تهافت العلمانية
الخطبة السادسة عشرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فنستكمل-إخوة الإسلام- كلامنا على العقوبات الشرعية، وقد ذكرنا أنها تنقسم إلى قسمين: عقوبات محددة مقدّرة وهي التي تسمى بالحدود، وعقوبات غير محددة ولا مقدّرة وهي التي تسمّى بالتعزيرات، وشرعنا في الكلام على الحدود، وابتدأنا بحد الردة، واليوم -إن شاء الله تعالى- نأتي على تمام الحدود، منتهين بذلك من هذا القسم من أقسام الشريعة المكرّمة.
وقبل أن أخوض في تمام الحدود، أنوه بعقوبة الجناية على النفس التي هي القتل، فإن عقوبة القتل القصاص -كما هو معلوم-، وقد قال ربنا -تبارك وتعالى-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ .وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 178-179]. وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :« لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة »، فهذه العقوبة معلومة مشهورة، فهي تشترك مع الحدود في كونها عقوبة مقدرة، إلا أنها الفقهاء لا يضعونها في باب الحدود، بل يضعونها في أبواب الجنايات لأسباب منها: أن الحدود لا يعفى عنها في حق مخلوق، فليس لمخلوق أن يعفو عن الحد، ولا أن يسقطه لحق نفسه بخلاف القصاص؛ فإن الله-تعالى- شرع فيه العفو لأولياء المقصوص؛ كما سمعنا في الآية الكريمة: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾، فيجوز لأولياء المقتول أن يعفو في شأن القصاص ويرضوا بالدية، وعندئذ لا يقتص من القاتل؛ فلهذا الفارق وغيره، رأى الفقهاء أن يدرجوا القصاص في أبواب الجنايات، فهذا تنويه أذكره قبل الشروع في تمام الحدود.
إن من الحدود الشرعية -إخوة الإسلام- حد الزنا، والزنا لا شك في ذمه وسوء أثره وخطورة عاقبته، وفساده في العباد ومجتمعاتهم لما لا يشك فيه بشر ولا يرتاب فيه إنسان.
وقد شرع الله -تعالى- فيه عقوبة مقدرة، وهي على قسمين بحسب حال الزاني: فإن كان الزاني محصنًا فإن عقوبته الموت بطريقة معينة بينها رب العالمين -جل وعلا- ورسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- وهي الرجم.
والزاني المحصن: هو الذي استوفى شروطًا وهي البلوغ، والحرية، وأن يتحقق منه الوطء -أي: الجماع- في نكاح صحيح ولو لمرة واحدة، وهذا كله من احتياط الشريعة؛ فإن القتل أمر هو في حد ذاته غير مرغوب فيه، والشريعة تسعى لحقن الدماء ما أمكن وحفظ الأنفس ما أمكن، ولا سيما في مثل هذه الطريقة التي تزهق فيها الروح بتلك الصورة الشديدة، فالشريعة احتاطت لذلك، واشترطت في الإحصان شروطًا قوية: فلا بد أن يكون المحصن بالغًا، ولا بد أن يكون حرًا، ولا بد أن يتزوج زواجًا صحيحًا، وأن يجامع ولو لمرة واحدة، لابد من كل هذا، فمتى نقص شرط من ذلك فليس الزاني عندئذ بمحصن، وعقوبته حينئذ أن يجلد مائة جلدة؛ كما قال ربنا -تبارك وتعالى-: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 2]، وقد جاء في السنة كما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وجوه شتى أن الزاني غير المحصن يغرب عامًا عن بلده، يجلد المائة، ويغرب مع ذلك عن بلده لمدة عام كامل. هذه عقوبة الزاني البكر غير المحصن، ولا ريب فيها مع وجود النص القرآني الذي ذكرناه.
وأما عقوبة الزاني المحصن التي هي الرجم، فهي ثابتة بالأحاديث الكثيرة المتواترة المقطوع بها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد سمعنا آنفًا قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث »، فذكر منهن: «الثيب الزاني»، والثيب هو المحصن، وثبت رجمه -صلى الله عليه وسلم- ورجم الصحابة معه في وقائع عدة أشهرها: واقعة ماعز والغامدية -رضي الله عنهما-، بل كان في الرجم آية في كتاب الله، كان فيما أنزل من القرآن: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله)، كان هذا فيما نزل من القرآن وفيما تلي منه إلا أن الآية نسخت، نسخ لفظها، فلم تعد موجودة في القرآن الذي نقرأه، ولكن حكمها باق مستمر، عمل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعمل به الصحابة معه، ومن بعده، حتى قال عمر -رضي الله تعالى عنه- قولته المشهورة: «إن الله بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل فيه آية الرجم، سمعناها، وعقلناها، ورجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورجمت الخلفاء الراشدون من بعده -أو قال: ورجمنا من بعده-، فلعل رجلًا يقول: ليس الرجم في كتاب الله، فيضل بترك سنة وفريضة فرضها الله -تعالى-»، وقد وقع ما قاله -رضي الله عنه- وهو المحدث الملهم، فصرت تسمع من يرفع عقيرته الآن بأن الرجم ليس في القرآن، وليست القضية قضية قرآن -كما سبق التنويه عليه-، فإنهم لا يأبهون بالجلد وهو في القرآن.
فهذه عقوبة الزاني بقسميه، ولمزيد احتياط الشريعة في ذلك، فإنها قد اشترطت شروطًا تعود إلى نفس البينة التي يثبت بها الزنا، فإن الحدود عمومًا تثبت بإقرار أو بينة، تثبت باعتراف من المجرم ، والاعتراف أقوى الأدلة، أو تثبت ببينة، فبينة الزنا على وجه الخصوص قد شددت فيها الشريعة جدًا، لا بد في البينة من أربعة شهداء، لا بد أن يشهد أربعة رجال مسلمون، بالغون، أحرار عدول، ولا بد أن يشهدوا على نفس واقعة الزنا، لا بد أن يشهدوا جميعًا ويتفقوا جميعًا على أنهم رأوا فلانًا يفعل بفلانة، وأنهم رأوا عملية الزنا كما هي، فلو شك واحد أو توقف، لم يثبت الحد، وحُد الباقون حد القذف.
فهذا احتياط من الشريعة وتأكيد في هذا المقام، فإذا تم استيفاء كل هذا، فلا حيلة عندئذ في دفع العقوبة، ولا بد من إنفاذ ما قضى به الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ومن الحدود أيضًا، وطالما أننا نوهنا بذكره فلنتعرض له وهو حد القتل.
يقول الله -تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوَهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾ [النور: 4]، والقذف هو الرمي بالزنا على وجه الخصوص، أو الرمي بنفي النسب، فمن قال لرجل: يا زان، أو قال لامرأة: يا زانية، أو نفى نسب فلان من فلان، فهذا كله هو القذف الذي نتكلم فيه، وحده مقدر في كتاب الله ثابت -كما عرفت-، يحد القاذف بجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبدًا، والعلماء يختلفون في قبولها من بعد توبته، وليس هذا محل الخوض في ذلك.
ومن الحدود -أيضًا- حد السرقة، يقول الله -تعالى-: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ﴾[المائدة: 38]، هكذا حكم الله -تعالى- في كتابه، من سرق قطعت يده، ولا بد من شروط، لا بد من شروط في المال المسروق -مثلا- لا بد أن يكون المال المسروق نصابًا، وقد قدره النبي -صلى الله عليه وسلم- بربع دينار، لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدًا، من سرق أقل من ذلك لم تقطع يده، ولا بد أن يكون هذا المال المسروق محرزًا، لا بد أن يكون في حرز، والحرز هو المكان أو الموضع الذي يُخبأ فيه المال ويحفظ، وحرز كل شيء بحسبه، حرز كل مال بحسبه، فلا بد من هذا، ولا يتحقق حد السرقة إلا بهذا، لا بد من أخذ المال خفية من حرزه، ولا بد أن يكون قد بلغ النصاب، فإذا وقع ذلك، فإن السارق عندئذ تقام عليه العقوبة، فتقطع يده، وتقطع يده من مفصل الكف الذي يقال له الكوع، لا تقطع يده كلها، ولكن من هذا الموضع فقط.
