تهافت الع"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :540008
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الثانية عشرة من تهافت العلمانية

المقال
تفريغ الخطبة الثانية عشرة من تهافت العلمانية
5687 زائر
14/03/2014
أبو حازم القاهري السلفي

تهافت العلمانية

(الخطبة الثانية عشرة)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فننتقل إخوة الإسلام إلى قسم المعاملات من الشريعة الإسلامية المطهرة بالتعرف على بعض ما فيه من مظاهر الحكمة الإلهية في التشريع.

وأول ما نبدأ به حديثنا بيان القاعدة العامة التي ينبني عليها التشريع في المعاملات، وهي أن الأصل في المعاملات الإذن والإباحة، الأصل في المعاملات التي تجري بين الناس في حياتهم الإذن والإباحة خلافا للعبادات؛ كما تقدم.

فإن العبادات مبناها على الحظر والتوقيف، فلا يجوز إتيان شيء منها إلا بنص، وأما المعاملات فلا، الأمر فيها واسع، والإذن فيها مكفول، فيجوز للناس أن يستحدثوا في معاملاتهم ما شاءوا، ولا يلزمهم أن يكون هناك نص خاص في كل معاملة يأتونها، وهذا الأمر في حد ذاته مظهر جليل من مظاهر الحكمة.

فإن العبادات لا مجال فيها للعقل ولا الرأي ولا القياس، فلم يوكل الناس إلى أنفسهم فيها، لم يوكل الناس في باب العبادات إلى أنفسهم وآرائهم وعقولهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يميزوا بأنفسهم ما يجوز أن يتقرب به إلى الله وما لا يجوز، فاقتضت الحكمة أن يكون هذا الباب مبنيا على الإذن من الله -تعالى-، لا يجوز أن يأتي العبد فيه شيئا إلا إذا كان معه إذن خاص من رب العزة -تبارك وتعالى-.

وأما المعاملات فإن العقل فيها له مجال، الناس يستطيعون في حياتهم أن يتعاملوا بما يرون أنه نافع لهم، ويمكنهم أن يدركوا ذلك بعقولهم ورأيهم، ولو تطلب الأمر في كل معاملة نصا خاصا لشق ذلك جدا على الناس، فاقتضت الحكمة أن يكون الباب في المعاملات مفتوحا، وأن يكون الأصل فيها الإباحة، ولكن لما كان يمكن للناس أن يحدث لهم ضرر في معاملاتهم، ولما كان يمكن أن يحدث بينهم فساد وخلل في هذا الباب، فقد ضبطته الشريعة، جعلت الأصل فيه الإباحة، ولكنها ضبطته بضوابط عامة تكفل تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ لأن المعاملات إنما يرجى منها الخير والنفع، لا يتعامل الناس فيما بينهم إلا بما يرجون فيه صلاحهم ونفعهم، ولكنهم قد يجورون، وقد يميلون عن القصد، وقد يحدث بينهم فساد وضرر، فضبطت الشريعة هذا الباب بالقواعد العامة، والأصول الجامعة التي تحافظ على المعاملات في إطارها المشروع.

ويمكنك أن ترى هذا جليا في مثل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان صرف ومخيلة»، فجمع -صلى الله عليه وسلم- في هذه الكلمات الجامعات الأمر كله، بين أن الأصل في العادة والمعاملة الإباحة «كل ما شئت، والبس ما شئت»، ولكنه ضبط الأمر لئلا يحدث فيه التعدي، فقال: «ما أخطأتك خصلتان صرف ومخيلة».

فهذه قاعدة الشريعة العامة في باب المعاملات، الأصل فيها الإباحة، لا يشترط في كل صورة من صور المعاملة، وفي كل نوع من أنواعها أن يكون هناك إذن خاص ودليل خاص، ولا يشترط أن يتعامل الناس فيما بينهم بمثل ما كان يتعامل به النبي -صلى الله عليه وسلم- والسلف، ولكن هناك قواعد عامة مرجعها إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد، فمتى وقع في المعاملة ضرر فإن الشريعة تمنعها لأنها تمنع الضرر.

هذه خلاصة الأمر -بارك الله فيكم-.

ونحن -إن شاء الله تعالى- سنقتصر في قسم المعاملات على بابين كبيرين، وهما باب البيوع، وباب الأنكحة.

فأما باب البيوع، فإن الله -تعالى- جعل الأصل فيه الإباحة، فقال -عز وجل-: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ ﴾ [البقرة: 275]، وقال -تعالى-: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ﴾ [النساء: 29]، وقال -تعالى-: ﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ [البقرة: 282].

