تهافت الع"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :542192
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الثالثة عشرة من تهافت العلمانية

المقال
تفريغ الخطبة الثالثة عشرة من تهافت العلمانية
5719 زائر
21/03/2014
أبو حازم القاهري السلفي

تهافت العلمانية

(الخطبة الثالثة عشرة)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فنستكمل إخوة الإسلام كلامنا على مظاهر الحكمة الإلهية في تشريع المعاملات، وقد ذكرنا أننا سنكتفي ببابين عظيمين، وهما البيوع والأنكحة، وقد تكلمنا على البيوع، وسنتكلم اليوم -إن شاء الله تعالى- على الأنكحة.

وأول ما نذكره -إن شاء الله تعالى- أن النكاح مشروع في الإسلام، وذلك مقتضى حكمة الله -جل وعلا-، فإن النكاح هو سبب النسل المشروع، وقد خلق الله -تعالى- البشر، وخلق فيهم التناسل والتكاثر، وجبلهم على ذلك حتى يحفظوا جنسهم ونوعهم، وتكثر أعدادهم فيعمروا الأرض، ويقيموا الحياة.

فشرع الله -تعالى- النكاح تحقيقا لهذا الأمر، وحفظا لهذا المقصد، وقد تبين لنا أن الخلق مخلوقون للعبادة، ولا شك أن التناسل والتكاثر يساعدان على ذلك، فالإنسان يتناسل حتى يكثر من عدد القائمين بالعبادة.

وكلما كثر التناسل -أيضا- كلما كان ذلك أقوى للأمة المتكاثرة، فكلما زاد عدد أمة ما، كلما كان ذلك أقوى لها، وأدعى للهيبة في نفوس أعدائها، ومعلوم تأثير كثرة العدد على النواحي العسكرية والسياسية ونحوها؛ ولهذا كان من كيد الأعداء لهذه الأمة أن يحرصوا على تقليل نسلها وعددها قدر الإمكان، وقد حض النبي -صلى الله عليه وسلم- على إكثار النسل، فقال: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم»، فكل هذه مقاصد شرعية شرع لأجلها النكاح حتى يكون محققا لها، وحتى يكون بديلا عن السبيل الآخر الضار المذموم الخبيث الذي هو الزنا -والعياذ بالله-.

فإن الزنا وإن كان سببا للنسل إلا أن فيه من المضرة والعار والخبث ما لا يخفى، وفيه من العبث بالأعراض والأنساب والأنسال ما لا يخفى؛ ولهذا اشتدت الشريعة في تحريمه كما هو معلوم، ورغبت في النكاح ترغيبا عظيما، فقال ربنا -جل وعلا-: ﴿ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [النساء: 3]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» أي: وقاية، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، ولما أراد بعض الصحابة -رضي الله عنهم- التبتل وترك النكاح رده عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: «لا رهبانية في الإسلام»، أو كما قال.

فالشريعة رغبت في النكاح لما فيه من النفع، وحذرت من ضده الذي هو الزنا لما فيه من الضرر، فهذا مظهر جليل من مظاهر الحكمة في تشريع النكاح.

وكما ذكرنا في شأن المعاملات، فإن قاعدة الشريعة ضبط المعاملات بما يكفل تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، فإن المعاملة لو أطلقت على عواهلها دخل فيها الضرر، ولحقها الخلل فكان لا بد من ضبطها، وهذه جادة الشريعة؛ كما شرحناه في البيوع.

وفي النكاح ترى ضبطه في مواطن عديدة، وأحكام شتى، تبدأ أولا من السعي في سببه، وذلك يكون بالخطبة واختيار الزوجين، فتجد أن الشريعة المطهرة شرعت الخطبة التي هي مقدمة النكاح وسببه، وشرعت في الخطبة من الأحكام ما يكفل تحقيق المصلحة المرجوة من النكاح، وبينت الشريعة الأحكام التي تتعلق باختيار الزوجين، فإن الزوجين كل واحد منهما شريك للآخر، وكل واحد منهما عون للآخر، وبهما تقوم الحياة، وتقوم الأسرة المسلمة، ويتحقق المجتمع المسلم، فكان لا بد أن يكون الاختيار في الأول سليما صائبا، وهو ما بينته الشريعة، وجامع ذلك في الدين والتقوى؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تنكح المرأة لأربع: لجمالها، ولحسبها، ولمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»، ولا شك أن الأمر كما قال -صلى الله عليه وسلم-، وهو على ما قال، فإن الخلل في ذلك يؤدي إلى الفساد كل الفساد، والفتنة كل الفتنة، فإذا رغب الناس عن التدين والاستقامة، ونظروا في متاع الدنيا الزائل، وعرضها الحائل، فاعتبروه في النكاح، فحدث عن الفساد والاضطراب حينئذ ولا حرج، هذا هو جامع الأمر، يتم اختيار الزوجين في الأساس على أساس الدين والتقوى والخُلق؛ لأن الديِّن التقي هو الذي يقيم حق الله في نفسه وفي غيره، فإن كان الزوج كذلك قام بحق زوجته، ورعاها، وحفظها، وأحسن عشرتها، وإذا كانت الزوجة كذلك فالأمر كذلك -أيضا-، وهو المقصود من النكاح، فإن النكاح ليس سبيلا لقطع الشهوة فقط، وليس سبيلا للاستمتاع فقط، بل هو وسيلة لإقامة الأسرة والمجتمع، ولا يكون ذلك إلا من خلال القيم والأخلاق والمبادئ، وأولى الناس بتحقيقها أهل التدين والاستقامة وتقوى الله -عز وجل- في الأمور كلها.

فلا بد أن يكون الاختيار على هذا الأساس، وإليه تعود كافة الأحكام التي بينتها الشريعة في شأن اختيار الزوجين.

ومن الأحكام المهمة -أيضا- التي نلفت النظر إليها، أن الشريعة شرعت للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، وإن كانت عنه أجنبية، وإن كان النظر إلى الأجنبيات حراما، ولكن في ذلك المقام لما يكون من مقصود النكاح شُرع النظر، فجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أنظرت إليها؟»، قال: لا، قال: «فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إذا تزوج الرجل المرأة فلينظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما» أو كما قال.

فتأمل في هذه الحكمة المعبر عنها بقوله: «فإنه أحرى أن يؤدم بينهما»، إن المرأة إذا كانت تسر زوجها إذا نظر إليها، وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك من صفات المرأة الخيرة «إذا نظر إليها سرته»، إن المرأة إذا كانت كذلك كان هذا أحرى للعشرة الحسنة فيما بين الزوجين، وكان أحرى لمحبة زوجها لها، وتعلقه بها، وإقباله عليها، وهو المقصود من النكاح، وفي هذا بيان واضح من الشريعة لحرمة الغرر في هذا الباب، فلا يجوز للمرأة أن تغر خاطبها، ولا أن تتشبع بما لم تعط، ولا يجوز لأوليائها أن يصنعوا ذلك لما فيه من عظيم الضرر، وكم من مشكلة تحدث بسبب هذا، يتضرر الزوج وينفر عن زوجته، وتستحيل العشرة بينهما، فيؤدي الأمر إلى الفساد، ومن ثم إلى الطلاق الذي لا يرغب فيه لذاته، فهذا كله من مظاهر حكمة الشريعة، والحرص على تحقيق المصالح ودرء المفاسد.

ثم إنك بعد ذلك إذا نظرت إلى نفس العقد -عقد النكاح- تجد كذلك الضبط والحفظ لما فيه من المقاصد، فاشترطت الشريعة في عقد النكاح شروطا منها وهو الأساس: رضا الزوجين، فلا نكاح إلا عن رغبة ورضا، لا يجوز لرجل أن ينكح امرأة بغير رضاها، ولا العكس، وقد بين -صلى الله عليه وسلم- صراحة فقال: «لا تنكح الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن»، والثيب هي التي زالت بكارتها، والبكر هي التي لم تزل بكارتها، فالثيب لا تنكح حتى تستأمر، لا بد من عرض الأمر عليها أولا، ولا بد من تصريحها بالموافقة، لا بد أن تصرح بموافقتها على النكاح، والبكر كذلك لا بد أن تستأذن، ولكن يكفي فيها لمكان حيائها أن تسكت، اعتبر الشرع في إذن البكر مجرد الصمت، فإن صمتت كفى ذلك، واعتبر إذنا في الإقدام على النكاح، وإذا نُكحت المرأة بغير رضاها فلها أن ترفع أمرها إلى السلطان فيفرق بينها وبين من نكحته، ولا يجوز لوليها أن يجبرها على نكاح من لا ترضى، فهذا من جملة الشروط التي اشترطت في عقد النكاح.

ومنها: الولي، لا بد أن يكون للمرأة ولي في عقد النكاح، فلا يجوز لها أن تزوج نفسها، ومن قال بذلك فقوله باطل، وإن كان من أهل العلم، لكن العبرة بالدليل، ولا حجة في قول أحد من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال -صلوات الله وسلامه عليه-: «لا نكاح إلا بولي»، وقال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل باطل باطل»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها»، والحكمة في ذلك أن المرأة ناقصة العقل، سيئة التصرف، سريعة العاطفة، فلو وكل أمرها إليها لأفسدت في نفسها وفي غيرها، ومعلوم شأن هذا في مجتمعنا، ومعلوم شأن الفساد العظيم الذي يحدث من نكاح النساء أنفسهن من غير إذن أوليائهن، فلا بد من وجود الولي حتى تحصل المصلحة وتحفظ المرأة في كرامتها وعرضها وما يتعلق بها.

ولا بد -أيضا- في عقد النكاح من الإعلان، لا يجوز أن يكون العقد في سر وخفاء، فإن النكاح إذا كان في إعلان عرف الناس أنه نكاح، فلم يسيئوا الظن بالزوجين، وعاملوهما المعاملة الحسنة التي تليق بهما، وأما إذا كان في سر فإن سوء الظن هاهنا يحصل، وقد تتهم المرأة في عرضها، وقد يرفع أمرها إلى الحاكم فيحصل ما لا يحمد عقباه، فاحتاطت الشريعة لكل هذا، واشترطت الإعلان، قال -صلى الله عليه وسلم-: «اعلنوا النكاح»، وفي الحديث الذي يصححه بعض أهل العلم: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل»، وهاهنا تفاصيل لا يحتملها المقام، لكن لا بد إجمالا من الإعلان، لا بد أن يكون النكاح معلوما، ولا بد أن يعرف الناس بذلك حتى تحفظ الحقوق، ويحصل المقصود، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوفقنا لما فيه الخير، وأن يجنبنا ما فيه الشر.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

إذا انتقلنا بعد ذلك إخوة الإسلام إلى ما بعد عقد النكاح، فإننا نجد أن الشريعة حثت على الأمر الذي أشرت إليه آنفا، وهو حسن العشرة، فإن النكاح -كما ذكرنا- لا يُقصد فيه الوطء والاستمتاع فقط، بل سبب إقامة المجتمع، فلا بد أن يراعي فيه الزوجان ما يتعلق بإقامة المجتمع السليم القوي الذي تنتشر فيه الأخلاق الحسنة الحميدة، والآداب الرفيعة، وإنما تقوم الأمم بذلك، فإن الأمم إذا قامت أخلاقها قامت، وإذا سقطت أخلاقها سقطت، وبداية ذلك من البيوت، بداية المجتمعات من البيوت، من الأسر، من الزوجين، فإذا فسد شيء من ذلك فلا بد أن يفسد المجتمع، فاهتمت الشريعة بذلك، وبينت أنه لا بد من حسن العشرة فيما بين الزوجين، فقال ربنا -تبارك وتعالى-: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ [النساء: 19]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يفرك مؤمن مؤمنة» أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة «إن كره منها خلقا رضي منها آخر»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل على عوج، فاستمتعوا بهن على عوج»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنكم أخذتموهن بكلمة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، وكان -صلى الله عليه وسلم- آية، وهو القائل: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، فكان -صلى الله عليه وسلم- قدوة وأسوة في هذا الباب، وكذلك في شأن النساء كانت أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- قدوة النساء وأسوتهن في هذا الباب، فعلى كل من الزوجين أن يحسن عشرة الآخر بالأدب والخلق والصبر والحرص على تعليم الدين والإرشاد إلى ما ينفع، والتغاضي عن المساوئ والزلات التي لا بد منها، فإن الحياة لا بد فيها من ذلك، ولا تستمر إلا بهذا التغاضي والصبر.

وإذا انتقلت بعد ذلك إلى جانب تربية الأولاد فهذا جانب طويل، لا بد من حسن التربية على الدين والخلق والأدب بفعل ما ينفع وترك ما يضر، ولا بد من إقامة القوامة الحقيقية في البيت للرجل على زوجته وعلى أولاده، ولا بد من الحرص على ذلك، ولا بد أن يتفقد الزوجان أمر بيتهما؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راع في بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها»، فلا بد من هذا كله حتى يقوم المجتمع ويتحقق الخير والصلاح.

ولكن قد يحدث من المشاكل والمضايق والمتاعب ما يوجب استحالة العشرة بين الزوجين، وتصير مفسدة الحياة حينئذ أعظم، وقد عرفت أن الشريعة مدارها على تحصيل المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، والزواج ما شُرع إلا لما فيه من المصالح، فإذا طغت عليها المفاسد، فإن الأمر عندئذ يختلف، وهذا من حكمة الشريعة -أيضا-.

فقد يكون في حياة الزوجين من المتاعب والمنغصات ما يوجب استحالة العشرة، ويؤدي إلى الفساد والضرر، فعندئذ شُرع الطلاق، وفيه عندئذ من الحكمة والمصلحة ما لا يخفى، فإن المرأة قد تصير شرا على زوجها، فتفتنه وتضره وتضر أولاده، وقد يصير الزوج شرا على زوجته فيحدث مثل ذلك، ومعلوم في بعض الملل كالنصرانية ما أحدثه أهلها من تحريم الطلاق، فالنصارى ليس عندهم طلاق، ويؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى فتن عظيمة وفساد كبير، فمن حكمة الله -تعالى- ورحمته بهذه الأمة أن شرع لها هذا المخرج عند وجود سببه، فالطلاق مشروع في هذه الحالة لا في غيرها، فإذا لم يوجد فساد، وإذا لم يوجد ضرر، وإذا لم يوجد خلل في الدين فلماذا يحدث الطلاق؟ الطلاق حينئذ أقل أحواله الكراهة لما فيه من فصم عرى النكاح، وإحداث التفرق، وتشريد الأولاد وتشتيتهم، وهذا من كيد الشيطان؛ كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يقعد على كرسيه ويبعث شياطينه، ثم يأتون إليه فيقول أحدهم: صنعت كذا وصنعت كذا، حتى يأتي واحد فيقول: ما تركته حتى طلق امرأته، فيقول: أنت أنت.

فالطلاق مفسدته عظيمة إذا لم يكن له سبب، وأما إذا كان له سبب شرعي في الدين أو في الدنيا، فإنه عندئذ يكون مخرجا وفرجا.

والطلاق في تشريعه وأحكامه ترى فيه الرحمة والحزم، جمع الرب -تبارك وتعالى- بين الأمرين، فانظر في الطلاق -مثلا- في عدده، لم يجعله الله -تبارك وتعالى- مرة واحدة وفقط، بل جعله مرة، ومرتين، وثلاثة، وقال في ذلك: ﴿ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ [البقرة: 229] إلى أن قال: ﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾ [البقرة: 230]، فالطلاق شُرع بوصف التكرار حتى يكون في ذلك عظة للزوج، وإمهال له، فإنه ربما طلق أول مرة لعجلة أو حمية أو غضب، فإذا تدبر أمره ونظر في شأنه ندم وشعر بخطئه، فشرع له أن يراجع زوجته، وكان له مزيد من التطليقات.

ولهذا شُرعت العدة بعد الطلاق، وجعلت في زمن طويل، فالمرأة إن كانت تحيض، كانت عدتها بالأقراء ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228]، أي: ثلاثة حيضات، وإن كانت لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر، فترة زمنية يحدث فيها الإمهال، وتحدث فيها المراجعة، ربما يندم الزوج، ربما يستدرج أمره، وهذا مرغوب فيه ومحبوب لله -تبارك وتعالى-، ولهذا -مبالغة في تحقيق هذا الأمر- نهى الله -تعالى- عن إخراج المطلقة من بيتها إن كانت رجعية، إن كانت بعد الطلقة الأولى أو الثانية، قال -جل وعلا-: ﴿ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ [الطلاق: 1]، لماذا؟ لأن الزوج إذا رآها أمامه قد يندم، وقد يرغب فيها، وقد يرغب في رجعتها، وهذا مطلوب، وأما إذا ابتعدت عنه، فما كان بعيدا كان بعيدا عن القلب؛ كما تقول العامة.

فتأمل في هذه الحكمة والرحمة.

وفي المقابل هناك الحزم، بعد فترة العدة إذا انقضت، لا يحق للزوج أن يعيد زوجته إلا بعقد ومهر جديدين، ولا بد من رضاها وإذنها، إذا انقضت العدة بعد الطلقة الأولى أو الثانية، وأما بعد الثالثة ﴿ فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾ [البقرة: 230]، وهذا الأمر الأخير من الحزم -أيضا- حتى لا تصير أمور الزوجين فوضى، يطلق ثم يرتجع ثم يطلق ثم يرتجع، لا، هناك عدد معين للطلقات، بعد الثالثة ينتهي الأمر، لا تحل له حتى تنكح زوجا غير، وتأمل في الاشتراط عندئذ ليس المقصود مجرد النكاح، لا بد أن ينكحها رجل آخر بعقد صحيح، مستوف لجميع شروطه وأركانه، نكاح رغبة لا نكاح تحليل، لا يجوز له أن يتزوجها بقصد تحليلها للأول، لا بد أن يكون النكاح عن رغبة، ولا بد أن يدخل بها، لا بد أن يذوق عسيلتها، وتذوق عسيلته، ولا بد من بعد ذلك أن يطلقها لسبب يقتضي ذلك، لا لمجرد التحليل للأول، فإن وقع ذلك حلت للأول.

كل هذا حماية للأعراض، وصيانة للأنساب؛ لئلا يفرط أمر الناس، وأمر الأعراض شديد، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»، وقد سمى الله -تعالى- النكاح في كتابه: ﴿ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ [النساء: 21]، فالأمر لا تلاعب فيه، وترى هذا في سائر أحكام الطلاق، من ناحية الصيغ والألفاظ وما يتعلق بذلك، وهذا باب لا يحتمله المقام.

فالشريعة جمعت بين الحكمة والرحمة، وبين الحكمة والحزم، وبين الرحمة والحزم، كل هذا صيانة لمصالح الناس، وحفظا لحقوقهم، ودرءًا للفساد والشر عنهم.

وفي الأخير وبه نختم، مما نلفت النظر إليه -أيضا- في قضية النكاح: أن من أنواع النكاح ما هو حرام لما فيه من الضرر؛ كما تقدم في البيوع، البيع إذا اشتمل على ضرر مُنع، فكذلك النكاح، إذا كان فيه ضرر وإذا كانت فيه مفسدة مُنع، فمن ذلك:

النكاح الذي تختلط فيه الأنساب، وقد حرم الله -تعالى- أصنافا بعينها من النساء ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ...﴾ [النساء: 23] الآية من سورة النساء، فهذا نوع من النكاح محرم لما فيه من اختلاط الأنساب.

ومن أنواع النكاح المحرم: نكاح التحليل الذي أشرنا إليه، أن يتزوج الرجل امرأة قد طُلقت ثلاثا بقصد تحليلها للأول؛ لأن الضرر عندئذ بين، ولأنه تحايل على ما حرمه الله -عز وجل-، وقد فطر الله الناس على استقباح ذلك، ولهذا يسمى المحلل باسم خبيث -نسأل الله السلامة- وهو التيس المستعار، ينفر الرجال عن ذلك، ولا تحتمل الفطر ذلك، ولهذا لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- المحلل والمحلل له.

ومن أنواع النكاح المحرم: نكاح المتعة الذي هو لأجل، أن ينكح الرجل المرأة لأجل، لمدة معلومة، أي شيء هذا؟ والأصل في النكاح أن يكون دائما حتى يتحقق ما فيه من المصالح، وأما النكاح المؤقت فأي مصلحة فيه؟ وأي عشرة فيه؟ وأي حياة فيه؟ وكيف يقوم المجتمع عليه؟ لا بد أن يتشتت، ولا بد أن تضيع الأولاد، ولا بد أن تختلط الأنساب -أيضا- في كثير من الأحيان، فمنعت الشريعة هذا النوع من النكاح إلى أنواع أخرى لا نطول المقام بذكرها.

والحاصل أنه إذا اشتمل النكاح على ضرر راجح، فإنه يُمنع، ولا تقره الشريعة لما فيها من الحكمة التي توجب تحقيق المصالح ودرء المفاسد.

نكتفي بهذا القدر إخوة الإسلام في قسم المعاملات، وإلى قسم آخر -إن شاء الله تعالى-، ونسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا لما فيه الخير، وأن يكشف ما بنا من الفتن والشرور، وأن يجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لتحميل الخطبة مفرغة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت