أَوَقَدْ جَرُؤْتَ يا أبا الفتن؟!
(الرد على أبي الحسن المأربي في تسويغه اقترافَ الكفر للمصلحة)
(الحلقة السادسة وهي الأخيرة)
الحمد لله العلي القدير، فاطر السموات والأرض، ربِّ كل شيء ومليكِه، وأشهد أن لا إله إلا الله، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليما كثيرا.
** قال المأربي:
«وأما مراعاة ذلك في تحصيل المصلحة الخاصة؛ فمن ذلك: ما أخرجه عبد الرزاق -ومن طريقه أحمد- بسند صحيح في قصة الحجاج بن عِلَاط، الذي أسلم يوم خيبر، وقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن قريشا لم تعلم بإسلامي، وإن لي مالا عند قريش، ولو علموا بإسلامي منعوني مالي، فأْذَنْ لي أن أنال منك، أو قال: فأنا في حِلٍّ إن أنا نِلْتُ منك؟»، فأذن له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول ما شاء.
ومعلوم أن النيل من الشخص: سبُّه والطعن فيه -كما في «لسان العرب»-، ومعلوم أن سبَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفر أكبر، وقد قال ابن حبان في هذا الحديث: «ذكر ما يستحب للإمام بذل عرضه لرعيته، إذا كان في ذلك صلاح أحوالهم في الدين والدنيا» اهـ كلام المأربي([1])، وبقيته دائرة حول الترخيص في مواقعة الكفر للمصلحة العامة -من باب أولى-.
** قال أبو حازم -وقاه الله السوء-:
لا يزال المأربي الغوي -عامله الله بعدله- كَدَأْبِه في تقرير هذه الشبهة الخبيثة: يكذب، ويدلس، ويبتر النقول؛ وقد حصل بَتْرُه في هذا الموضع للحديث نفسه!!!
وإليك نصَّه:
عن أنس -رضي الله عنه-: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَبِيرَ؛ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالًا، وَإِنَّ لِي بِهَا أَهْلًا، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِيَهُمْ؛ فَأَنَا فِي حَلٍّ إِنْ أَنَا نِلْتُ مِنْكَ أَوْ قُلْتُ شَيْئًا؟»، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ، فَأَتَى امْرَأَتَهُ حِينَ قَدِمَ فَقَالَ: «اجْمَعِي لِي مَا كَانَ عِنْدَكِ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمَّدٍ -صلى الله وعليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدِ اسْتُبِيحُوا وَأُصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ»، وَفَشَا ذَلِكَ بِمَكَّةَ، فَانْقَمَعَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ فَرَحًا وَسُرُورًا...» وذكر تمام الحديث.
فهذا هو ما قاله الحجاج -رضي الله عنه-: «قد استُبيحوا وأُصيبت أموالهم»؛ فأين السبُّ -يا أبا الفتن-؟!! ولماذا لم تَقْتَصَّ الحديثَ -بتمامه-؟!!
ألَا سُحْقًا لرجل هذا شأنه!! وبُعْدًا لمن يكذب على الأنبياء والصحابة والعلماء!!
وبهذا يسقط تشغيبه بمعنى «النَّيْل» في اللغة؛ فإن أصله: الإصابة، فالمراد: الإصابة من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا أعمُّ من أن يكون سبًّا، وقد دلَّتْ عبارة الحجاج -رضي الله عنه- التي قالها بمكة على المراد، وتعيَّن بها غيرُ السَبِّ -كما رأيتَ-.
وعليه؛ فتبويب ابن حبان -الذي اعتمده المأربي- فيه ما فيه؛ لما عرفتَه من أن الحجاج -رضي الله عنه- لم يسُبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أصلا.
فإن قيل: إنما أردنا الاستدلال بعموم إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- للحجاج -رضي الله عنه-.
قلنا: قد تقدم جوابكم في مثل هذا عندما أتيتم به في قصة قتل ابن الأشرف.
وعليه؛ فغاية الحديث أن يكون دليلا على جواز الكذب الصريح في الحرب.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في سياق الاحتجاج لمن جوَّز ذلك: «ويقويه ما أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أنس، في قصة الحجاج بن علاط، الذي أخرجه النسائي وصححه الحاكم، في استئذانه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول عنه ما شاء؛ لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة، وأذن له النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين، وغير ذلك مما هو مشهور فيه» اهـ([2]).
وقد حمله الإمام ابن القيم -رحمه الله- على أعمَّ من ذلك، فقال: «جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره، إذا لم يتضمن ذلك ضرر الغير، وإذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه؛ كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين، حتى أخذ ماله من مكة، من غير مضرة لحقت المسلمين من ذلك الكذب؛ وأما ما نال مَنْ بمكة مِنَ المسلمين من الأذى والحزن؛ فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب، ولا سيما تكميل الفرح والسرور وزيادة الإيمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب، فكان الكذب سببا في حصول هذه المصلحة الراجحة» اهـ([3]).
وقد تقدم كلامه وكلامه شيخه ابن تيمية في حمل الحديث على الحيل الجائزة.
وبكل حال؛ فالحديث أجنبيٌّ تماما عن دعوى المأربي؛ لوضوح الفرق بين الكذب والكفر.
وهذا -كله- نقوله على التسليم بثبوت الحديث؛ فكيف إذا عرفتَ أن في ثبوته نظرًا([4])؟!!
وما ذكرناه -قبلُ- من التنزُّل مع المأربي: يسري هنا -كذلك-.
هذا آخر ما ذكره المأربي في تثبيت شبهته الخبيثة، وبنقضه يكتمل نقضها، والحمد لله رب العالمين.
وإن تعجب -بعد ذلك-؛ فعجبٌ تجاوُزُ الرجل لجميع حدود العلم والحياء، بِعَرْضِهِ لشبهته هذه على أنها بحث محقَّق، وكلام معتبر!! بل ادَّعائِه أن خلافها -مما تقدم نقل الإجماع عليه- قولٌ يحتاج إلى دليل!!!
وذلك أنه قال: «ادعاء أن قول الكفر لا يرخَّص فيه لدفع شر أعظم: قول يحتاج إلى دليل؛ وكيف هذا والجميع مسلِّم بالترخيص في قول كلمة الكفر حالةَ الإكراه، لدفع شر لا يطيقه فرد ما، فكيف بشرٍّ لا تطيقه أمة بأكملها؟!» اهـ([5])!!
ثم قال: «ذكرتُ هذه الأدلة لفَتْحِ باب البحث في هذه المسألة، التي يُطلَق القول فيها بتكفير كثير من المسلمين عدد من المنتسبين للدعوة([6])، وقد قال بهذا أيضا بعض كبار طلاب العلم؛ فإن كان معهم دليل -لا مجرد أقاويل- يدل على خلاف ذلك؛ فأنا قائل به، وجزاهم الله عني خيرا كثيرا» اهـ([7])!!
ثم قال: «ما سبق من الأدلة والحوادث التي رُخِّص فيها بقول الكفر لتحقيق مصلحة عامة أو خاصة -مع اطمئنان القلب بالإيمان-: دليل في موضع النزاع، ولا حاجة إلى التهويل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل» اهـ([8])!!
ولم يكتف بذلك؛ حتى ذكر بعض كلام العلماء في أن الإكراه لا يقتصر على القتل أو القطع([9]).
فأقول: تَبًّا لك!! ألِهذا الحد تستخف بعقول قُرَّائك، وتَلْبِسُ لهم الحق بالباطل؟!
يا هذا، إن حصر الترخيص في الكفر بالإكراه: هو نصُّ القرآن، وإجماعُ الأمة، وضروريُّ العلم -لدى صغار الطلاب-؛ فكيف تجرؤ على أن تقول فيه -وفي خلافه- ما قلتَ؟!!
لقد كان الرجل من أهل البدع -قديما- يقع في أَهْوَنَ مما وقعتَ فيه -بكثير-، فيقول فيه الإمام من أئمة السنة: «أَلَا صبيٌّ من صبيانكم يَفْتِكُ به؟!»، ويقول الآخر: «ما أَحْوَجَهُ إلى أن يُضرَب!!»؛ فما عسانا نقول فيك -الآن-؟!!
وتلبيسُك بالشر المَخُوفِ على «الأمة» (!!): مَرْجِعُهُ إلى ما قَعْقَعْتَ به -من قبل- من المفاسد، وقد فصَّلنا الردَّ عليك في ذلك([10])؛ فلا حاجة لتكراره.
ودعواك أنك -بتقرير شبهتك هذه- إنما تردُّ على الذين يكفِّرون المشاركين في السياسة المعاصرة: عذرٌ أقبحُ من الذنب -ويبدو أنك قد اعتدتَ تبريرَ الوسائل بالغايات!!!-؛ أفيُطَبُّ الزُّكام بإحداث الجُذام؟!! أم يُرَدُّ الباطل بالباطل؟!! أم تُدفع البدعة بالبدعة؟!! أم يُعالَج الانحراف بالانحراف؟!!
وكأنك استشعرتَ خطورة موقفك في توسيع باب الترخيص في الكفر، وعلمتَ أن هذا الباب مُوصَدٌ على الإكراه -وحده-، فَلَجَأْتَ إلى القول في حقيقة الإكراه، وأنه لا يقتصر على القتل أو القطع؛ وهذا -يا أبا الفتن- هو الإكراه عموما، وليس هذا موضع النزاع، وإنما هو الإكراه على الكفر -خاصة-، وقد مَرَّ كلام أهل العلم أن هذا الإكراه يختلف عن غيره، وأنه لا بد فيه من القتل أو القطع أو نحوهما، ولا يكفي فيه مجرد التخويف أو نحوه؛ ولولا ذلك لاستوى الكفر وغيره من الذنوب، ولم يكن فرقٌ بين الإكراه على الكفر، والإكراه على حلق اللحية!!
فهل جهلتَ ذلك -وهو من ضروريِّ العلم لدى صغار الطلاب-؟!! أم كتمتَه -ظلما وعدوانا-؟!!
هما ثِنْتَان -يا أبا الفتن-، فاخْتَرْ لنفسك أَعْجَبَهما، ولن تخرج عن سَوْأَةٍ!!
وبهذا ننتهي -ولله الحمد- من كشف هذه الشبهة الخبيثة، وقد ذكرتُ في الحلقة الأولى أنني أخصِّصُ لذلك هذه المقالات، وأن كشف هذه الشبهة جزءٌ من كتاب أكبر في النقض على الرجل ونظرائه في مسألة العمل السياسي المعاصر، وقد انتهيتُ منه -بعون الله-، وأرجو أن يمثل للنشر بعد عيد الفطر من عامنا هذا -إن شاء الله-.
أسأل الله أن يرزقنا الصدق والإخلاص، ويستعملنا في نصرة دينه، ويتقبل منا صالح العمل، ويتجاوز لنا عن الغفلة والزلل، ويثبتنا على الحق حتى نلقاه، ويقينا الفتن -ما ظهر منها وما بطن-، ولا يجعلنا كالذين تقلبوا وانتكسوا، وبدَّلوا وغيَّروا؛ إنه ولينا ومولانا، وهو حسبنا ونِعْم الوكيل.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 6/رمضان/1435
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) «المختصر» (118).
([2]) «فتح الباري» (6/159).
([3]) «زاد المعاد» (3/310).
([4]) الحديث مداره -عند من عزا إليهم المأربي، وغيرهم- على مَعْمَر، عن ثابت، عن أنس؛ ورواية معمر عن ثابت تكلم فيها غير واحد من الأئمة.
فقال ابن المديني -كما في «العلل» له-: «في أحاديث معمر عن ثابت أحاديث غرائب ومنكرة، جعل ثابت عن أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كذا -شيء ذكره-؛ وإنما هذا حديث أبان بن أبي عياش عن أنس، وعن ثابت في قصة حبيب قال: حدثنا عبد الرزاق عن معمر، لم يروه عن ثابت غيره».
وقال ابن معين -في رواية الغَلَّابي-: «معمر عن ثابت: ضعيف».
وقال -في رواية ابن أبي خيثمة-: «حديث معمر عن ثابت، وعاصم بن أبي النَّجُود، وهشام بن عروة، وعن هذا الضرب: مضطرب كثير الأوهام».
وقال العقيلي -كما في «الضعفاء» له-: «أَنْكَرُهُمْ حديثا عن ثابت: معمر».
واعتمد هذه الأقوالَ: ابنُ رجب في «شرح علل الترمذي» (2/691)،وفي «فتح الباري» له (3/368)، قائلا في هذا الثاني: «روايات معمر عن ثابت رديئة».
ولهذا تحايد الشيخان الاحتجاج بهذه الترجمة، فلم يخرجها البخاري إلا تعليقا، ومسلم إلا متابعة.
([5]) «المختصر» (119).
([6]) كذا، ولعل الصواب: من قِبَل عدد من المنتسبين للدعوة.
([7]) «المختصر» (119).
([8]) «المختصر» (119).
([9]) «المختصر» (120-121).
([10]) وذلك في صلب الكتاب: «النقض على أبي الحسن المأربي وإخوانه في مسألة العمل السياسي المعاصر».
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي إف اضغط هنا
|