والبيع، والاكتساب بشكل عام، والتجارة بشكل عام سنة الأنبياء والمرسلين، وسنة السلف، فلم يزل الأنبياء والمرسلون على الاكتساب والتبايع، ولم يزل سلف الأمة الصالحون على ذلك.

والبيع من أسباب الحياة، لا تقوم إلا به، فإن العبد محتاج إلى ما في يد أخيه، ولا يتوصل إليه إلا بالبيع، فكان البيع من ضروريات الحياة.

والبيع عادة ومعاملة، والأصل فيها الإباحة -كما عرفت- فكان البيع مباحا، وهو من الأشياء النافعة، والأصل في الأشياء النافعة الإباحة -أيضا-، فكان البيع مباحا.

والبيع فيه الغناء والتعفف، فالناس إذا تبايعوا أغنى بعضهم بعضا، وتعفف بعضهم عن مسألة بعض، فكان في ذلك حفظ لمروءتهم، وحفظ للتكافل والتعاون والمودة بينهم.

والبيع فيه جانب تعبدي لطيف، وهو جانب التوكل على الله، فإن الذي يشتغل بالبيع والتجارة يعمل في شأنه ولا يدري أيربح أم يخسر، وهو متخذ لأسباب المعاملة، ولا يدري ما رزقه عند ربه -عز وجل-، فهذا يدفعه إلى التوكل عليه، والتفويض إليه، والإسناد إليه، والتعلق به وحده لا شريك له، فكان البيع محققا لجانب العبادة، وهي الغاية التي لأجلها خُلق الخلق.

فهذا هو الكلام على مشروعية البيع من حيث الإجمال، وما فيه من الحكمة العامة، وإذا تأملت في تفاصيله وأحكامه ومسائله، فإنك تجدها ظاهرة في الحكمة، محققة للمصالح، ودارءة للمفاسد؛ كما أشرنا إليه من وجود القواعد العامة التي تضبط المعاملات.

فالشريعة أباحت البيع، ولكنها اشترطت له شروطا في عقده بما يحقق المصلحة، ويدرء المفسدة.

فمن الشروط ما يعود إلى العاقد، وهما المتبايعان، فلا بد أن يكون العاقد جائز التصرف، أي: لا بد أن يكون غير ممنوع من تصرفه في هذا البيع وفي غيره من المعاملات، وذلك بأن يكون بالغا، عاقلا، حرا، رشيدا، فلا يجوز -مثلا- أن يكون محجورا عليه بسفه أو فلس، فإن مثل هذا لو تعامل أضر بنفسه وأضر بالناس، فلم تبح الشريعة له تعامله، ومنعت بيعه وشراءه.

ومن الشروط أن يكون العاقد مالكا للمبيع، فلا يجوز لأحد أن يبيع ما لا يملك؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تبع ما ليس عندك»، فمن باع شيئا ليس في ملكه، فقد أضر بالناس، وغرر بهم، وأحدث لهم الفساد والضرر والخلل، فالشريعة منعت هذا لما يكون فيه من الضرر.

ومن الشروط ما يعود إلى المبيع نفسه، لا بد أن يكون معلوما للمتبايعين، فإن المبيع المجهول فيه ضرر، وفيه مفسدة، وفيه تغرير، فلم تبح الشريعة بيعه.

ولا بد أن يكون المبيع مباحا، فلو كان محرما في الشريعة -مثلا- فإنه لا يجوز بيعه، والقاعدة العامة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه»، ولا يحرم الله -تعالى- إلا ما فيه المفسدة والضرر؛ كما عرفنا مرارا، فكيف يجوز أن يباع؟ وكيف يجوز أن يروج بين الناس؟ فاقتضت الحكمة أن يمنع من بيع مثل هذه الأشياء.

ومن الشروط ما يعود إلى صيغة البيع نفسها، وصورته وصفته، فلا بد أن يكون البيع عن تراض؛ كما قال -تعالى-: ﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ﴾ [النساء: 29]، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنما البيع عن تراض»، ولهذا كان المرجح عند أهل العلم أنه متى وقع في البيع ما يدل على التراضي نفذ، فلا تشترط فيه صيغة بعينها، ولا يشترط فيه لفظ بعينه، بل ينعقد عند الأكثرين بالمعاطاة، بمجرد الأخذ والرد، بمجرد أن تأخذ السلعة من البائع، ويأخذ منك ثمنها، فقد انعقد البيع، لا يشترط أن تقول له شيئا، ولا أن يقول لك شيئا، طالما أن الصفة تدل على التراضي.

