أَوَقَدْ جَرُؤْتَ يا أبا الفتن؟!
(الرد على أبي الحسن المأربي في تسويغه اقترافَ الكفر للمصلحة)
(الحلقة الرابعة)
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وآله وسلم.
** قال المأربي:
«ومن الترخيص في ذلك للمصلحة العامة: قصة نعيم بن مسعود الأشجعي، لما أَذِن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخذِّل عن المسلمين ما استطاع يوم الخندق أو يوم الأحزاب، وعندما غدرت يهود، فقام نعيم بحيلة تضمنت كلمات كفرية، ورُخِّص له فيها للمصلحة العامة.
إلا أن القصة ذكرها ابن إسحق بقوله: حدثني رجل عن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: جاء نعيم بن مسعود... القصة، وهذا سند ضعيف، ومع ذلك فقد قال د/أكرم ضياء العمري: «وهذه الروايات لا تثبت من الناحية الحديثية؛ ولكنها اشتهرت في كتب السيرة، وهي لا تتنافى مع قواعد السياسة الشرعية، فالحرب خدعة» اهـ كلام المأربي ([1]).
** قال أبو حازم -عفا الله عنه-:
كذا قال المأربي -إطلاقا للكلام على عواهنه-: «قام نعيم بحيلة تضمنت كلمات كفرية»، ولم يذكر كلمة واحدة من كلماته المدَّعاة، ولو كان عنده شيء؛ لصاح به، وإنما هو محض الكذب والبهتان.
وحتى تتبين ذلك؛ فإليك نصَّ القصة:
قال ابن إسحق -رحمه الله-([2]): «ثُمَّ إنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُنَيْفِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ قُنْفُذِ بْنِ هِلَالِ بْنِ خَلَاوَةَ بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتُ»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا -إنْ اسْتَطَعْتَ-؛ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ».
فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: «يَا بَنِي قُرَيْظَةَ، قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إيَّاكُمْ، وَخَاصَّةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ»، قَالُوا: «صَدَقْتَ، لَسْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ»، فَقَالَ لَهُمْ: «إنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَأَنْتُمْ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ، فِيهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، لَا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَحَوَّلُوا مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ قَدْ جَاءُوا لِحَرْبِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ ظَاهَرْتُمُوهُمْ عَلَيْهِ، وَبَلَدُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ بِغَيْرِهِ، فَلَيْسُوا كَأَنْتُمْ، فَإِنْ رَأَوْا نُهْزَةً([3]) أَصَابُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَحِقُوا بِبِلَادِهِمْ وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ بِبَلَدِكُمْ، وَلَا طَاقَةَ لَكُمْ بَهْ -إنْ خَلَا بِكُمْ-، فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُنَاجِزُوهُ»، فَقَالُوا لَهُ: «لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ».
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ: «قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ قَدْ رَأَيْتُ عَلَيَّ حَقًّا أَنْ أُبْلِغَكُمُوهُ، نُصْحًا لَكُمْ، فَاكْتُمُوا عَنِّي»، فَقَالُوا: «نَفْعَلُ»، قَالَ: «تَعْلَمُونَ أَنَّ مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إلَيْهِ: إنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيكَ أَنْ نَأْخُذَ لَكَ مِنْ الْقَبِيلَتَيْنِ -مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ- رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَنُعْطِيكَهُمْ، فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونُ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُمْ؟»، فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ: أَنْ نَعَم ([4])؛ فَإِنْ بَعَثَتْ إلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ؛ فَلَا تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ مِنْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، إنَّكُمْ أَصْلِي وَعَشِيرَتِي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، وَلَا أَرَاكُمْ تَتَّهِمُونَنِي»، قَالُوا: «صَدَقْتَ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ»، قَالَ: «فَاكْتُمُوا عَنِّي»، قَالُوا: «نَفْعَلُ، فَمَا أَمْرُكَ؟»، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشِ، وَحَذَّرَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ» انتهى.
قلت: فهذا نص ما وقع من حيلة نعيم -رضي الله عنه-؛ فأين منه دعوى المأربي؟!!
وإنما كان كلام نعيم -رضي الله عنه- كلُّه إشارةً إلى ما كان يُعرَف عنه قبل إسلامه، وليس فيما تلفَّظ به كفرٌ -أصلا-.
فأما قوله ليهود: «قد عرفتم وُدِّي إياكم، وخاصةَ ما بيني وبينكم»؛ فإنما أراد: ما كان بينه وبينهم -من قبل-؛ بدليل قوله: «قد عرفتم»، ومعلوم أنهم لم يعرفوا ما أخبرهم به من ساعتهم؛ وليس في هذا الكلام كفرٌ أصلا؛ فإن مودة المسلم ومُبَاطَنتَه للمشرك ليست كفرا -بإطلاق-؛ بل يجري فيها التفصيل المعروف: إن كانت في الدين والمعتقد؛ كانت كفرا، وإن كانت في الهوى والشهوة؛ كانت معصية، وإن كانت في الرحم والقربى؛ كانت جائزة؛ واعتبر بشأن حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ -رضي الله عنه- في مكاتبته للمشركين، وقد سماها الله «مودة» في كتابه، ولم يكن حاطبٌ بها كافرا.
وأما قول نعيم -رضي الله عنه- لقريش: «قد عرفتم وُدِّي لكم، وفراقي محمدا»؛ فإنما أراد -أيضا- ما كان قبل إسلامه، وليس في هذا الكلام كفر -أيضا-؛ فإن المفارقة لا تستلزم ترك الدين؛ بل قد يراد بها مفارقة المكان أو الشخص أو نحو ذلك([5]).
وأما قوله لغطفان: «إنكم أصلي وعشيرتي، وأحبُّ الناس إليَّ»؛ فلا إشكال فيه -على ما مضى بيانه في شأن المودة في الرحم-.
فبان بذلك أن كلمات نعيم -رضي الله عنه- إنما هي تعريض، ليس فيها ما هو صريح في الكفر -كما ادعاه المأربي-؛ وهكذا قال أهل العلم -كما تقدم في كلام ابن تيمية وابن القيم في عَدِّ هذه القصة في أبواب المعاريض-([6]).
وما ذكرناه من التنزُّل مع المأربي: يرد هنا -أيضا-([7]).
وهذا إزهاق ثالث تبريرات المأربي، ولْننظر فيما يليه، والله المستعان.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 8/شعبان/1435
|