثاني؛ فهو الذي يتبين فيه الباطل، وتتبين فيه المخالفة، فيُطلب فيه -أيضا- الكف والاعتزال؛ كما يقال مثلا: «فتنة النساء»، فالمطلوب منك أن تكف وتبتعد وتعتزل، والفتنة -في هذا المقام- يراد بها الصرف عن الحق والجادة، والإيقاع في المعاصي والأمور المنكرة.
فلا بد أن يتحرر عندنا هذا الأمر ابتداءً؛ وعليه ينبني النظر في قتال الفتنة.
قتال الفتنة الذي يُطلب اعتزاله هو أحد قتالين:
إما قتال يشتبه فيه الحق بالباطل، وإما قتال يتضح فيه الباطل.
ولهذا يجعل العلماء من قتال الفتن: قتال الخوارج للسلطان، مع أن هذا القتال قتالٌ غير جائز، فتسميته فتنة -في هذا المقام- إنما هي تسمية للشيء المحرم، الذي وضح فيه التحريم والمخالفة، ويسمى «قتال فتنة» حتى لا تشترك فيه أنت، ولا تعين عليه بأي نوع من الإعانة، وإن كان جانب الباطل فيه واضحا بيِّنا.
فبناء على هذا التأصيل؛ ليس من قتال الفتنة كلُّ قتال مشروع، يدخل في ذلك قتال الخوارج، وقتال البغاة، وقتال اللصوص، وقتال الطائفة الممتنعة عن شعيرة من الشعائر الظاهرة، إلى غير ذلك من الأنواع التي دل عليها النص وقررها العلماء.
وقد يكون نوع من أنواع هذا القتال فتنة -إذا لم تُستوف شروطه-، فقتال البغاة -مثلا- مشروع؛ ولكن له ضوابط وشروط، فإذا لم تُستوف الشروط ولا الضوابط؛ فقد دخل حينئذ في قتال الفتنة.
فلو أن طائفة من البغاة اجتمعوا على البغي والخروج على الإمام -بالصورة التي أوضحناها في الجمعة الماضية-، وفزع الإمام مباشرة إلى قتالهم -من غير استصلاح ولا دعوة ولا سعي للرشاد-؛ فالقتال عندئذ قتال فتنة، مع أنه -في الأصل- يدخل في القتال المشروع.
فإذا اتضحت لك هذه الأشياء؛ عرفت مدى الالتباس الذي يحيق بالمفتين في مثل هذا المقام، وبالتفصيل الذي ذكرناه في الجمعة الماضية تنحل جميع الإشكالات.
وبالمناسبة: فقد وقفت على كلام لشيخنا الوالد حسن بن عبد الوهاب -حفظه الله تعالى- يوافق ما ذكرته بالضبط، فقد تكلم -حفظه الله تعالى- أولا في سياق الإنكار على المهيِّجين، الذي يخدعون الناس باسم الإسلام والجهاد ونحو ذلك، وأنهم يتحملون مسئولية الدماء؛ ثم تطرق -حفظه الله- إلى السلطات، وطالبهم بتقليل الدماء -بحسب الإمكان-؛ وهو عين ما قلناه، وعين كلام العلماء.
نأتي الآن إلى النقطة الأخيرة، التي هي نقطة النظر إلى هذا الاختلاف، وكيفية معالجته.
وكما أوضحت لكم: فهذا اختلاف عادي ومتوقع جدا، والفريقان -في الحقيقة- غير مختلفين ولا متعارضين، والذين ذممتُهم -في الجمعة الماضية- وشدَّدتُ النكير عليهم: هم -بنص كلامي- أصحاب نظرية الشغور، الذين يقولون: الزمان الآن شاغر عن الإمام، ليس هناك إمام ولا حاكم أصلا!!
ولو أن الأمر كذلك؛ لكان القتال قتال فتنة؛ لأن من أنواع قتال الفتنة: القتال الذي يكون مع انعدام وجود الإمام، وإنما هما طائفتان متنازعتان متقاتلتان؛ فهذا من قتال الفتنة -باتفاق السلف-؛ لكن هل الوضع القائم الآن كذلك؟! وقد شرحنا هذا طويلا؛ لئلا نعيد الكلام مرة أخرى.
فالذين شددت عليهم النكير: هم أصحاب هذه النظرية؛ لأن قولهم مجانب للشرع والواقع معا، ويُطلب منهم أن يراجعوا عقلهم -قبل أن يراجعوا علمهم-؛ لأنهم لا يبصرون الواقع الذي نعيشه الآن.
والذين أفتوا من المشايخ بأن الأمر فتنة تعتزل: لا يقولون بانعدام الإمام؛ بل منهم من ينص في كلامه على أن هناك حاكما متغلبا، لا بد من لزوم جماعته؛ فإذا أتى أصحاب نظرية الشغور بمثل هذه الأقوال، وظنوا أنهم تفيدهم؛ فهذا من جهلهم وضلالهم؛ بل هي حجة عليهم.
فمن الطبيعي جدا: أن يأتي بعض المشايخ أو العلماء، فيقولوا بالاعتزال؛ ولكن الذي تنتظم به المسألة وتنحل به الإشكالات: هو ما ذكرناه -بحمد الله تعالى- في الجمعة الماضية؛ لأننا نسأل سؤالا واحدا -وبه ينتهي الأمر-:
الاعتصامات منكر أم لا؟! والمنكر يُزال أم لا؟!
هل هناك إشكال في ذلك؟!
ولما قامت الاعتصامات والمظاهرات في البلاد السعودية؛ ألم تفضها الحكومة السعودية -على مرأى ومسمع من جميع العلماء-؟!
فنحن نقول -بمنتهى البساطة-: هذه اعتصامات، والاعتصامات منكرة مخالفة للشرع، لاسيما إذا كان لها أثر سلبي على مصالح الناس وأمورهم، فهذا المنكر يزال، ويزال بأقل قدر ممكن من الخسائر؛ هل يخالف في هذا أحد؟!
فنحن نقول: هذا منكر يزال بآداب إزالة المنكر، وبالقواعد المنضبطة التي بينها العلماء، ولا يخالف في هذا أحد من الفريقين أصلا: لا الفريق الأول، ولا الفريق الثاني.
وإنما الشأن كله -والذي أحذر منه في مقامي هذا-: شأن الجهلة، الذين يتعاملون بالتشنجات والتعصبات، ويثيرون الفتن والوقيعة بين المشايخ.
ماذا ترى على المواقع الآن؟! «نصيحة الشيخ فلان للمهيجين»!!
وهل هذا الشيخ الذي أتيتَ بكلامه رمى أحدا بالتهييج؟!
إذا نظرتَ في كلام الشيخ نفسه؛ وجدتَه يتوجه بنصيحة عامة: الواجب كذا، والمنبغي كذا؛ فهل تطرق لأحد؟! وهل تعرض لشخص؟! وهل تكلم في أحد من المشايخ؟!
وإنما هذا صنيع أصحاب السوء والفتن، الذين يأتون -مثلا- إلى بعض المشايخ، فيقولون: «يا شيخ! ما تقولون فيمن قال كذا وكذا؟»، فيقول: «هذا كلام باطل»، فيأتي المستفتي فيسوِّق صنيعه هذا على أنه «ردُّ فلان على فلان»!! والشيخ الذي أفتى لم يرد على أحد أصلا، ولم يعرف أن هذا الكلام -الذي نُقل إليه- هو كلام فلان أو فلان بعينه.
فالذين أفتوا بقتال الخوارج لا يقال لهم: «مهيِّجة»، ولا: «سعاة في الدماء»، ولا: «خائضون في الفتن»؛ لما عرفناه من توجيه كلامهم، وما يَرِدُ عليهم يَرِدُ على الفريق الثاني؛ فلو أوردنا عليهم أنهم لم يتعرضوا للبغاة، وأطلقوا القول؛ فالفريق الثاني أطلق القول كذلك، ولم يتعرض للخوارج، والذين يستحلون الدماء ويعيثون في الأرض بالفساد؛ فلماذا يُحتج بقول الفريق الثاني، ويصيَّر ردا على الفريق الأول؟!
فيأتي صاحب الفتنة الجاهل، الذي لا حظ له من العلم ولا الإدراك، فيقول: «نصيحة الشيخ فلان للمهيجين، للساعين في الدماء، للخائضين في الفتن»!!
وأصحاب الفتن لا يسكتون، فيتلقفون هذا الكلام، ويطيرون إلى الشيخ الأول، فيقولون: «انظر يا شيخ! فلان يقول عنك: مهيج»!! والرجل لم يقل عنه شيئا!!
فيأتي الشيخ فيرد على الشيخ الأول!! ثم يصل الأمر إلى الأول، فيرد على الثاني!!
فتحصل الفتنة والوقيعة، ويحصل التجريح والتحذير؛ من لا شيء، من أمر محتمل!!
فهؤلاء الجهلة الرعاع، الذين لم يتعلموا شيئا من العلم، لم يقرءوا كتابا، ولم يحرروا مسألة، وإنما قصارى أمرهم: أن يكتبوا هذه التعليقات على الشبكات، التي لا تسمن ولا تغني من جوع؛ أفيتصدى أمثال هؤلاء للوقيعة بين المشايخ، وإثارة الفتن -على هذه الطريقة-؟!
فأنا الآن أحذر من هؤلاء جميعا، أيا كانت صفتهم وأيا كان شأنهم، وأوجِّه لهم نصيحة؛ عسى أن يرعووا ويعودوا إلى رشدهم، أقول لهم:
اتقوا الله في أنفسكم، وفي منهجكم، وفي شيوخكم، واعرفوا قدركم، ولا تثيروا الفتن، واشتغلوا بما ينفعكم، اشتغلوا بتعلم العلم، اقرءوا كتابا، اسمعوا شريطا، حرِّروا مسألة، اجتهدوا في الطلب، أكثروا من ذكر الله، أكثروا من الصلاة، أكثروا من العمل الصالح، ولا تتصدروا لمثل هذه الأشياء -بغير علم ولا أهلية ولا دراية-.
وأنصح جميع الإخوة القائمين على المواقع والمنتديات السلفية: أن يحذروا، وينتبهوا لهذه الطائفة، ولا ينبغي لهم أبدا أن ينشروا ما فيه سعي بالفتن والوقيعة بين المشايخ.
والأمور -والحمد لله- واضحة، فلا يأتي أحد فيقول: أنا لا أعرف من المقصود بهذا الكلام!! فعندما يقال: «نصيحة الشيخ فلان إلى المهيجين»؛ من هم المهيجون؟! المقصود: الشيخ رسلان، أو الشيخ فلان، أو الشيخ فلان؛ فكيف تتسبب أنت في نشر الفتنة بهذه الطريقة؟! وكيف تعين أمثال هؤلاء؟! وكيف تؤويهم عندك؟!
وعلى المشايخ والدعاة -أيضا- أن يحذروا وينتبهوا؛ هذه الطائفة السيئة -التي هي مثار الفتن، والوقيعة بين المشايخ-: لا بد أن يوضع حد لتحركاتها، ولا بد أن يوقف لها موقف الحزم والحسم؛ لئلا تتطور الأمور أكثر من ذلك.
وأنتم تعلمون ما نعايشه من الفتن -نسأل الله السلامة-، وهذه الأمور والشرور التي وقعت بين السلفيين؛ ولست أقصد الانحياز إلى فلان أو فلان، وإنما أتكلم بشكل عام؛ فلا نريد اتساع الخرق أكثر من هذا، لا نريد أن نعيش -طوال حياتنا ودعوتنا- في هذه النزاعات التي لا يكون لها أساس.
وأما النزاع الذي يقوم على أساس، ويكون فيه حق وباطل؛ فنحن مع الحق، ونصوِّب أهله -مَنْ كانوا-، ومن كان معه شيء من الباطل؛ فنحن نتخذ موقفا منه، فلسنا أصحاب تمييع، ولا تضييع، ولا موازنات؛ ولكنني أتكلم على الفتن التي تجئ من لا شيء، من اختلاف محتمل متصوَّر، يقع بين العلماء الكبار في الفتن والنوازل؛ فهذا لا بد أن يُحتمل، ولا بد أن يوضع في مكانه -من غير تشنيع ولا تشغيب-.
وأنا أستغرب جدا: كيف لا يُنكَر على أصحاب نظرية الشغور؟! من يقول بقولهم من العلماء؟! كلامهم هذا خطير جدا.
وأنا أقولها -بوضوح-: من شك منهم في تغلب الحاكم المصري -لاسيما بعد الفتن الأخيرة-؛ فهو مبتدع.
إذا لم يكن ما وقع تغلبا؛ فأين التغلب -يا عباد الله-؟! حاكم يأمر الجيش والشرطة، فتحمل السلاح، وتقتل المفسدين والمعارضين، ويحصل ما هو واقع الآن، والمعارضون لم تعد لهم شوكة، ورءوسهم صاروا في السجون؛ أي تغلب بعد هذا؟!
فمن شك أو توقف في تغلب الحاكم المصري الآن؛ فهو مبتدع؛ لأنه يسوِّغ الخروج والإفساد في الأرض، ولا يضع للمسلمين حاكما ولا إماما، فيصيِّر أمرهم فوضى؛ وكما قال السلف: «ستون سنة بإمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام».
فهذا قول في غاية الخطورة؛ كيف لا يُنكَر عليه، ويُنكَر على من يفتي بقتال الخوارج؟! أي دين هذا؟! وأي منهج هذا؟!
هذا هو ما أردت أن أتكلم به معكم: فالأمر -كما أوضحته لكم- يسير ومحتمل، وليس هناك أي اختلاف فيما بين المشايخ -إن شاء الله تعالى-، والصورة التي أوضحناها وقررناها تنتظم بها جميع الأمور، وتنحل بها جميع الإشكال، ولا يعترض عليها أحد من المشايخ أبدا.
واحذروا أصحاب الفتنة والوقيعة، الذين يقعون في المشايخ، ويثيرون الفتن فيما بينهم.
نسأل الله تعالى أن يهيئ لنا أمر رشد، وأن يكف عنا الفتن والشرور -ما ظهر منها وما بطن-.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
لتحميل التفريغ منسقا وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
|