احذروا أيها السلفيون
أن تدخل عليكم شبهة الحدادية
وأنتم لا تشعرون!
(تبصرة هامة في كل فتنة)
الحمد لله البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز العليم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الكريم؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله، أحسن صلاة، وأتم تسليم.
أما بعد؛ فإن الغلو مذموم -كله-، مرذول -كله-؛ أهلك أهل الكتاب -من قبلنا-، وجعلهم يفارقون دينهم ويبدلونه؛ فحذَّرَناهُ نبيُّنا الكريمُ صلى الله عليه وسلم، مشفقا علينا أن نصير مثلهم، فقال -عليه أفضل الصلاة والسلام-: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ».
وإن من أخطر أبواب الدين: بابَ الجرح والتعديل، والتزكية والتحذير، والتَّسْنِين والتبديع؛ لما فيه من كلام في أعراض الرجال ودينهم، وحكم على مناهجهم وأشخاصهم، ينبني عليه عمل، بإقبال المسلمين عليهم، أو تنفيرهم عنهم؛ ولهذا أحسن من قال من أهل العلم: «أعراض الرجال حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان: الحكام، والمحدِّثون».
وقد دخل الغلو هذا الباب -كما دخل غيرَه من أبواب الدين-، بل لعله لا مبالغة إذا قيل: إن الغلو يدخل هذا الباب أكثر من غيره؛ لما في هذا الباب من حظ النفس وشهوتها، بما يدفع من تكلم فيه -إذا كان مخذولا- إلى إسقاط الناس؛ محبة للعلو في الأرض.
وقد تمثل الغلو في هذا الباب -في العصر المتأخر- في طائفة شهيرة، يقال لها: «الحدادية»؛ نسبة إلى رأسها: محمود الحداد المصري.
وهذه الطائفة قام منهجها -في الأصل- على الكلام في علماء السنة، وإهدار جهودهم، وتبديع من وقع منهم في زلات ومخالفات خفية.
ثم توسع هذا المنهج -مع تطاول العهد- عند من ورث هذا الغلو عن الحدادية، وإن لم يكن منهم -صراحة-، وإن لم يقل بمثل ما قالوه من الطعن في علماء السنة؛ فصار هؤلاء الجُدُد يتعرضون لعلماء السنة المعاصرين، ودعاتها المعروفين؛ فيسقطونهم، ويجرحونهم، ويحذرون منهم؛ بدون موجب.
حتى استقر الأمر في تصوير مذهب الحدادية على أنه: «التجريح بدون موجب»، سواء كان ذلك بالتبديع، أو التحذير، أو النهي عن أخذ العلم، أو نحو ذلك من الصور.
وقد بيَّن علماؤنا هذا المذهب، وكشفوا حقيقته، وحذروا منه، وأعادوا القول فيه وأَبْدَوْهُ؛ حتى بات من المحفوظات المقررات لدى صغار طلبة العلم.
وشارك العبد الفقير في ذلك في محاضرات وكتابات عديدة، تبين حقيقة ذلك المذهب، وفَرْقَ ما بينه وبين مذهب أهل السنة، وكيف تتميز وسطية أهل السنة بينه، وبين المذهب المقابل له: «التمييع»؛ وكان من أواخر ما وفق الله إليه في ذلك: محاضرات بعنوان: «الجادة السلفية بين المميعة والحدادية».
ثم رأيتُ أن أكتب هذه التبصرة؛ زيادة في البيان والتذكير، وتنبيهًا على بعض الأمور المهمة، التي يحتاج السلفي إلى مراعاتها، وخصوصا في واقع الغربة والضعف، ووقت الفتنة والاضطراب؛ ويؤدي إغفالها إلى السقوط في نفس شبهة الحدادية، وسلوك نفس مسلكهم؛ وفاعلُ ذلك يحسب أنه على الجادة! وأنه ناصر للسنة! قامع للانحراف! قائم على المفسدين!
لقد عرف الكافة من طلبة العلم أن من أعظم شعب الحدادية الجديدة: التركيز على الأخطاء العلمية، والهفوات السلوكية؛ ودعوى أنها لا تصدر من شخص يستحق التصدُّر -من الأساس-.
وعرف الكافة -أيضا- أن هذه طريقة منحرفة -في نفسها-؛ لأن مثل هذه الأخطاء لا يخلو منها إنسان، فلو اتخذناها ذريعة للإسقاط؛ لما بقي لنا من أهل العلم إنسان.
وهنا الأمر الذي أحب التنبيه عليه -في مقامي هذا-، تعرُّضًا لصورةٍ أخصَّ من تلك الصورة العامة، يُدَنْدِنُ حولها أهل الغلو -كثيرا-، وهي: ما إذا كانت تلك الأخطاء فاحشة، أو كثيرة -باعتبار ما-؛ فيقول القوم -حينئذ-: هذه الصورة تختلف عن الصورة العامة المجملة التي ذكرتموها، ولا يصح التسوية بينهما.
ألا؛ فانتبه -أيها المسترشد- لثُلَاثِيَّة عظيمة:
الأولى: أن الدفع أسهل من الرفع.
فليس التعامل مع أمر واقع مستقر كالتعامل مع أمر جديد يراد إحداثه وإنشاؤه.
وهذه القاعدة انبنى عليها أصل من أصول السنة، وهو: لزوم طاعة الحاكم المسلم المتغلب، وترك الخروج عليه ومنازعته، وإن كان فاقدا لشروط الإمامة؛ لأن البحث في هذه الشروط إنما يكون في حال السعة والاختيار، وأما في حال التغلب والاضطرار؛ فلا بد من التعايش مع هذا الأمر الواقع، ودفعه صعب، يؤدي إلى الدماء والفساد والفوضى، بخلاف التعامل معه من أول الأمر -عند إرادة تنصيب الحاكم-؛ فإنه سهل مقدور.
الثانية: أن واقع الغربة والاستضعاف يختلف عن واقع القوة والتمكين.
ففي الحالة الأولى: يتعامل المسلم بطريقة الرفق، والعفو، والصَّفْح، والصبر، والتسامح؛ بحيث لو كان في الحالة الثانية؛ لشَدَّدَ، وغَلَّظَ، وزَجَرَ، وأَدَّبَ؛ كما كان علماء السلف يتعاملون في وقت قوتهم وتمكينهم، وعلو كلمة السنة، وظهور الحق، وضعف المخالف.
الثالثة: أن مراعاة المصالح والمفاسد أصل من أصول الشريعة.
فعلى المتكلم في الرجال أن يَرْقُبَ قوله، وينظر في عواقبه؛ وخصوصا في صورة التعرض لعدد كبير من دعاة السنة، وخصوصا لو كان في جمع تقوم عليهم الدعوة السلفية في بلادهم؛ فأي عاقل يقول بإسقاط مثل هؤلاء، أو إهدار دعوتهم، أو المنع من أخذ العلم عنهم؟! مع أن الواقع شاهد -بحمد الله- أن المنتقَد في هذه الصورة لا يكون موجبا للإسقاط -أصلا-.
إذا تبين لك ذلك؛ فاعلم أنه لا يختلف اثنان في أن واقعنا واقع غربة واستضعاف، قَلَّ فيه أهل العلم والسنة، وفَشَتْ فيه الجهالات والبدع، والناس محتاجون لمن يدعوهم إلى ربهم، ويبين لهم الحق -بحسب الإمكان-، والشباب محتاجون لمن يأخذون عنه العلم، ويَسْتَنْقِذُهُم من براثن المبتدعة، من الحزبيين، والقطبيين، والتكفيريين، والصوفيين، والقبوريين، وأشكالهم.
فمن المتوقع -إذن- في مثل هذا الواقع: أن يكون بعض دعاة الحق عندهم نوع قصور -علما، وعملا-؛ لأن تصدرهم إنما هو لضرورة الواقع، التي فرضت علينا وضعا يختلف عن وضع أئمتنا القدماء، وعن حال قوة السنة وعزتها.
ثم إن أمثال هؤلاء قد صار تصدرهم أمرا واقعا، وصارت لهم دعوة، وجهود، وطلاب؛ فإهدار ذلك لا تخفى مفسدته على العامي البليد.
فلا يجوز -إذن- عند صدور الأخطاء العلمية والعملية أن نتعامى عن رؤية الواقع الذي دفع إليها، ولا يجوز أن نقول: هؤلاء لا يستحقون أن يتصدروا، والواجب عليهم -الآن- أن يتركوا دعوتهم، ويقعدوا في بيوتهم يطلبون العلم!
إن عامَّتَنا -معشرَ الدعاة- لم ينشأ في أُسَرٍ ملتزمة -أصلا-، ولم يجد من يربِّيه تربية علمية سلوكية -على الأمر الأول-، وإنما حصَّلْنا ما حصَّلْنا، بحيث يتمكن أحدنا من الدعوة إلى الحق -بحسب الإمكان-، يعلِّم الناس المعتقد والمنهج، ويحذرهم من الشرك والبدع، ويدرِّس لطلبة العلم -في حدود ما يستطيع-.
ونتيجةً لعدم التوسع في العلم، والرسوخ فيه، وجرد المطولات، وتحرير المباحث العلمية؛ تقع الأخطاء العلمية.
ونتيجةً لعدم التربية والتزكية؛ تحصل الهفوات السلوكية والأخلاقية.
فهذا أمر يُحتمل، ولا يسقط به السلفي؛ كما هو مقرر معلوم.
وليس المقصود -أبدا- تبرير هذه المخالفات، إنما المقصود -والكلام واضح- التبصير بحسن التعامل معها، ولا يكون هذا إلا بعد إدراك الواقع الذي دفع إليها، وتقدير الوضع الذي تعيشه الدعوة في وقتنا هذا.
وبناء على ذلك؛ فليس الحل -إطلاقا- في الاستئصال والإقصاء؛ لأن المشكلة ليست فردية محدودة، والاستئصال -حينئذ- معناه القضاء على الدعوة -نفسها-، بإسقاط جميع القائمين بها -أو أكثرهم-.
وإنما الحل في أمرين اثنين:
الأول: التحذير من الأخطاء -في نفسها-، وبيان ما فيها من المخالفة للحق.
وهذا أمر لا يُتسامح في تركه -بحال-، ولا يصلح في إهماله مراعاة واقع، ولا دعوة، ولا غير ذلك؛ لأنه يضر الدعوة -نفسها-، ويبدل المنهج -نفسه-، والمقام أوضح من أن يحتاج إلى إيضاح.
الثاني: الصبر على الواقعين في تلك الأخطاء، والرفق بهم، ومناصحتهم.
ولا يمكن خلاف هذا؛ لأن خلافه هو الاستئصال -لا غير-، وقد أوضحنا ما فيه من المفسدة والشر.
فمن وقع من دعاة السنة في مجموعة من الأخطاء العلمية، الناشئة عن القصور والضعف العلمي؛ فإننا نبين خطئه، ونوضح الصواب والحق؛ وفي الوقت -ذاته-: نصبر على أخينا، ونترفق به، وننصحه؛ ولا نقول: ليس أهلا للتصدر، ولا يؤخذ عنه العلم؛ فإن هذا ما عرفناه إلا من الحدادية.
وكذلك الأمر فيمن تضعف نفسه، ويضعف إيمانه، فيقع في بعض المعاصي أو السقطات الأخلاقية، وإن كان لا يصح صدور مثله من داعية؛ لكن لا بديل عن الصبر، والرفق، والإصلاح.
وهذه هي طريقةُ علمائنا المعروفةُ عنهم، وعلى رأسهم: الإمام العلامة ربيع بن هادي -حفظه الله-؛ فمعلوم نصيحته لمن كان يسلك تلك المسالك المُبِيرة:
اصبر على إخوانك، لا تتسرع، ليس الحل في الاستئصال، هذه أمور تُحتمل.
فما بال أقوام يغيِّرون هذا الآن؟!
ومن عجيب أمر بعضهم: أنه -هو نفسه- كان يُكال له بنفس المكيال! وكان يشنِّع عليه الغلاة بأنه «ضعيف علميًا»! وأنه «ليس أهلا أن يؤخذ عنه العلم»! ثم إذا به ينتقد غيره بنفس الطريقة!!
ومنهم من كان يزكِّي أمثال هؤلاء، مع علمه بحالهم! وإذا خوطب في ما عندهم؛ قال: «الصبر! والنصيحة! ومصلحة الدعوة!»؛ ثم صار يسقطهم بنفس ما كان يعرفه عنهم، ويزكيهم -مع وجوده-!!
ومنهم من يسقط أشخاصا بمثل هذه الأشياء، مع أنه ساكت عن غيرهم، ممن عنده مثلها، إن لم يكن أضعافها!!
فإن قال: إنما سكتُّ عنهم رعاية للمصالح والمفاسد.
قلنا: فاسكت عمن تسقطهم؛ للأمر -ذاته-! وقد علمت الكافة ما وقع بكلامك فيهم من الفتنة، والتفرق، والتَّهَاجُر.
وإن قيل: هذه الأخطاء التي تتحدث عنها ليست على الصورة المعهودة، التي يحتمل وقوعها من العالم أو الداعية، كما كان عليه الأمر عند علماء السلف.
قلت: هذه -بعينها- شبهة الحدادية، ولم نزل نسمع هذا الكلام منهم؛ وكان الرد -كما هو مقرر لدى الجميع-: اختلاف الواقع والظروف، وقد شرحتُه لك في كلامي السابق، فلا بد أن يزيد الأمر -شيئا- عن الجادة المعروفة في الأمر الأول، ولا بد أن يُقابل بما يناسب الواقع، ويحقق مقاصد الشريعة.
ألم تسمع القول المنسوب إلى عمر بن عبد العزيز $، والمتلقى بالقبول لدى أهل العلم: «تحدث للناس أقضية، بقدر ما أحدثوا من الفجور»؟
ألم تعلم أن العلماء قالوا: لو طَبَّق الحرامُ الأرضَ؛ لم يكن للناس تعطيل المكاسب؟
ألم تعلم أن المحدِّثين تسامحوا في حد «الثقة» في العصور المتأخرة، لمَّا اختلف حال الناس وحال الرواية عن العهود الأولى، فصار مفهوم «الثقة» -عند المتأخرين- مقصورا على مجرد السلامة الظاهرة؟
إذن: عدم الانتباه إلى تغير الواقع، وعدم مراعاة ذلك، وعدم النظر في المصالح والمفاسد، ومعاملة الناس بقانون لا يناسب واقعهم؛ كل ذلك من خصال الحدادية.
وليس هذا الأمر جديدا علينا -معشرَ السلفيين-، بل كان من أظهر الأمور التي أخذها العلامة الربيع -حفظه الله- على فالح الحربي، ولم يزل الشيخ وإخوانه العلماء يوضحون ذلك، ولم يزل المشايخ والدعاة يقررونه.
فما الذي تغير؟! ومن الذي تغير؟!
فهذه شعبة من شعب الحدادية؛ فاحذروها.
وشعبة أخرى -وهي راجعة إلى سابقتها-: تطبيق العقوبات والزواجر في غير محلها.
والمقصود: إعمال مسلك التغليظ والهجر، الذي كان يستعمله السلف؛ في غير موضعه، وفي غير واقعه.
ومعلوم أن هذا الباب مرتهن -أيضا- بالنظر في الواقع، ومراعاة المصالح والمفاسد؛ وهذا أشهر من أن يحتاج إلى تقرير.
فمن الخصال المعروفة عن الحدادية: أنهم يأتون إلى المفردات التي كان يستعملها الأئمة في التعامل مع أهل البدع من الشدة والتغليظ، فيستعملونها مع أهل السنة!
وهذا تابع لأصل عظيم من أصولهم، وهو: العمل بظواهر الإطلاقات الواردة عن السلف: «من قال كذا؛ فهو مبتدع»، من غير فقه لمراد الأئمة، ومن غير نظر في الواقع الذي أُطلقت فيه مثل هذه العبارات.
فلا يعلم الحدادية أن هذه الإطلاقات من جنس نصوص الوعد والوعيد،التي لا تتنزل على المعين إلا باستيفاء شروط، وانتفاء موانع؛ وأنها أُطلقت للزجر والتنفير عن مقالات أهل البدع -وإن كانت جزئية، بتأويل لبعض أحاديث الصفات مثلا-، بحيث أن من وقع فيها من أهل السنة؛ لا يصح أن تنزل عليه تلك الإطلاقات؛ لاختلاف المأخذ والتأصيل؛ على ما يُبيَّن في الفرق بين زلة العالم، وبدعة المبتدع.
فهذا جانب واضح في شأن الحدادية.
ثم إن الأمر توسَّع بعد ذلك، حتى صار الحدادية الجُدُد ينظرون فيما سلكه بعض أئمة السنة مع بعض إخوانهم من أهل السنة، من إنكار، أو هجر، أو تشديد؛ في بعض المسائل؛ على سبيل الزجر والتأديب؛ فيعمل بهذا مع إخوانه -الآن-، بدون ضوابط، وبدون فقه؛ حتى يئول به الأمر إلى هجر أكثر إخوانه! والتنفير عن أخذ العلم عنهم في بلاد -بأكملها-!
وهذا الأمر معلوم -بالضرورة- عن أولئك الحدادية، وأن الواحد منهم كان يقول في من يسقطه من مشايخ السنة: إنني لا أبدِّعهم، بل هم سلفيون؛ ولكن أتعامل معهم كما تعامل الإمام أحمد، والإمام فلان، والإمام فلان؛ على سبيل الزجر -فقط-!
فكان الرد -ولا يزال-: باب العقوبات مرتهن باختلاف الواقع، والنظر في المصالح والمفاسد، وهذا المسلك الذي سلكه الأئمة إنما كان في وقت القوة والتمكين، وكان محسوبا محكوما، بحيث لم تنشأ عنه مفسدة أكبر، ولم يترتب عليه هجر لأكثر السلفيين، ولا تعطيل دعوات -بأكملها- في بلاد المسلمين، بحيث يقال كما تقولون -أيها الحدادية-: لا يؤخذ العلم في بلد كذا إلا عن واحد، أو اثنين! وربما قلتم: البلد الفلاني ليس فيه من يؤخذ عنه العلم -أصلا-!!
فهذه شعبة أخرى من شعب الحدادية؛ فاحذروها.
وشعبة ثالثة -وهي راجعة إلى ما سبق-: عدم اعتبار الظهور والخفاء.
فالحدادية قانونهم -أبدا-: المخالفات كلها ظاهرة، ومن وقع في بدعة؛ فهو مبتدع، لا فرق -مثلا- بين معطِّل الصفات، وبين من تأول حديثا من أحاديثها؛ ومسائلُ الاعتقاد كلها بمنزلة واحدة، والحجة فيها قائمة ظاهرة، بمنزلة مسألة القرآن.
وهكذا كل من يتعامل مع المخالفات بنفس المعاملة، ويجعلها -كلها- على سمت واحد، وينظر في واقعه على أنه كواقع الأئمة في مسألة خلق القرآن، ويعتبر أن مجرد كلامه في المسألة يجعل الحجة قائمة ظاهرة، لا يخالفها إلا مبتدع! أو -في إطار آخر-: يستحق الهجر والمجانبة، وإن كان سلفيا!
إن القاعدة المحفوظة -في هذا الشأن-: أن الظهور والخفاء أمر نسبي، وعلى هذا بنينا القول في إثبات العذر بالجهل في مسائل التوحيد والشرك.
فعلى المتكلم في مسائل الدين -ومنها: مسائل الجرح والتعديل- أن يراعي هذا الأمر العظيم، وأن ينظر في قوله الذي يقرره نظرة عدل وإنصاف، لا نظرة تسرُّع وعاطفة، وإذا رأى الأمر مشكلا على إخوانه، أو رأى عندهم ضعفا، أو غير ذلك مما يعرض لبني آدم؛ فليصبر، وليترفَّق؛ ولا يتسرع، ولا يبادر بالعقوبة.
وتذكَّر أننا لا نتكلم في صورة محدودة، وإنما نتكلم في صورة تمس كثيرا من دعاة السنة -أو أكثرهم-؛ فهؤلاء لا يعامَلون معاملة الواحد والاثنين، ولا يكاد يخالف مثلهم في مسألة إلا ويكون فيها إشكال، أو غموض، أو غير ذلك من الأعذار، التي وإن كانت لا تؤثر على نفس الحق الذي يظهر لغيرهم؛ إلا أنها تدرء عنهم الإسقاط والهجر، فضلا عن التبديع والإخراج من السنة.
هذا هو ما أردتُ بيانه في هذا المقال؛ تبصرةً وتذكرةً لنفسي، وإخواني.
فالحذرَ الحذرَ!
والثباتَ الثباتَ!
وهذه الأمور الدقيقة الهامة إن لم تُحَرَّرْ، ولم ينتبه إليها المتكلم في هذا الباب الخطير؛ فحدِّثْ عن الفساد والشر في الدعوة -ولا حرج-! ولا يُنتظَر من أمثال هؤلاء إلا الفتنة، والفرقة، والخَسْف، والمَحْق؛ وهذه طريقة الحدادية؛ شاءوا، أم أَبَوْا.
فانظر -أخي السلفيَّ- أين تضع قدمك، وكلُّ امْرِئٍ حَجِيجُ نفسِه.
سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا وَيَأْتِيكَ بالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾.
نسأل الله أن يبصرنا بالحق، ويهدينا للجادة والصراط المستقيم، ويؤلف بين قلوبنا، ويصلح ذات بيننا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه -قاطبة-.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 22/صفر/1442
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
|