ولهذا شُرع الخيار في البيع، والخيار هو الاختيار بين إمضاء البيع وعدم إمضائه، وله صور عدة، منها خيار المجلس الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا»، فما دام البيعان في مجلس العقد، فإن البيع لا يلزم، ويجوز لأحدهما أن يستغني عنه، ولا يمضيه، فإذا وقع التفرق عن المجلس، فقد لزم البيع، فالصورة الأولى التي هي صورة الخيار في المجلس فيها مراعاة لمصلحة الطرفين، والصورة الثانية التي هي الحكم بإمضاء البيع بمجرد التفرق فيها كذلك مراعاة لمصلحة الطرفين، وفيها درء للاضطراب والفوضى؛ لئلا يمضي المشتري مثلا ثم يقول من بعد ذلك: لم أرغب في المبيع، فهذا أمر يؤدي إلى الفوضى والاضطراب، فكان لا بد له أن يعلم أن البيع قد مضى بتفرقه عن صاحبه الذي كان معه في مجلس العقد.

فكل هذه أمور عامة تحقق المصالح في البيع، وتدرء المفاسد، ويتأكد هذا بمعرفة بعض الأنواع التي نهت الشريعة عن التبايع فيها؛ كما سنبينه -إن شاء الله تعالى-، ونسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا لما فيه الخير.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوة الإسلام عباد الله، إن الشريعة نهت عن بيع بعض الأشياء والتعامل فيها، وما ذلك إلا لتحقيق ما ذكرناه من القاعدة العامة الجامعة التي هي تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ وكما ذكرنا فإن المعاملة متى انبني عليها ضرر مُنعت، فإن الشريعة تمنع الضرر، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا ضرر ولا ضرار»، فمن هاهنا نستطيع أن نفهم التوجيه العام لكل ما منعت الشريعة منه في باب البيوع، فما من شيء منعت منه الشريعة إلا وفيه ضرر، وما منعت منه الشريعة إلا لدرء ما فيه من الضرر، وهذا في صور متعددة، فمنها:

تحريم بيع ما هو محرم في ذاته؛ كمثل: الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام»، فهذه أشياء محرمة لذاتها في الشريعة، وقد ذكرنا آنفا أن القاعدة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه»، فكل ما هو محرم لذاته في الشريعة، فلا يجوز التعامل فيه بيعا ولا شراء ولا غير ذلك؛ لأن التعامل فيه يؤدي إلى ترويجه بين الناس، ويؤدي إلى إقراره، ويؤدي إلى تعميم ما فيه من الضرر والمفسدة، وهذا أمر لا تقره الشريعة بحال.

ومن ذلك: تحريم ما يسمى ببيع الغرر، وهذا الأمر في حد ذاته قاعدة مستقلة من قواعد البيوع، لا يجوز بيع الغرر، والغرر: كل ما كان فيه تغرير بك، كل ما طُوي عنك سره، ولم تظهر لك حقيقته، يدخل في ذلك أصناف عدة، منها: المجهول، لا يجوز بيع المجهول لما فيه من الغرر والخداع، لا يجوز أن تشتري شيئا لا تعرفه، ولا تعرف صفته، ومن بيع الغرر: بيع غير المقدور على تسلمه، فقد تعرف المبيع، وتعرف صفته ولكنك لا تستطيع أن تتسلمه؛ كمثل ما قال أهل العلم: بيع السمك في الماء، والطير في الهواء، والجمل الشارد، والعبد الآبق، فكل هذه أشياء غير مقدور على تسلمها، فبيعها غرر لا يجوز.

ومن ذلك: بيع ما لا يملكه الإنسان، كما سبق التنويه به، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تبع ما ليس عندك»، فلا يجوز لأحد أن يبيع شيئا ليس مملوكا له، كيف يبيع شيئا ليس مملوكا في يده، وليس تحت سلطانه وتحت ضمانه؟! إذا باعه على هذه الشاكلة فإنه يضر الناس، ويغرر بهم، فنهت الشريعة عن ذلك، إلى غير ذلك من صور شتى، كلها تدخل في بيع الغرر، والضابط العام -كما ذكرت-: كل ما فيه تغرير، كل ما فيه جهالة، كل ما فيه كتمان لحقيقة المبيع، وعدم علم به.

ومما منعته الشريعة من أمور البيع -أيضا-: بيع ما فيه غش؛ كما ثبت في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر على رجل، وبين يديه صبرة طعام، فوضع -صلى الله عليه وسلم- يده في أسفل الطعام، فأصابه بلل، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟»، فقال: أصابته السماء يا رسول الله، أي: أصابه المطر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشنا فليس منا»، فكل بيع فيه غش وخداع وكتمان للعيوب ونحو ذلك، فهو حرام، لا يجوز لما فيه من الضرر والتغرير والفساد والخلل، فهذا -أيضا- مما منعت منه الشريعة.

ومما منعت منه الشريعة -أيضا- بيع ما فيه ضرر بالغير؛ كمثل البيع على بيع أخيه، نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع المسلم على بيع أخيه، وصورة ذلك: أن تعلم أن أخا من إخوانك ذهب إلى رجل حتى يشتري منه شيئا، فتذهب للبائع فتقول له: افسخ البيع وأنا أشتري منك بثمن أعلى، أو تذهب للمشتري فتقول له: افسخ البيع وأنا أبيعك بثمن أقل، فهذا بيع على بيع أخيك، لا يجوز، لما فيه من الإضرار به، ولما فيه من تضييع روح الأخوة والمودة بين المسلمين.

ومما فيه إضرار بالغير -أيضا-: الاحتكار، قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحتكر إلا خاطئ»، الاحتكار مفسدة عظيمة، وظلم بين، وإضرار ظاهر بالناس، وكل هذا لا تقره الشريعة، فمنعت من الاحتكار.

ومما لا يجوز بيعه -أيضا-: بيع ما كان حلالا في ذاته إذا أدى إلى حرام؛ لأن قاعدة الشريعة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فقد يكون الشيء حلالا في ذاته، ولكنه يستعمل استعمالا معينا يؤدي به إلى الحرمة، فالشريعة لا تبيحه والحال هكذا؛ كمثل بيع العنب لمن يتخذه خمرا، العنب مباح، وبيعه حلال، ولكن إذا علمت من شخص معين أنه إذا اشترى منك العنب اتخذه خمرا، فإنه لا يجوز لك أن تبيعه.

ومما منعت منه الشريعة -أيضا، وبه نكتفي-: الربا.

يقول الله -تعالى-: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، فجعل الربا قسيما للبيع، وقال -عز وجل-: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 278-279]، وتحريم الربا من المعلوم بالاضطرار في دين الإسلام، والعلة في ذلك الضرر البين الذي تشتمل عليه المعاملات الربوية.

فإن الربا على قسمين: قسم يسمى بربا الفضل: وهو كأن تبيع الدرهم بدرهمين، الجنيه بجنيهين في مجلس واحد، تأخذ من رجل جنيها، وتعطيه جنيهين، هذا هو ما يسمى بربا الفضل.

والقسم الثاني: ربا النسيئة: هو الذي يكون فيه تأجيل في المدة، تأخذ منه الآن جنيها، ثم تعطيه بعد أسبوع -مثلا- عشرة.

هذان قسمان للربا، والضرر فيهما بين، فإن فيه أكلا لأموال الناس بالباطل، هذه الزيادة ما مسوغها؟ ما سببها؟ لماذا يحصل عليها الإنسان؟ ما مقابلها؟ هذا أكل لأموال الناس بالباطل، وأخذ لأموالهم بدون وجه حق، وإذا كان الربا موجودا في قرض مثلا فإن هذا يدفع إلى استغلال الحاجة، فإن المقترض لا يقترض غالبا إلا لحاجة وضيق، فإذا اشترطنا عليه زيادة في الرد، نقرضه ألفا ثم نأخذ من بعد ذلك ألفين، فهذا استغلال لحاجته، وهذا إضرار بين به، إلى غير ذلك من المفاسد التي يذكرها العلماء من الناحية الاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك.

فالربا مفسدة بحتة، ومضرة محضة، فلم تبحه الشريعة أبدا، بل قال -صلى الله عليه وسلم-: «درهم ربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية»، فاعتبر بهذا -رحمك الله-، واعتبر بقول الله -عز وجل- أيضا-: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276]، ما وقع الربا في مجتمع إلا ونزعت منه البركة، ما وقع الربا في مجتمع إلا وفشا فيه الفساد، ما وقع الربا في مجتمع إلا وفشت فيه العداوة والبغضاء والجرائم والسرقات، وذلك قوله -تعالى-: ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]، فلنتق الله ربنا، ولنعرف حدود شريعتنا، حتى نلزمها ولا نحيد عنها.

فهذه جملة مختصرة إخوة الإسلام في باب البيوع، ومن خلالها تعرف الحكمة الباهرة في تشريع رب العزة -تبارك وتعالى- في هذا الباب الجليل الذي تقوم عليه حياة الناس، ونسأل الله -تعالى- أن يوفقنا دائما لما فيه الخير.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت