التنبيه على جواب باطل
في مسألة الخروج على الحكام
الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله الأعز الأكرم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المكرم؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد؛ فإن من شبهات الخوارج المعروفة: الاحتجاج بصنيع من خرج قديما من السلف، وقد فصَّلتُ الرد على ذلك في «النقض على ممدوح بن جابر»، وخلاصته:
* أولا: أن الصنيع المذكور مخالف للنصوص المتواترة، التي تأمر بالصبر على جور الحكام، وتنهى عن الخروج عليهم؛ فلا يحل ترك شيء منها لقول أحد من الناس.
* ثانيا: أن من خرج من القوم لم يسلم من الإنكار عليه، ومتى وقع الخلاف؛ لم يَجُز التعويل على أقوال المختلفين، ووجب التعويل على الأدلة الشرعية.
* ثالثا: أن منهم من ثبت رجوعه -بَأَخَرَةٍ-؛ كالحسين وابن الزبير -رضي الله عنهما-، ومن خرج مع ابن الأشعث.
* رابعا: أن منهم من كان خروجه لكفر من خرج عليه، لا لمجرد فسقه؛ كالذين خرجوا مع ابن الأشعث على الحجاج.
* خامسا: أنه قد استقر أمر أهل السنة وانعقد إجماعهم على ترك الخروج، وهو الحاصل في طبقة الصحابة -رضي الله عنهم-؛ والصحيح المقطوع به -أصوليا-: وجوب الاعتبار بالإجماع الحاصل بعد النزاع.
* سادسا: أن الأئمة متفقون على عَدِّ الخروج في مذاهب المبتدعة، ونسبة أصحابه إلى البدعة، دون اعتبار بصنيع الأولين، وإنما عذروهم لخفاء المسألة عليهم.
* سابعا: أن الخروج لم يأت في الإسلام بخير قط، ولم يفلح من قام به يوما من الدهر، ولو كان فيه خير أو فلاح؛ لكان السابقون أولى به من الخالفين.
فهذا حاصل الجواب العلمي الصحيح، المأخوذ من كلام العلماء وأصولهم.
والقاعدة العامة في الدين: أن كل من تفرد بفهم أو قول مخالف لأفهام العلماء وأقوالهم؛ كان مجانبا للحق والصواب -بلا شك ولا ارتياب-.
فمن رَامَ الجوابَ عن الشبهة المذكورة؛ فليتمسك بالأوجه المزبورة، أو نحوها مما يعود إلى أجوبة العلماء وأصولهم؛ ولْيحذر الخروج عن ذلك، ولْيتمهَّلْ في كل جواب جديد يخطر على باله، ولا يبادرْ بنشره وإذاعته في الناس.
فمن الأجوبة «الجديدة» (!!)، التي انتشرت بين جمع كثير من إخواننا السلفيين: قول بعض الناس: إن من خرج قديما من السلف -لاسيما الحسين وابن الزبير- لم يبايعوا حكامهم أصلا، فلا يعدُّون -إذن- خارجين عليهم أصلا!!
ومعنى هذا الكلام: اشتراط إجماع أهل الحَلِّ والعقد لثبوت الإمامة، وأنه إذا اتفق جمهورهم على بيعة إمام؛ لم يلزم الباقين متابعتُهم، ولو أنهم خرجوا على هذا الإمام؛ لجاز صنيعهم، ولم يُعَدَّ من الخروج المحرم!!
وهذا باطل محض، مخالف لإجماع العلماء، ولازمه: الطعن في خلافة غير واحد من الخلفاء الراشدين، وتسويغ الخروج عليهم!!
وإليك طرفا من أقوال العلماء، التي تبين بطلان الجواب المذكور:
قال الإمام النووي -رحمه الله-: «أما البيعة؛ فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس، ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء والرؤساء ووجوه الناس، وأما عدم القدح فيه؛ فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام، فيضع يده في يده ويبايعه، وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام: الانقياد له، وأن لا يظهر خلافا، ولا يشق العصا» اهـ[1].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في بيعة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: «وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة، الذين هم أهل القدرة والشوكة، ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة؛ لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية؛ فإن المقصود حصول القدرة والسلطان، الَّذَيْن بهما تحصل مصالح الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك[2].
فمن قال: إنه يصير إماما بموافقة واحد، أو اثنين، أو أربعة، وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة؛ فقد غلط، كما أن من ظن أن تخلف الواحد أو الاثنين أو العشرة يضره؛ فقد غلط.
وأبو بكر بايعه المهاجرون والأنصار، الذين هم بطانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة، وبهم قُهر المشركون، وبهم فتحت جزيرة العرب؛ فجمهور الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هم الذين بايعوا أبا بكر» اهـ[3].
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في قصة عبد الرحمن بن عوف في بيعة عثمان -رضي الله عنهما-: «وفيه: أن الجماعة الموثوق بديانتهم إذا عقدوا عقد الخلافة لشخص -بعد التشاور والاجتهاد-؛ لم يكن لغيرهم أن يحل ذلك العقد؛ إذ لو كان العقد لا يصح إلا باجتماع الجميع؛ لقال قائل: لا معنى لتخصيص هؤلاء الستة؛ فلما لم يعترض منهم معترض؛ بل رضوا وبايعوا؛ دل ذلك على صحة ما قلناه. انتهى -ملخصا- من كتاب ابن بطال» اهـ[4].
وهذا عليٌّ -رضي الله عنه- قد كثر النزاع في عصره، ولم يتفق الناس عليه[5]؛ ومع ذلك: فخلافته ثابتة بنص حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الخلافة ثلاثون سنة»[6].
وطَرْدُ الجواب المذكور -بعموم علته- في غير أهل الحل والعقد: يستلزم أن خروج من لم يبايع -عموما- ليس من الخروج المحرم!!
أَلَا فلْيفرح الخوارج بهذا الذي لم يحسنوا الاحتجاج به!!
فاستمسك -رحمك الله- بغرز علمائك وكلامهم، ودَعْ عنك ما سواه؛ تكن من الناجين المفلحين.
وصلى الله وسلم على محمد النبي الأمِّي، وعلى آله وصحبه قاطبة.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 9/جمادى الآخر/1434
[2] وعلى الجواب المذكور: كان يسوغ لسعد بن عبادة أن يخرج على الصديق؛ لأنه لم يبايع!!
[3] «منهاج السنة» (1/530-531).
[4] «فتح الباري» (13/198)، وانظر «شرح ابن بطال» (8/276-277).
[5] وقد تكلمت على هذا -باختصار- في «النقض على ممدوح بن جابر».
[6] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم؛ من حديث سفينة -رضي الله عنه- مولى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي بعض الطرق زيادة تبيِّن المراد: قال سفينة: «أمسك خلافة أبي بكر -رضي الله عنه- سنتين، وخلافة عمر -رضي الله عنه- عشر سنين، وخلافة عثمان -رضي الله عنه- اثني عشر سنة، وخلافة على -رضي الله عنه- ست سنين».
وصححه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وانظر -للأهمية- «السلسلة الصحيحة» (459).
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي إف، اضغط هنا
|