تهافت العلمانية
(الخطبة الخامسة عشرة)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهذا أوان الانتقال إلى القسم الخامس والأخير من أقسام الشريعة المكرّمة، وهو قسم العقوبات.
وهذا القسم هو الذي يخصه أعداء الشريعة بالنظر والكلام، والنقض والتعقب، محاولين من خلاله الطعن في الشريعة، وتسفيهها، ورميها بالقسوة والوحشية، وعدم ملائمة العصر.
وكما فعلنا في الأقسام الماضية، فإننا نفعل -إن شاء الله تعالى- في هذا القسم، مع مزيد بيان وتفصيل في صورة الرد على بعض الشبهات الظاهرة، التي يشغب بها أعداء الشريعة على حكم ربنا -جل وعلا-.
وأول كلامنا -إن شاء الله تعالى- أن نبين الحكمة العامة من مشروعية العقوبات.
فاعلم -رحمك الله تعالى- أن الله -عز وجل- خلق الخلق لعبادته، والقيام بطاعته، واستعملهم واستخلفهم في هذه الأرض، وحتى يتحقق التكليف والابتلاء، فقد ركَّب فيهم الشهوات والشبهات والأهواء، وخلق الخير والشر، والصلاح والفساد، والحق والباطل؛ كما سبق بيانه مفصلًا.
فلزم من ذلك أن يكون الشر واقعًا في هذه الأرض، وأن يفشو فيها الفساد، وأن يستطيل فيها الأشرار المفسدون الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فاقتضت حكمة ربنا -جل وعلا- أن يكون هناك ما فيه مواجهة لفساد هؤلاء، فإنهم لو تركوا لهلك الحرث والنسل، واضطربت الحياة وفسدت، واختلت أوضاع الناس ومجتمعاتهم، فكان لا بد من مواجهة الشر والفساد وأهلهما.
والله -جل وعلا- لما خلق الخلق، جعل فيهم وازعًا وعظيًّا، فمن أراد أن يأتي شرًا أو معصية، كان هناك وازع وعظي يمنعه من ذلك، فتأتي فطرته بما جبلت عليه من معرفة الحق والباطل والصواب والخطأ تنبهه وتقول له: افعل كذا، واترك كذا، وتجنب الشر والفساد والضرر، وافعل ما فيه خير وصلاح ورشاد، ولكن لغلبة الأهواء والشهوات، لا يكفي هذا الوازع، ولا يكفي من يقوم به من الناس من الدعاة والواعظين، فمهما وُعظ المفسد فإن شهوته تتغلب عليه، وهواه يتسلط عليه، فيأتي بالشر والفساد، مهما وُجه له من الوعظ والتذكرة.
فاقتضت حكمة الله -تعالى- أن يكون هناك وازع أشد وأقوى لمجرد الوعظ والتذكير، وهو العقوبة الحسية في هذه الحياة الدنيا.
فإذا عرف المفسد أنه إن أتى بفساده عوقب في هذه الدنيا عقابًا حسيًا بضرب أو حبس أو ما أشبه ذلك، فإن هذا يكون أدعى لردعه وزجره.
هكذا خلق الله الخلق، وهكذا فطر العباد، وهكذا يتعاملون في حياتهم الدنيوية، هم في دنياهم محتاجون دائما إلى تشريع ما فيه عقوبة وزجر للأشرار والمفسدين، دائما يحرصون على ذلك ودائما يسعون إليه، فلو فرضنا أن دولة قامت بلا دين، للزم أن يكون فيها قوانين وتشريعات تمنع الشر والفساد.
فهذا هو أول ما ننتبه له- إخوة الإسلام-.
أول ما ننتبه له في سياق الكلام على تشريع العقوبات أن نعرف الطبيعة والفطرة التي خلقنا عليها، لا بد من زجر وردع للمفسدين، لا بد من أحكام صارمة قوية تمنع هؤلاء من إتيان ما يفسدون به الأرض وأهلها.
ثم إنك إذا تأملت من بعد ذلك، فإنك تجد أن هذه العقوبات هي التي تكفل أمن المجتمع، وصلاحه، وقوته -على حسب ما شرحنا، وعلى حسب ما مضى شرحه من قبل- فإن المجتمع كلما فشت فيه الفضيلة، كان أقوى وأفضل، وكلما فشت فيه الرذيلة، كان أضعف وأسوأ، فالعقوبات - كما عرفت- من شأنها أن تمنع الرذيلة أو تحجمها، وهذا هو الذي يحقق فضيلة المجتمع وقوته، وهو الذي يحقق فيه الأمن والسلامة، فإن المفسدين إذا أطلقت أيديهم في المجتمع أفسدوه وضيعوه واستطالوا على الدماء والأعراض والأموال والمقدرات، فصارت الحياة حياة بهيمية، يأكل فيها القوي الضعيف، فكان لا بد من تحقيق أمن المجتمع وسلامته، كان لا بد أن يعيش المسلم في مجتمعه آمنًا مطمئنًا على نفسه وماله وعرضه، ولا يكون ذلك إلا بحمايته من الصائلين على ذلك، ولا تكون الحماية إلا بالعقوبة والردع والزجر.
وإذا تأملت في العقوبات -أيضًا- فإنك تجد فيها لونًا آخر من ألوان الحكمة وهو تقديم حق المجموع على حق الأفراد، فإنه ربما يأتي من يقول: هؤلاء الأفراد الذين سيعاقبون لا شك أنهم يتضررون، هذا الذي يؤتى به فيجلد أو يحبس أو يقتل، أليس إنسانًا؟ أليس بشرًا؟ أليس في هذه العقوبة إضرار به؟ فنقول بلى، ولكننا نحقق الضرر لهذا الفرد، حتى نمنع الضرر على مجموع الأمة، فإننا بين ضررين: إما أن يترك هذا المفسد على فساده فيضر إضرارًا عامًا بالأمة، وإما أن يضرب على يده فيضر إضرارًا خاصًا به حتى نمنع الضرر الأعم عن الأمة، فأي الضررين نقدم؟ وأي المصلحتين نقدم؟ أنقدم مصلحة الفرد؟ أم مصلحة المجموع؟ ثم إن هذا الضرر الذي لحق بهذا الفرد، ما لحق به ظلمًا وعدوانًا، بل هو مستحق له، وهكذا فطر الله الخلق -كما أشرتُ إليه- من أتى ذنبًا عوقب، من أتى شرًا حوسب، من أتى فسادًا منع وضرب عليه، هكذا فطر العباد، فهذا الذي أحدثنا فيه الضرر من المجرمين ما أحدثنا به إلا لإجرامه وفساده، فهو الذي جر هذا على نفسه، وهو الذي استحق العقوبة بفعله، فكيف يقال من بعد ذلك إننا نرعى مصلحته، فضلًا عن أن نقدم مصلحته على مصلحة المجتمع؟
هذا -أيضًا- مما يستحق أن ننتبه له ونعرفه في مواطن الحكمة في التشريع.
وأخيرًا- مما يسمح به المقام- أن نجيب عن سؤال ولا بد أن نستحضر الجواب دائمًا في كل ما سيأتي الكلام عليه من العقوبات الشرعية، لقد قلنا: إن المجرم يعاقب، فعلى أي صفة تكون عقوبته؟ كيف نعاقبه؟ أيكون العقاب بحبس أو ضرب أو بأخذ مال، أم تشهير أم قتل أم غير ذلك؟ وإذا كان هناك قتل مثلًا، فكيف يقتل؟ ما الصفة التي يقتل بها؟
الجواب: أن هذا كله مفوض إلى الحَكَم الذي يحكم بين العباد، وهو الله -جل في علاه-.
فالله -عز وجل- هو خالق الخلق، وفاطرهم وبارئهم، وقد عرفت أن الشريعة كلها مبناها على التكليف والأمر والنهي وتحقيق مراد الله من الخلق، فإذا أردنا أن نعرف كيف نعاقب المفسدين، فإننا نلجأ إلى حكم ربنا، نقول بلسان الحال: يا رب بماذا حكمت في هؤلاء؟ كيف نعاقب هؤلاء؟ كيف نحاسب هؤلاء؟ فإذا قضى الله أمرًا وحكمًا، فلا رادّ لأمره ولا حكمه قط، ولا اعتراض ولا سخط ولا ضرب للأمثال، ولا يقال لما ولا كيف؛ لأن الله هو الذي حكم، ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾[الشورى: 10]. فحكمه إلى الله، فإذا حكم الله -عز وجل- أن يعاقب المفسد بكذا فسمعًا وطاعة، وإذا حكم بأن يحاسب بكذا فسمعًا وطاعة، وإذا حكم بعقوبة مقدرة محددة فسمعًا وطاعة، لا تتجاوز هذه العقوبة أبدًا فضلًا عن الاعتراض عليها، وضرب الأمثال لها، ورميها بكذا أو كذا بما لا يليق بملوك الدنيا، فكيف بملك الملوك؟!
هذا أمر آخر- إخوة الإسلام- لا بد أن نستصحبه: الإيمان بالله -عز وجل- ربًا وإلهًا وخالقًا وحكمًا، فلسنا نأتي بشيء من عند أنفسنا، إذا قلنا: إن الزاني يعاقب بكذا، وإن السارق يعاقب بكذا، وإن المرتد يعاقب بكذا، وإن القاذف يعاقب بكذا، فلسنا نحن الذي نقول، وإنما الله هو الذي قال، فالذي يعترض لا يعترض علينا، وإنما يعترض على الله، فعليه أن يتدبر، وعليه أن يعرف شأنه، وعليه أن يعرف حقيقة ما يفعل.
فهذا الذي ذكرناه- إخوة الإسلام- إذا ضممت بعضه إلى بعض، واستحضرته دائمًا في جميع شؤونك وفي جميع أحوالك -لا نتكلم على العقوبات وحدها- ، ولكننا نخصها بالكلام ردًا على هؤلاء المسعورين المنسوخين الذين يدعون أنهم من المسلمين، ولولا نظر في شروط أو موانع لكان لنا كلام آخر، لكن هذا الذي يقال ليس من الإسلام ، وليس من دين الله -عز وجل-، ليس من الإسلام أن يسب الله، ليس من الإسلام أن يطعن في حكم الله، ليس من الإسلام أن تعاب شريعة الله، فليتقوا الله ربهم، وليعرفوا قدر أنفسهم، ولينظروا فيما يقدمون ليوم المعاد، فإنهم موقوفون مسؤولون، وليس هناك ما هو أشنع من الطعن في الرب -عز وجل-، وتسفيه حكمه وقضائه، فنحن نخص الشريعة بهذا الكلام، وسندندن حوله كثيرًا.
عليك أن تعرف، أنك عبد مخلوق مربوب، وأن الله -عز وجل- كلفك وأمرك ونهاك في كل شيء.
ففي أبواب العقوبات التي عرفنا الحكمة منها لا بد أن نرجع إلى الله، ولا بد أن ننفذ حكمه، وحكم الله -عز وجل- لا يكون إلا عدلًا، ولا يكون إلا رحمة، مهما ظن الناس خلاف ذلك، فاعرف هذا ، واستحضره دومًا، وسل ربك العافية من كل مكروه وسوء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم.
* الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام -عباد الله- ، بعد هذه المقدمة، ننتقل إلى الكلام على تفصيل العقوبات الشرعية، وما فيها من الأحكام العامة والحِكم الإجمالية، فنتكلم - إن شاء الله تعالى- عن ألوان وأنواع من العقوبات الشرعية مستعرضين فيها ما تقدّم فيها من الحكم والأحكام.
واعلم أولًا أن العقوبات الشرعية على قسمين: قسم يقال له الحدود، وهي العقوبات المقدّرة المحددة، فالعقوبة إن كانت مقدرة محددة، قيل لها حد، وهذا في اصطلاح العلماء وإلا فلفظ الحد في نصوص الكتاب والسنة أعم من ذلك، لكن في اصطلاح العلماء يطلقون كلمة الحد على العقوبة المقدّرة المحددة، فهذا القسم الأول.
والقسم الثاني: هو الذي يقال له: التعزير، وهو العقوبة التي لا تحديد فيها ولا تقدير، وإنما يوكل تحديدها إلى نظر الإمام والسلطان على حسب الجريمة في صغرها وكبرها، وعلى حسب حال من واقعها، إلى غير ذلك.
فالعقوبات الشرعية على هذين القسمين حدود وتعزيرات.
وإذا تكلمنا على قضية التقدير بالنسبة للحد، فإن مرجع ذلك إلى الشرع، الحدود عقوبات مقدرة محددة، فمن أين يأتي التقدير والتحديد؟ إنما يجيء من الشرع، فالله -عز وجل- هو الذي بين لنا أن حد المرتد كذا، وأن حد الزاني كذا، وأن حد السارق كذا، وأن حد شارب الخمر كذا، إلى غير ذلك.
فهذا تقدير في العقوبات وتحديد ما استفدناه إلا من الشرع، فلا بد أن يعلم هذا -أيضًا-، والتقدير من الله -تبارك وتعالى- على حسب ما شرحناه آنفًا- لا يكون إلا حكمة وعدلًا، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله.
ولا بد أن نلاحظ أمرًا عامًا في هذا التقدير وهو أن يتحقق به الردع والزجر، وهذا الأمر في ذاته من الحِكم في العقوبات، لا بد أن تكون العقوبة محققة للزجر والترهيب، فقد يأتي شخص بعقوبة ولكنها تافهة، لا قيمة لها، يقول مثلًا من زنا حبس، أو شهّر به، أو حلقت لحيته أو حلق رأسه، هذه عقوبة وهذا تأديب ولكنه تافه، لا يساوي حجم الجريمة، فلا بد أن تكون العقوبة محققة للزجر والترهيب على حسب الجريمة التي تحدث، ولهذا لم يفوضنا الله -عز وجل- في باب العقوبة-إجمالا- إلى عقولنا، بل هناك ما قدّر فيه تقديرًا وحدّد فيه تحديدًا وهو الحدود الشرعية، في الجرائم العظيمة الهائلة التي يشتد ضررها على الأمة وعلى الناس، إذا تكلمنا على الردة أو الزنا أو القذف أو السرقة أو شرب الخمر أو غير ذلك، فهذه أمهات الشرور والمفاسد، وهذه أمهات الجرائم والأضرار، لم يكلنا الله -عز وجل- فيها إلى أنفسنا، بل حدّد حدودًا وقدر العقوبات بما يلائم حجم هذه الجريمة ويحقق فيها الردع.
وأما ما سوى ذلك إلى الجرائم التي لا ترقى إلى هذه الجرائم العظيمة، فقد أوكلنا الله -عز وجل- فيها بحسب النظر، بحسب ما ينظر فيه الحاكم، وبحسب هذه الجريمة التي يقع فيها المجرم، فهذا الأمر في حد ذاته -أيضًا- من مظاهر الحكمة الإلهية البالغة، ومن مظاهر الدقة والإتقان في تشريع الله -عز وجل- وفي باب العقوبات.
فإذا عرفت هذا، فلننتقل مستعينين بالله -عز وجل- إلى أنواع العقوبات والحدود، ولنبتدئ بأول حد وهو أعظم الحدود؛ لأنه يتعلق بأعظم الجرائم ألا وهو حد الردة.
والردة بمعنى الرجوع، والمقصود الرجوع عن الإسلام إلى الكفر -نسأل الله السلامة والعافية-. فهذا أعظم الذنوب مطلقًا، وأعظم الجرائم مطلقًا: الكفر بالله -عز وجل-، والكفر بالله - كما سبق شرحه- يتحقق بإبطال ما هو معلوم بالدين بالضرورة، فمن أنكر واجبًا من الواجبات الظاهرة المتواترة، أو محرمًا من المحرمات الظاهرة المتواترة، أو سب الله -تعالى- أو رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أو أهان المصحف، أو أهان شعائر الله -تعالى-، أو استهزأ بشيء من دينه وشرعه، أو عبد غير الله بذبح أو دعاء أو نذر أو غير ذلك، فكل هذا كفر بالله العظيم وخروج عن دين الإسلام، وهذه جريمة، وهي أعظم الجرائم؛ لأنها تتعلق بحق الخالق، بحق الله -عز وجل-، وحق الله -تعالى- هو أعظم الحقوق على الإطلاق، فشرع الله -عز وجل- عقوبة مقدرة- أي حدًا- لهذه الجريمة وهي القتل.
والأدلة على ذلك متواترة في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»، التارك لدينه الذي يترك دين الإسلام ويكفر بالله تعالى، والمفارق للجماعة أي جماعة المسلمين لا جماعة كذا أو جماعة كذا، فالذي يفارق الجماعة الفلانية أو الجماعة الفلانية لا يصدق عليه هذا الكلام، وقد تحدثنا من قبل عن المنحرفين وأهل التكفير والتفجير، فتذكر، فالمفارق للجماعة هو المفارق لجماعة المسلمين، هو الذي يترك دين الإسلام، فلا يصير من المسلمين، وإنما يصير - والعياذ بالله- من الكافرين المشركين.
وأخرج الإمام البخاري في صحيحه، عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:« من بدّل دينه فاقتلوه ».
وفي صحيح البخاري - أيضًا- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- إلى اليمن، حتى يعلم أهلها دينهم، وبعث على إثره معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه-، فلما قدم معاذ على أبي موسى نظر فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا؟ ، فقال : هذا كان يهوديًا، ثم أسلم، ثم تهوّد -أي صار يهوديًا مرة أخرى-، فقال معاذ -رضي الله تعالى عنه-: لا أقعد حتى يقتل، قضاء الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وعلى هذا أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- في حروب الردة المعروفة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لما كفر من كفر من العرب، واتبعوا المتنبئين والدجالين، أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على كفرهم وردتهم ومقاتلتهم مقاتلة الكافرين المشركين.
وهذا الإجماع هو أصل إجماع الأمة في هذه المسألة، فقد أجمعت الأمة قاطبة على أن المرتد يقتل، لا يعلم خلاف في ذلك عن أحد من الأمة أبدًا، جميع الفقهاء وجميع العلماء من المذاهب الأربعة ومن غيرهم على أن المرتد حده القتل، فالذي يخالف هذا -إذن- لا يخالف نصًا فقط، بل يخالف إجماع أمة، قد علم بالضرورة ودون في كتب الشريعة والإسلام.
فهذا هو تأصيل المسألة، المرتد حده القتل.
وهل هذا الحد فيه حكمة؟ لماذا عين القتل؟ لماذا لم نقل مثلًا: يحبس، يؤخذ من ماله، يضرب؟ أما القتل فهذا شديد، هكذا تسمع الآن اعتراضًا على الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولكننا نقول بل هذه العقوبة تحديدًا هي مقتضى الفطرة، الفطرة التي فطر عليها الإنسان لو رجعت إليها لأفتتك بأن الذي يرتد يقتل، لماذا؟ لأن الأمر -كما شرحنا- أن الردة تعد على حق الله، الذي هو أعظم الحقوق، المرتد يتنقص ربه، يسفهه، يتعدى على دينه وشريعته، الذي يترك دين الإسلام حقيقة أمره أن هذا الدين غير صحيح، أن هذا الدين ليس بشيء، أنه ليس مكلفًا بعبادة ربه -عز وجل- الذي خلقه وفطره، فكأنه يتعدى على حق ربه -عز وجل-، ويخرج عن إطار عبوديته التي خلق لأجلها، لا سيما إن كان هذا الكفر بتنقص واضح أو بيّن كالذي يسب الرب -عز وجل- نفسه، أو الذي يسب الدين نفسه، يقول: هذا دين تخلف، هذا دين لا يصلح، هذا دين رعاة الغنم، الذين ليسوا من أهل العصر، فلا يلتفت إليه، أو يسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيكذبه، يقول: هو كافر أو مجنون أو كذا أو كذا مما فيه سب وتنقص لجناب الرسول الكريم، فمثل هذا لو رجعت فيه إلى الفطرة لكانت عقوبته القتل، لا سيما وأن الشريعة قد بينت -كما سنعرف- أن الذي يقتل يُقتل، النفس بالنفس، مكافأة في الدماء، فكيف بحق الله -عز وجل-؟ إذا كان الذي يقتل إنسانًا، الذي يقتل مسلمًا، يقتل، فكيف بمن يسب ربه؟ كيف بمن يتنقصه؟ كيف بمن يسفه دينه وشريعته؟ فهذا الحد في الحقيقة هو مقتضى الفطرة، لو رجعت إلى فطرتك السليمة وعقلك الصريح، فلن تجد العقوبة أنسب من القتل.
وقد ذكرنا أن العقوبة لا بد أن تكون على قدر الجريمة، وأن تكون محققة للردع والزجر، فلو تأملت في أحوال المجتمع، وما يحقق الردع والزجر عن الكفر، لوجدت القتل أنسب العقوبات؛ لأن الكفر أمر عظيم، ولو ترك الناس إليه لتسارعوا فيه، هذا يكفر اليوم، وهذا يكفر غدًا، وهذا يكفر بعد شهر، وهذا يكفر بعد سنة، فهذه فوضى عقدية، فوضى دينية، والفوضى الدينية أشد من الفوضى الدنيوية، لقد ذكرنا آنفًا أن القاتل يُقتل، لماذا؟ لأنه يحدث فوضى في الدنيا، عندما يسفك دم هذا ودم هذا، يتعدى على الناس، يقتلهم، هذه فوضى في الحياة، هذه فوضى في الدنيا، فحتى يمنع هذا الشر، لا بد من القتل، فكيف بالفوضى في الدين؟ هذا يكثر اليوم، وهذا يسب الله، وهذا يسب الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وهذا يتنقص الشريعة، وهذا يسب الملة، ما هذا؟ كيف يترك الأمر هكذا؟ فكان القتل ملائمًا لهذه الجريمة، ومحققًا للردع والزجر ولا بد.
ثم إنه صيانة للدين نفسه، حتى يعظمه الناس، لو عرف الذي سيكفر أنه سيقتل إن كفر، أمسك ، واحترم الدين وعظمه، ولو في الظاهر، وقد علمتنا الشريعة أننا نتعامل بالظاهر، وليس لنا إلى سرائر الناس من سبيل، فقد يبطن الرجل الكفر- والعياذ بالله- ليس لنا إليه من سبيل، الله يحاسبه، لكن نحن نحتاج إلى حفظ الدين ظاهرًا، نحتاج إلى حفظ الشريعة ظاهرًا من المروق والتطاول والتسفيه، فالذي يريد أن يكفر، يريد أن يظهر كفره -والعياذ بالله- لو علم أنه سيقتل سيمتنع، وإن أراد أن يبطن كفره بعد ذلك، فأمره إلى الله، ولكننا حافظنا على الدين وحافظنا على المجتمع.
فهذه صيانة للدين ولا سيما من أعدائه المتربصين، فقد يكون هذا الذي سيكفر مدسوسًا، قد يكون مدسوسًا علينا، وقد ذكر الله -عز وجل- شأن هذا في القرآن، يقول الله -تعالى-: ﴿وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران: 72]، ما معنى هذا؟ كانوا يقولون للرجل: أظهر الإسلام بالنهار- مثلًا- ثم اكفر في آخره، لماذا؟ حتى يبين للناس أن هذا الدين لا يصلح، يقول: أنا دخلت في الإسلام فجربته فوجدته غير مناسب فتركته، فقد يكون هذا مدسوسًا، حتى يفصم عرى الدين، وحتى يهون من شأنه على أهله، فيستهين به المسلمون، فكان هذا التشريع وكانت هذه العقوبة محققة لجميع هذه المصالح ودارئة لجميع هذه المفاسد .
ولا بد أن نعود -كما قلنا - ونكرر دائمًا إلى أن هذا حكم الله، سواء عرفنا ما ذكرناه من الحكمة أم لا، فلا يسعنا إلا القبول والتسليم؛ لأن العباد عباد الله، والذي يحكم فيهم هو الله، فإذا حكم بحكم فلا بد من إنفاذه، ولا يجوز الاعتراض عليه.
نختم بالرد على الشبهة الشهيرة، وهي استدلالهم بقول الله -تعالى-: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، ويضمون إليها شبهة أخرى وهي أن حد الردة إنما ثبت في السنة لا في القرآن.
فنبتدئ بالشبهة الثانية، وجوابها ما شرحناه طويلًا وذكرناه مرارًا وتكرارًا من أن السنة شقيقة القرآن، لا يجوز الاستغناء عنها ولا يجوز أن يقال بزعمهم: القرآن فقط، ونترك السنة، فالسنة فيها التشريع، وفيها البيان، وفيها الشرح والإيضاح لأحكام الإسلام، فلا يجوز أن تترك، فإذا ثبت الحكم في السنة، فلا بد من الأخذ به كما يؤخذ بحكم القرآن سواء، على أنهم يتركون حدودًا في القرآن، فحد الزنا أين هو؟ في القرآن، وحد السرقة أين هو؟ في القرآن، ويضربون بهذا كله عرض الحائط. فالقضية عندهم ليست قضية قرآن ولا سنة، إنما القضية عندهم طعن في الدين، فهذا جواب هذه الشبهة.
وأما قول الله -تعالى-:﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، والسنة تفسر القرآن، لقد ذكرنا الأحاديث الواضحة الصريحة في أن من ارتد عن الإسلام قتل، ولا يجوز أن يترك على شأنه هذا ويقال له: اكفر إن شئت، فكان لا بد أن يكون هذا مفسرًا لقوله -تعالى-: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]. ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، أي: لا إكراه على الدخول فيه، من كان كافرًا من بدايته يهوديًا أو نصرانيًا أو مجوسيًا أو غير ذلك، وعرضنا عليه الإسلام لم نكرهه على الدخول فيه، إن شاء أسلم، وإن شاء لم يسلم، بمعنى أننا لا نكرهه ظاهرًا على الدخول في الإسلام في هذه الحياة الدنيا، فإن لم يدخل في الإسلام وجب عليه أن يدفع الجزية، حكم الله، لا حكم أحد من الناس، وليس هذا موضع الكلام على قضية الجزية، لكن الشاهد أننا لا نكرهه على الدخول في الإسلام، فإذا دخل في الإسلام، صار مسلمًا، التزم بهذا الدين، والتزم بميثاق العبودية الحقة لله -عز وجل-، فإن الأمر يختلف؛ لأننا لم نكرهه على الدخول في الإسلام، هل أكرهناه؟ هل هددناه؟ هل توعدناه بشيء؟ لا، إنه دخل طواعية واختيارًا، فلا يجوز له من بعد ذلك أن يخرج، لا يجوز أن نقره على الخروج من الإسلام، الأمر عندئذ صار مختلفًا؛ لأن خروجه من الإسلام بعد ذلك، فيه ما ذكرته آنفًا من تسفيه الله -عز وجل-، وتحقيره، وتحقير دينه، وما أشبه ذلك. فكان الخروج من الإسلام مختلفًا كل الاختلاف عن الدخول في الإسلام.
ثم إننا نقول، قد أشار القرآن نفسه إلى حد الردة، ذكرنا أن القرآن يفسر بعضه بعضًا، فالقرآن نفسه أشار إلى هذا الحد، كما في قوله -تعالى-: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾[البقرة: 217]، قوله -تعالى-: ﴿فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا ﴾، أي صار عملهم هباء، لا قيمة له، فهذا فيه إشعار بأنه وجودهم في هذه الدنيا لا داعي له، الذي يحبط عمله في الدنيا، هل يكون لوجوده قيمة؟ هل يكون لوجوده فائدة؟ فهذا إشعار وتنبيه في الآية الكريمة على أن وجود هذا الشخص كعدمه، فإذا أتت السنة بعد ذلك مفسرة ومفصلة لعقوبة معينة، فإن هذا لا يتعارض مع القرآن؛ لأن القرآن أخبرنا أن وجود هذا الشخص كعدمه، فإذا أتت السنة بإعدام الوجود، فإن هذا هو الذي أشار إليه القرآن.
وآية أخرى أصرح، في قول الله -تعالى-:﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ﴾ [المائدة: 33 ]. فذكر عقوبة القتل في حق من؟ الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض بالفساد، فالذي يكفر، أليس محاربًا لله ورسوله؟ الذي يكفر، أليس ساعيًا في الأرض بالفساد؟ بل هو أولى - كما ذكرنا- من الذي يقتل الأنفس، أو يسرق الأموال، أو يخيف السبيل، وهذه الآية في حد الحرابة، وسنذكره- إن شاء الله تعالى-، الذين يقطعون السبيل ويخيفون السبيل، فالكافر أولى بذلك، الكافر أعظم جرمًا وأشد خطرًا من الذي يقعد على طريق الناس فيقطعه، ويقتلهم، ويأخذ أموالهم، ويصنع كذا ويصنع كذا.
فالقرآن نفسه يشير إلى حد الردة، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، والسنة أتت بمزيد التفسير والتفصيل، فلا اعتراض، وهذا إجماع الأمة، وهذا حكم -تبارك وتعالى-، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.
نسأل الله -عز وجل- أن يقينا الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، وأن يغفر لنا ذنوبنا صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها ما علمنا منها وما لم نعلم، ونسأله -جل في علاه- أن يجعلنا بلدنا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين, وأن يكف أهل الشر والفساد بمنه وكرمه، إنه ولينا ومولانا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أقول ما تسمعون ويغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد و آله.
لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا
|