أَوَقَدْ جَرُؤْتَ يا أبا الفتن؟!

إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :542174
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

أَوَقَدْ جرؤتَ يا أبا الفتن؟!! (الحلقة الخامسة)

المقال
أَوَقَدْ جرؤتَ يا أبا الفتن؟!! (الحلقة الخامسة)
5913 زائر
21/06/2014
أبو حازم القاهري السلفي

أَوَقَدْ جَرُؤْتَ يا أبا الفتن؟!

(الرد على أبي الحسن المأربي في تسويغه اقترافَ الكفر للمصلحة)

(الحلقة الخامسة)

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا، وأشهد أن لا إله إلا الله، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وسلم.

** قال المأربي:

«ومن ذلك أيضا: إرسال قادة الإسلام عيونا أو جواسيس يعيشون بين أعداء الإسلام؛ ليعرفوا قوتهم، ومخططاتهم في الكيد للإسلام وأهله، ويخبر القيادة المسلمة بذلك؛ لتتخذ إجراءاتها على ضوء ذلك، وكل هذا للمصلحة العامة، وهذا قد يلزم منه في بعض الحالات المكث مدة طويلة بينهم، وقد يستلزم عمل أمور ظاهرها الكفر، أو الجلوس في مجالس يُجهَر فيها بالكفر الأكبر دون نكير، وإلا انكشف أمره، وقُتل.

وهذا أمر لا تستغني عنه أمة مسلمة ولا كافرة من بداية تاريخ البشرية؛ بل الحيوانات والطيور تتخذ لنفسها عيونا، تكشف لها عدوها مبكرا.

والأصل في ذلك: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث عبد الله بن حَدْرَد الأسلمي الأسدي قبل يوم حنين، وأمره أن يدخل صفوف العدو، ويقيم بينهم، ويستطلع أخبارهم، ويأتيه بها([1]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب؛ لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر؛ لما عليه في ذلك من الضرر؛ بل قد يستحب للرجل -أو يجب عليه- أن يشاركهم أحيانًا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية: من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع إلى باطن أمورهم؛ لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضرر عن المسلمين، وغير ذلك من المقاصد الصالحة» اهـ([2])» هذا آخر كلام المأربي([3]).

** قال أبو حازم -عفا الله عنه-:

هذا مَزْلَقٌ آخر وقع فيه المأربي، وهو: تحميل الأدلة ما لا تحتمل، والاستدلال بعموماتها في المواطن الخاصة، التي لم يَجْرِ عليها عمل السلف أو فهمهم.

وذلك أن اتخاذ العيون -أو الجواسيس- ثابت، لا شك في مشروعيته([4])؛ ولكن هذا عموم، وبحثُنا إنما هو موطن خاص، وهو: وقوع هذا الجاسوس في الكفر؛ فأين في الأدلة ما يدل على ذلك؟!! ومَن مِن أهل العلم فهم ذلك أو قرَّره؟!!

غاية ما جاء في الأدلة: أن الجاسوس يَنْدَسُّ في غِمار المشركين، فيسمع كلامهم، ويعرف أخبارهم -متلطِّفا متحيِّلا في ذلك-؛ فهذا هو ما نعنيه بالعموم؛ أي: عموم التلطُّف والتحيُّل، وأما الوقوع في الكفر؛ فصورة خاصة، لا يكفي الاستدلال عليها بالعموم، وليس في الأدلة ما يدل عليها -ولو إشارةً-.

وغاية الأمر: ما جاء في كلام شيخ الإسلام -الذي استدل به المأربي، محمِّلا إياه ما لا يحتمل-، وهو: الموافقة في «الهدي الظاهر»؛ أي: الملبس، والمأكل، والزينة، والسلوك، ونحو ذلك.

وهذا ظاهر في سياق كلامه -رحمه الله-؛ فإنه إنما كان يتحدث عن مخالفة المشركين -وهذا أصل موضوع كتاب «الاقتضاء»-، ومعلوم أن المراد: مخالفة المشركين في الهدي الظاهر، لا في العقائد؛ فإن هذا أمر مفروغ منه، ولم يكن مادة كتاب «الاقتضاء»، وإنما كان في تقرير المخالفة وترك التشبُّه في الأمور التي ذكرناها.

وحتى في النقل الذي أورده المأربي؛ فإن فيه أيضا ما يدل على ذلك، وهو قول شيخ الإسلام بعده مباشرة: «فأما في دار الإسلام والهجرة، التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية؛ ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة تختلف لهم باختلاف الزمان والمكان؛ ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا» اهـ([5]).

قلت: فبيَّن أن المخالفة إنما تُشرَع في دار الإسلام، ومعلوم أنها ليست المخالفة في العقيدة؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- يخالفون المشركين في عقيدتهم -في دار الكفر، في زمان ومكان الاستضعاف-، ومعلوم أن هذا فرض متحتِّم، ولم يُرَخَّص في خلافه إلا عند الإكراه -وهو أصل ما نتكلم فيه الآن-.

فبان بذلك مراد شيخ الإسلام -رحمه الله-، وهو الذي ينصرف إليه لفظ «الهدي الظاهر» عند الإطلاق -كما يفهمه كل طالب علم-؛ فيجوز -إذن- للجاسوس أن يترك مخالفة المشركين في زينتهم، أو لباسهم، أو غير ذلك من عاداتهم، وله أن يتلبس ببعض المحرمات الأخرى؛ وأما التلبُّس بالكفر -لغير إكراه معتبر-؛ فهو أَبْعَدُ شيء عن أدلة اتخاذ الجاسوس، وكلام العلماء في ذلك؛ وقد تقدم نقل الإجماع على عدم جواز ذلك.

وبأسلوب آخر؛ نقول للمأربي:

من الذي فهم من عموم اتخاذ الجاسوس أنه يباح له الوقوع في الكفر -خاصة- لغير إكراه؟!

ولتمام الفائدة؛ أذكر لك هذه النقول عن طائفة من أهل العلم في إبطال الاستدلال بالعمومات فيما لم يَجْر عليه عمل السلف أو فهمهم، وأن هذا الاستدلال من أعظم سمات المبتدعة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «قاعدة شرعية: شرعُ الله ورسوله للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعا بوصف الخصوص والتقييد؛ فإن العام والمطلق لا يدل على ما يختص بعض أفراده ويقيد بعضها، فلا يقتضي أن يكون ذلك الخصوص والتقييد مشروعا ولا مأمورا به، فإن كان في الأدلة ما يكره ذلك الخصوص والتقييد؛ كُرِه، وإن كان فيها ما يقتضي استحبابه؛ استُحِب، وإلا بقي غير مستحب ولا مكروه.

مثال ذلك: أن الله شرع دعاءه وذكره شرعا مطلقا عاما، فقال: ﴿اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾([6])، وقال: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾([7])، ونحو ذلك من النصوص، فالاجتماع للدعاء والذكر في مكان معين، أو زمان معين، أو الاجتماع لذلك: تقييدٌ للذكر والدعاء لا تدل عليه الدلالة العامة المطلقة -بخصوصه وتقييده-؛ لكن تتناوله لما فيه من القدر المشترك.

فإن دلت أدلة الشرع على استحباب ذلك -كالذكر والدعاء يوم عرفة بعرفة، أو الذكر والدعاء المشروعين في الصلوات الخمس، والأعياد، والجُمَع، وطرفي النهار، وعند الطعام، والمنام، واللباس، ودخول المسجد، والخروج منه، والأذان، والتلبية، وعلى الصفا والمروة، ونحو ذلك-؛ صار ذلك الوصف الخاص مستحبا مشروعا استحبابا زائدا على الاستحباب العام المطلق، وفي مثل هذا يُعطَف الخاص على العام؛ فإنه مشروع بالعموم والخصوص -كصوم يوم الاثنين والخميس بالنسبة إلى عموم الصوم-.

وإن دلت أدلة الشرع على كراهة ذلك؛ كان مكروها، مثل: اتخاذ ما ليس بمسنون سنة دائمة؛ فإن المداومة في الجماعات على غير السنن المشروعة: بدعة؛ كالأذان في العيدين، والقنوت في الصلوات الخمس، والدعاء المجتمع عليه أدبار الصلوات الخمس، أو البَرْدَيْن منها([8])، والتعريف المداوَم عليه في الأمصار، والمداومة على الاجتماع لصلاة تطوع، أو قراءة، أو ذكر كل ليلة، ونحو ذلك؛ فإن مضاهاة غير المسنون بالمسنون بدعة مكروهة -كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار والقياس-.

وإن لم يكن في الخصوص أمر ولا نهي؛ بقي على وصف الإطلاق؛ كفعلها أحيانا على غير وجه المداومة؛ مثل: التعريف أحيانا -كما فعلت الصحابة-، والاجتماع أحيانا لمن يقرأ لهم، أو على ذكر أو دعاء، والجهر ببعض الأذكار في الصلاة -كما جهر عمر بالاستفتاح، وابن عباس بقراءة الفاتحة-، وكذلك الجهر بالبسملة أحيانا؛ وبعض هذا القسم ملحق بالأول، فيكون الخصوص مأمورا به -كالقنوت في النوازل-، وبعضها ينفى مطلقا؛ ففعلُ الطاعة المأمور بها مطلقا حسنٌ، وإيجابُ ما ليس فيه سنة مكروهٌ.

وهذه القاعدة إذا جُمعت نظائرها؛ نفعت، وتميز بها ما هو البدع من العبادات التي يشرع جنسها -من الصلاة والذكر والقراءة-، وأنها قد تميز بوصف اختصاص تبقى مكروهة لأجله، أو محرمة -كصوم يومي العيدين، والصلاة في أوقات النهي-، كما قد تتميز بوصف اختصاص تكون واجبة لأجله أو مستحبة -كالصلوات الخمس، والسنن الرواتب-.

ولهذا قد يقع من خلقه العبادة المطلقة والترغيب فيها في أن شرع من الدين ما لم يأذن به الله، كما قد يقع من خلقه العلم المجرد في النهي عن بعض المستحب أو ترك الترغيب؛ ولهذا لما عاب الله على المشركين أنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وأنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وهذا كثير في المتصوفة من يصل ببدع الأمر لشرع الدين، وفي المتفقهة من يصل ببدع التحريم إلى الكفر» اهـ([9]).

وقال الأصولي المحقق أبو إسحق الشاطبي -رحمه الله-: «من اتباع المتشابهات: الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيِّداتها، وبالعمومات من غير تأمل: هل لها مخصِّصات أم لا، وكذلك العكس: بأن يكون النص مقيَّدا فيُطلق، أو خاصا فيُعم بالرأي -من غير دليل سواه-؛ فإن هذا المسلك رَمْيٌ في عماية، واتباع للهوى في الدليل؛ وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه -إذا لم يقيد-، فإذا قُيِّد؛ صار واضحا، كما أن إطلاق المقيد رأي في ذلك المقيد معارض للنص -من غير دليل-» اهـ([10]).

ثم قال: «الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرا في الجملة مما يتعلق بالعبادات -مثلا-، فأتى به المكلَّف في الجملة أيضا؛ كذكر الله، والدعاء، والنوافل المستحبات، وما أشبهها -مما يعلم من الشارع فيها التوسعة-؛ كان الدليل عاضدا لعلمه من جهتين: من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به؛ فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة، أو زمان مخصوص، أو مكان مخصوص، أو مقارنا لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك -بحيث صار متخيلا أن الكيفية أو الزمان أو المكان مقصود شرعا، من غير أن يدل الدليل عليه-؛ كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه» اهـ([11])، ثم مثَّل بالذكر والدعاء –كما تقدم في كلام شيخ الإسلام([12])-.

وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- مخاطبا أحدَ جهالِ عصره: «وأما قولك: «أمر الله بالصلاة على نبيه -على الإطلاق-»؛ فأيضا أمر الله بالسجود -على الإطلاق- في قوله: ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا([13])، أفيدل هذا على السجود للأصنام؟! أو يدل على الصلاة في أوقات النهي؟!

فإن قلت: ذاك قد نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-.

قلنا: وكذلك هذا، نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البدع، وذكر أن «كل بدعة ضلالة» اهـ([14]).

قلت: ونحن نُورِدُ الأمثلة الواردة في هذه النقول على المأربي؛ فما كان من جوابه؛ فهو عين جوابنا!!

وكما فعلنا فيما مضى؛ فنقول تنزُّلًا مع المأربي:

لئن سلَّمنا بجواز اقتراف الجاسوس للكفر -من غير إكراه-؛ فهذا موطن خاص، يُستثنَى من النص والإجماع، ومعلوم أن المخصوص لا يُقاس عليه، وإلا لبطلت خصوصيته، مع ضرورة استحضار ضوابط النظر في المصالح والمفاسد([15])؛ وأنتم تخالفون في ذلك كله: فقد قِسْتُم على المخصوص، ولم تتقيدوا بالضوابط؛ فعاد صنيعكم هباءً منثورا!!

وقد بقي للمأربي شيء أخير، حاول به تبرير شبهته، وهو من جنس ما تقدم؛ إلا أننا ننظر فيه بخصوصه، والله المستعان.

كتبه

أبو حازم القاهري السلفي

الجمعة 22/شعبان/1435



([1]) قال المأربي: ذكره ابن هشام في «السيرة»، انظر قول المحقق في (4/73-74) برقم (1740)، وعزاه إلى الطبري، والحاكم، والبيهقي؛ وصححه.

([2]) «اقتضاء الصراط المستقيم» (471).

([3]) «المختصر» (117-118).

([4]) بقطع النظر عن صحة ما استدل به المأربي؛ فاتخاذ الجاسوس وارد في وقائع أخرى، أشهرها وأصحها: قصة الحديبية المعروفة.

([5]) «اقتضاء الصراط المستقيم» (472).

([6]) الأحزاب: 41.

([7]) الأعراف: 55.

([8]) البردان: الصبح والعصر.

([9]) «مجموع الفتاوى» (20/196-198).

([10]) «الاعتصام» (2/63).

([11]) «الاعتصام» (2/69).

([12]) وله تقرير أصولي نفيس جدا لهذه القاعدة في «الموافقات» (3/252 وما بعدها)، وما منعني من نقله إلا طوله، فلا يفوتنَّك -طالبَ التحقيق-.

([13]) الحج: 77.

([14]) «الدرر السنية» (10/42).

([15]) قد أوضحتُ هذا مفصَّلًا -ولله الحمد- في أصل الكتاب: «النقض على أبي الحسن المأربي»، وذكرتُ في الحلقة الأولى أن هذه المقالات مُسْتَلَّةٌ منه.

لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي إف اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت