التنبيه على تأصيل باطل
في نسبة المعيَّن إلى طائفة مبتدعة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين؛ صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فإن هناك تأصيلا غريبا متداولا لدى بعض إخواننا من طلبة العلم، ويقرره بعض المشايخ الفضلاء: أن الشخص لا يُنسب إلى طائفة من طوائف المبتدعة حتى يوافقهم موافقة كلية تأصيلية.
فالموافقة الكلية معناها: أن يوافقهم في كافة أصولهم.
والموافقة التأصيلية معناها: أن يوافقهم في تأصيلهم ومأخذهم، الذي بنَوْا عليه مذهبهم وانحرافهم.
فمثلا: لا يكون الشخص «معتزليا» حتى يوافق المعتزلة في جميع أصولهم الخمسة: التوحيد، والوعيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولا بد أن يكون -في ذلك- مقرِّرًا لنفس تأصيلهم ومأخذهم، الذي دفعهم إلى أصولهم تلك.
ففي أصل التوحيد -مثلا-: معلوم أن المعتزلة يريدون به تعطيل الصفات الإلهية، زعمًا أن إثباتها يتنافى مع التوحيد.
ومأخذهم في ذلك: طريقة الأعراض والأجسام، التي استدلوا بها على وجود الصانع، والتي أدَّتْ -عندهم- إلى أن الصفات أعراض مخلوقة، فلا بد من تنزيه الرب عنها؛ لأنه لو اتصف بها؛ للزم أن يقوم به شيء مخلوق؛ ولأن اتصاف الشيء بالصفات يعني أن يكون مركَّبًا منها، وهذا المعنى يتنافى مع وحدانية الرب، فوجب تعطيله عن الصفات؛ إلى غير ذلك من شبهاتهم الكاسدة، في مسألة التجسيم، والافتقار، وتعدد القدماء، وغير ذلك.
وهذا المأخذ قائم على منهج في التلقِّي والاستدلال، وهو: علم الكلام، وأخذ الدين عنه، دون نصوص الوحي؛ ولذلك يقدمون العقل على النقل، فيردون به النقل، أو يحرِّفونه؛ بدعوى دفع التعارض بين النص الشرعي، والدليل العقلي القاطع البرهاني؛ إلى غير ذلك من سَفْسَطَاتِهِم.
فلا يكون الشخص معتزليا حتى يكون على تلك الشاكلة المريضة، وهكذا الأمر في سائر أصول القوم.
وبمقتضى هذا الكلام: من وافق المعتزلة في أصل واحد -فقط-، دون سائر الأصول؛ فلا يصح أن يقال فيه: «معتزلي».
وبمقتضاه: من وافقهم في أصل من أصولهم، دون أن يقرر مأخذهم فيه؛ فلا يصح أن يقال فيه: «معتزلي»؛ كما لو وافقهم في تعطيل الصفات، دون أن يذكر مأخذهم في ذلك، أو يوافقهم في منهج التلقي والاستدلال.
وقُلْ مثل ذلك في نسبة المعين إلى الجهمية، والأشاعرة، والكلابية، والماتريدية، والكرامية، والسالمية؛ وكذا الخوارج، والمرجئة، والقدرية، والروافض، وسائر أهل البدع.
هذا بيان ذلك التأصيل المشار إليه.
فاعلم -علَّمني الله، وإياك- أن هذا التأصيل باطل، مخالف لمنهج السلف، وطريقة الأئمة، مما يعرفه الطلاب المبتدئون، عند دراستهم لأوائل كتب المعتقد، كـ«أصول السنة» للإمام أحمد، و«شرح السنة» للإمام البربهاري؛ فضلا عن الإلمام -بعد ذلك- بمنهج الأئمة العملي في باب التبديع.
قال الإمام أحمد رحمه الله في «أصول السنة»: «ومن السنة اللازمة، التي من ترك منها خصلة، لم يقبلها ويؤمن بها؛ لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر -خيره، وشره-... » اهـ.
وقال الإمام البربهاري رحمه الله في «شرح السنة»: «فرحم الله عبدا -ورحم والديه- قرأ هذا الكتاب، وبَثَّه، وعمل به، ودعا إليه، واحتج به؛ فإنه دين الله، ودين رسوله، وإنه من استحل شيئا خلافا لما في هذا الكتاب؛ فإنه ليس يدين الله بدين، وقد رده كله؛ كما لو أن عبدا آمن بجميع ما قال الله عز وجل؛ إلا أنه شك في حرف؛ فقد رد جميع ما قال الله، وهو كافر؛ كما أن شهادة أن لا إله إلا الله لا تقبل من صاحبها إلا بصدق النية، وخالص اليقين، وكذلك لا يقبل الله شيئا من السنة في ترك بعض، ومن خالف، ورد من السنة شيئا؛ فقد رد السنة كلها» اهـ.
وقال رحمه الله في موضع آخر: «ولا يحل لرجل أن يقول: «فلان صاحب سنة» حتى يعلم أنه قد اجتمعت فيه خصال السنة ، فلا يقال له : «صاحب سنة» حتى تجتمع فيه السنة كلها» اهـ.
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله في «الإبانة الصغرى»: «ونحن الآن ذاكرون شرح السنة، ووصفها، وما هي في نفسها , وما الذي إذا تمسك به العبد، ودان الله به؛ سُمِّي بها، واستحق الدخول في جملة أهلها، وما إن خالفه، أو شيئا منه؛ دخل في جملة من عَيَّنَّاه، وذكرناه، وحذرنا منه، من أهل البدع والزيغ، مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام، وسائر الأمة، مُذْ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، إلى وقتنا هذا» اهـ.
فهذه تذكرة كافية للمسترشد، من كلام الأئمة النظري التأصيلي.
وسر المسألة -كما ورد في كلام الإمام البربهاري-: أن الأمر المركب من أركان، بحيث لا يتحقق إلا بها؛ لا يصدق على المسلم أنه أتى به إلا باستيفاء هذه الأركان كلها، فإذا ترك ركنا منها؛ فسد هذا الأمر، ولم يصح أن يقال: إنه قد أتى به.
فمن ترك ركنا واحدا من أركان الإيمان؛ فليس بمؤمن، ومن كذب برسول واحد؛ فقد كذب بجميع المرسلين.
ومن ترك ركنا واحدا من أركان الصلاة -كالطمأنينة-؛ فصلاته باطلة، ومن ترك ركنا واحدا من أركان الحج -كالوقوف بعرفة-؛ فحجه باطل.
وأما منهج الأئمة العملي التطبيقي؛ فمن المعلوم عنهم -بالضرورة- أنهم كانوا يبدِّعون المعيَّن بموافقته لأهل البدع في أصل من أصولهم، وينسبونه إليهم؛ دون تفقُّدٍ لموقفه من سائر أصولهم.
فمن عطَّل الصفات؛ قالوا فيه: «جهمي»، دون تفقُّدٍ لموافقته للجهمية في باب القدر، والإيمان، وغير ذلك.
ومن سَبَّ الصحابة رضي الله عنهم؛ قالوا فيه: «رافضي»، دون تفقُّدٍ لموافقته للروافض في دعوى النص على عليٍّ رضي الله عنه، وتكفير الصحابة، وإبطال خلافة الثلاثة رضي الله عنهم، وغير ذلك.
ودونك موقفَهم من الحسن بن صالح: بدَّعوه، وأغلظوا فيه القول؛ لأنه -فقط- كان يرى الخروج على السلطان، ولم يكن شرطا -عند الأئمة- أن يُضَمَّ إلى ذلك كونُه تكفيريا مستحلا للدماء، ولم يكن هذا معروفا عنه -أصلا-.
ثم انظر إلى موقفهم من الكرابيسي، وداود الظاهري، والحارث المحاسبي، ونظرائهم؛ يتضح لك ذلك -بيقين-.
بل من المعلوم المقرَّر: أن مذاهب أهل البدع تظهر -في أول أمرها- على هيئة أصل واحد فقط، ثم تتكامل، حتى تستقر في هيئة مذهب شامل لأصول عديدة.
فواصل بن عطاء عندما افْتَرَعَ مذهب المعتزلة؛ كان ذلك في أصل المنزلة بين المنزلتين -فقط-، ثم تطور مذهب المعتزلة، حتى دخل في باب القدر، والصفات، وغير ذلك.
والشاهد: أن الأئمة بدَّعوا واصلًا بمجرد ما أحدث، وقالوا: «اعْتَزَلَنَا واصلٌ»، ونشأ مذهب المعتزلة، ولم ينتظر الأئمة حتى يكون مذهبا مستقرا، له أصول عديدة؛ وهذا أمر لا بد منه -بداهة-؛ فكيف نأتي نحن -الآن- ونشترط في التبديع الموافقة في المذهب الشامل؟!
وأما مسألة المأخذ؛ فمن وافق أهل البدع في أصل من أصولهم؛ فلا بد أن يكون موافقا لهم في مأخذهم، وهذا معلوم -بضرورة العقل-؛ فإنه لا يصل -أصلا- إلى الموافقة في الأصل حتى يكون موافقا في المأخذ.
فلا يصل الشخص إلى تعطيل الصفات -جملة- حتى يكون ذلك مبنيا على مأخذ الجهمية، ومن تبعهم: إن إثبات الصفات يتعارض مع التوحيد، ويستلزم التمثيل؛ وإلا؛ فكيف يصل إلى التعطيل -أصلا- لولا هذه المقدمة؟!
ولا يصل الشخص إلى نفي القدر، بمعنى أن الله لا يخلق أفعال العباد؛ حتى يكون موافقا للقدرية في مأخذهم: إن إثبات القدر -بهذا المعنى- يستلزم الجبر والظلم في حق الرب عز وجل، ويستلزم إبطال التكليف والأمر والنهي، ويستلزم أن يكون الفعل بين فاعلَيْن، والمقدور بين قادرَيْن؛ إلى غير ذلك.
ولا يصل الشخص إلى إخراج العمل عن مسمى الإيمان حتى يكون ذلك مبنيا على تأصيل المرجئة: أن الإيمان شيء واحد، لا يتجزأ، وإذا زال بعضه؛ زال كله، فلو كان العمل من الإيمان؛ لذهب الإيمان كله بزوال أي فرد من أفراد العمل، فلزم إخراج العمل عن حقيقة الإيمان.
وإنما دخل الداخل على من يقرر التأصيل المراد إبطاله هنا من وجهين:
* الوجه الأول: الخلط بين الأصول العامة، والمسائل الجزئية:
فقضية المأخذ يُنظر إليها عند الموافقة في المسائل الجزئية، لا الأصول العامة؛ وهذا هو باب زلات العلماء.
ففي باب الأصول العامة: لا بد من حصول الموافقة في المأخذ، وهذا لازم عقلي ضروري، فلا يوافق الشخصُ أهلَ البدع في أصل عام حتى يكون -في نفس الأمر- موافقا لهم في مأخذهم وشبهتهم، وإنما يصح الانفكاك في منهج التلقي والاستدلال -خاصة-، كما سيأتي البيان.
وأما في باب المسائل الجزئية؛ فلا يلزم الموافقة في المأخذ، فضلا عن منهج التلقي، ويصح أن يوافق الشخصُ أهلَ البدع في مسألة جزئية، دون أن يكون موافقا لهم في مأخذهم وشبهتهم، فضلا عن منهجهم في التلقي والاستدلال.
وهذا التفريق هو الذي يُبنى عليه باب زلات العلماء، ويؤصَّل عليه الموقف منهم: في حفظ مكانتهم، وعدم تبديعهم.
ففي باب الصفات -مثلا-: يكون العالم المعين من أهل السنة، موافقا لهم في التأصيل والتطبيق، مثبتا للصفات جملة وتفصيلا، مُجْرِيًا لنصوصها على ظاهرها المعقول من غير تأويل، ولا غيره؛ ولكنه يأتي إلى بعض هذه النصوص، فيظن أنه لا يصلح إجراؤه على ظاهره، ولا يستفاد منه إثبات صفة إلهية؛ وذلك -عنده- لدلالة السياق على ذلك.
فتكون النتيجة: أنه تأول بعض نصوص الصفات، وهذا -في الأصل- طريقة الجهمية وفروعهم؛ ولكن ذلك العالم لم يفعل ذلك لمأخذهم السابق شرحه في التعطيل، وإنما كان ذلك منه لمأخذ آخر -تماما-، هو -في الأصل- من مآخذ أهل العلم؛ ولكنه أخطأ في تنزيله على ذلك النص المعين.
فهذا هو الذي يقال فيه: «زلة عالم»، لأن الموافقة جزئية، والمأخذ مختلف.
وتكون النتيجة: أن ذلك العالم لا تُهدر مكانته، ولا يُبدَّع، ولا يُنسب إلى تلك الطائفة المبتدعة، ولا يقال: إنه وافقهم، أو سلك مسلكهم، أو نحو ذلك من العبارات التي توهم الموافقة في المأخذ والتأصيل.
* الوجه الثاني: حصول الموافقة في الأصل العام، مع وجود مانع يمنع من تبديع المعين:
وصورة ذلك: أن يكون العالم قد وافق أهل البدع في أصل من أصولهم، لنفس مأخذهم؛ ولكنه مخالف لهم في منهج التلقي، وما وافقهم في أصلهم هذا إلا ظَنًّا منه أن ذلك هو ما دلت عليه نصوص الوحي، وهو منهج السلف؛ بحسب ما بلغه من العلم، ولم يطلع على حقيقة منهج السلف في ذلك الباب.
فهو عالم يريد الحق، ويطلب منهج السلف، ويتبع الكتاب والسنة، ويعتبر الوحي هو مصدر التلقي، لا علم الكلام، ولا غيره.
وبحسب ما بلغه من العلم في وقته: ظن أن منهج السلف في باب الصفات -مثلا- هو التأويل، أو التفويض؛ فهُمَا -بحسب علمه- قولان للسلف، كلاهما سائغ، ويُستعمل كل منهما في مقام معين.
ودخلت عليه الشبهة من نظره إلى كلام السلف في مثل قول الله عز وجل: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾، وقوله في الحديث القدسي المتفق على صحته: «وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي؛ أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»؛ وأن بعض السلف تأول تلك النصوص، ولم تكن -عندهم- من نصوص الصفات؛ فحسب أن السلف كانوا يتأولون الصفات -نفسها-، وفهم كلامهم في مثل: «أمِرُّوها كما جاءت» على أن معناه التفويض.
فهما -إذن- طريقتان سلفيتان، أخذ بهما ذلك العالم، وهو يحسب أن هذا هو منهج السلف، ولم تتضح له حقيقة الأمر، ولم يطلع على كلام الأئمة، الذين شرحوا منهج السلف، وكشفوا اللَّبْس، وأزالوا الشبهة.
فصارت النتيجة -إذن-: أن ذلك العالم سلك مسلك الأشاعرة -مثلا-، في تأويل الصفات الذاتية والفعلية، ولم يقتصر على تأويل صفة واحدة -مثلا-، بل طرد الأمر -على طريقة القوم-؛ لنفس المأخذ: أن هذه الصفات -خاصة- لا يجوز اتصاف الله بها؛ لكونها أبعاضا، أو حوادث تستلزم التغير في حق الرب؛ ولكن ذلك العالم حسب أن ذلك هو منهج السلف، على الصورة التي أوضحتُها؛ ولم يَبْنِ على طريقة أهل البدع في التلقي والاستدلال؛ وخصوصا إذا كان ذلك العالم غير متخصص في باب الاعتقاد، بل تخصصه في الفقه، أو الحديث، أو غير ذلك من الفنون؛ فتلقَّى الاعتقاد عن مشايخ وقته على الصورة السابق بيانها، ولم يعرف سواه، ولا بلغه غيره.
فإذا كانت الصورة هكذا؛ فلا شك أن الأمر يختلف عما تكلمنا فيه، ولا تقاس هذه الصورة بالصورة السابقة، التي كانت في وقت السلف والأئمة، في أناس فارقوا السنة، وتميزوا عنها وعن أهلها، وكان لهم منهجهم في التلقي والاستدلال، وطعنوا على أهل الحديث والسنة، وصرحوا بأن الدين لا يؤخذ من طريقهم؛ هذا مع ظهور السنة، وتميُّزها، وانتشارها، وقيام الحجة بذلك.
وسر المسألة: أن الظهور والخفاء أمر نسبي، وهذا يسري على جميع مسائل الدين، وليس هذا الباب الذي نتكلم فيه بأعظم ولا أظهر من باب التوحيد والشرك، فإذا كنا قد تصورنا الخفاء في هذا الباب، فعذرنا بالجهل أو التأويل من يقع في أمور شركية؛ فالباب الذي نتكلم فيه: أولى، ويصح إلحاقه بالمسائل الخفية، كما ألحقنا بها مسائل التوحيد والشرك.
ويصح هنا أن نذكر قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «درء التعارض»: «ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك؛ لهلك أكثر فضلاء الأمة.
وإذا كان الله -تعالى- يغفر لمن جهل وجوب الصلاة، وتحريم الخمر؛ لكونه نشأ بأرض جهل، مع كونه لم يطلب العلم؛ فالفاضل المجتهد في طلب العلم، بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه: هو أحق بأن يتقبل الله حسناته، ويثيبه على اجتهاداته، ولا يؤاخذه بما أخطأه؛ تحقيقاً لقوله -تعالى-: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾» اهـ.
وكلامه رحمه الله في هذا المعنى: كثير معروف.
وموطن الخلل هنا: أن إعذار العالم في هذه الصورة لا يعني أنه يشترط في التبديع موافقة أهل البدع في كافة أصولهم، وإنما كان الإعذار لعارض الجهل، والتأويل، وعدم قيام الحجة.
فتنبَّهْ -رعاك الله- إلى هذه الفروق الدقيقة، ولا بد من ضبط العبارات، وتحرير المسائل والصور، ولا يجوز أن نعبر عن الصورة المذكورة آنفًا بما يفيد أن التبديع مشروط بموافقة أهل البدع في كافة أصولهم، أو في منهجهم الاستدلالي.
وعلى ذلك؛ فلو قُدِّر أن الصورة تغيرت، بحيث كان الشخص مُطَّلِعًا على كلام الأئمة، متبيِّنًا لحقيقة اعتقاد السلف؛ ثم اتخذه وراءه ظِهْرِيًّا، وأصرَّ على شبهته وتأويله للصفات؛ فهو -حينئذ- مبتدع ضال، لا كرامة له، ولا يجوز التوقف في ذلك -والحال هكذا-، ولا يجوز تعليق الحكم بتبديعه على موافقته للطائفة المبتدعة في سائر أصولها، ولا بكونه موافقا لهم في المنهج الاستدلالي، الذي هو الاستغناء بعلم الكلام عن نصوص الشرع، ولا بكونه طاعنا في اعتقاد السلف، عائبا لأهل السنة؛ فإن هذا كله ليس بشرط، على ما شرحتُ لك.
وبشأن منهج التلقي -خاصة-: لا يجوز حصر التبديع في الموافقة فيه، بحيث لا يكون مبتدعا -أصلا- إلا من وافق أهل البدع في منهج التلقي والاستدلال، ومن قال بمجرد اتباع الكتاب والسنة -كمصدر تَلَقٍّ-؛ فهو سُنِّيٌّ، وإن خالف في أصول -بأسرها-!
فهذا كلام في غاية البطلان، وهو من طريقة أهل التمييع، وقد تكلم العبد الفقير على ذلك في مناسبات عديدة، ثم خصَّصْتُ له محاضرة، وهي منشورة على الموقع، بعنوان: «خطورة قصر التبديع على المخالفة في مسائل العقيدة الكبرى، أو في منهج الاستدلال».
وخلاصة القول: أن عندنا صورتين:
* الصورة الأولى: الموافقة في مسألة جزئية، لا في الأصل العام، ولا في المأخذ والشبهة، ولا في منهج التلقي.
مثالها: العالم السني، الذي يتأول نصًّا من نصوص الصفات، دون الموافقة في الأصل العام -الذي هو التعطيل-، ولا في المأخذ -الذي هو دفع التمثيل-، ولا في منهج التلقي -الذي هو علم الكلام-.
حكمها: زلة عالم، يُنبَّه على خطئها، ولا يجوز الاقتداء به فيها؛ ومع ذلك: تُحفظ مكانته، ولا يُبدَّع، ولا يُنسب إلى موافقة المعطلة.
* الصورة الثانية: الموافقة في الأصل العام، وهذا لا بد فيه من الموافقة في المأخذ، وقد يكون مع هذا: الموافقة في منهج التلقي، وقد لا يكون.
مثالها: من وافق الأشاعرة في تعطيل الصفات الذاتية والفعلية، فهذا لا يكون -أصلا- إلا بناء على مأخذهم في نفيها -الذي هو كونها أبعاضا وحوادث، خلافا للصفات التي يثبتونها-، وقد يكون -مع ذلك- موافقا لهم في منهج التلقي -الذي هو علم الكلام-، وقد لا يكون.
حكمها: الأصل أن يُبدَّع الشخص؛ لأنه لم يحقق أصلا من أصول السنة، ووافق أهل البدع في أصل من أصولهم، ولا يشترط الموافقة في سائر الأصول، ولا في منهج التلقي؛ إلا أن يمنع من تبديعه مانع، كما سبق شرحه.
وأما مجرد الموافقة في منهج الاستدلال؛ فلا يخفاك أن هذا -وحده- موجب للتبديع، بل للتكفير -أحيانا-، وتصوُّر الإعذار في مثل هذا: نادر وبعيد، خلافا للصور التي سبق الكلام عليها.
هذا هو ما أردتُ بيانه في هذا المقام، وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 6/ربيع الأول/1442
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
|