ومن الحدود أيضًا: حد الحِرابة أو الحَرابة، والمقصود بها قطع السبيل أو الطريق وإخافة الناس والتعدي عليهم، يقول الله -عز وجل-:﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ﴾ [ المائدة: 33]، والذي عليه جمهور العلماء أن هذه العقوبات على التنويع بحسب الجريمة التي يرتكبها قاطع الطريق، فلو أنه قتل أحدًا من الناس قُتل به، ولو أنه اكتفى بأخذ المال، فإنه تقطع يده ورجله من خلاف، ولو جمع بين القتل وأخذ المال قُتل وصلب، ولو أخاف السبيل فقط، روّع الناس وأرهبهم، ولكنه لم يقتل نفسًا ولم يأخذ مالا فإنه عندئذ ينفى من الأرض.
ومن الحدود أيضًا: حد شرب الخمر، وهو ثابت بالأحاديث الكثيرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان -صلى الله عليه وسلم- يجلد الشارب أربعين، يجلد أربعين جلدة، وهكذا كان الأمر في عهده -عليه الصلاة والسلام-، وفي عهد الصديق -رضي الله تعالى عنه- من بعده، حتى كان عهد عمر -رضي الله عنه-، فعتى الناس وفجروا، وأسرفوا في شرب الخمر، فزاد حتى بلغ ثمانين على وجه التعزير، فالأربعون الأخرى ليست على وجه الحد؛ لأن الحد مقدر من عند الله- كما عرفت-، وإنما هي على وجه التعزير، ولم يكن يثبت عليها، بل كان أحيانًا يزيد عشرين، وكان أحيانًا يزيد إلى الأربعين، كل هذا بحسب المصلحة وبحسب حال العقوبة وحال المجرم.
هذه هي الحدود الشرعية -إخوة الإسلام-، وهي كلها، كل ما ذكرناه مجمع عليه إجماعًا ضروريًا قطعيًا من علماء الأمة أجمعين لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في التفاصيل، في الأحكام، في الشروط، هذا كله هو الذي يقع فيه الخلاف، وأما نفس الحدود، فليس فيها خلاف قط، دُوّن كل ذلك في كتب الفقه عند المذاهب الأربعة وغيرهم، وفرعت عليه التفريعات، ودُرس لشباب الأمة، وصار منهجًا معلومًا بطريق القطع من أحكام الشريعة المطهرة، فلا يجوز إنكاره ولا يجوز رفضه، ولا يجوز أن يفرق بين بعضه وبعض، لا يجوز الأخذ ببعضه دون بعض، فضلا عن رده كله، الذي يخالف ذلك، يخالف نصًا معلومًا قطعيًا في الكتاب أو السنة، ويخالف إجماعًا ضروريًا معلومًا عند علماء الأمة، فلا بد لنا أن نعرف هذا كله، ونسأل الله -تعالى- أن يكفينا الفتن كلها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
* الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
إخوة الإسلام -عباد الله- إن لأعداء الشريعة شبهًا، يأتون بها ويشغبون على قضية الحدود والعقوبات الشرعية، داعين إلى رفضها وردها، وتنقص الشريعة من خلالها.
والقاعدة العامة -كما سبق التنويه به في الجمعة الماضية- في رد هذه الشبهات والتشغيبات: الإيمان بالله -تعالى- ربًا وإلهًا وحكمًا، هذه هي القاعدة العامة التي تكفي وتشفي في رد كل شبهة، من استحضرها واستحضر ما قلناه -بفضل الله تعالى- فإنه لا يتأثر بشيء، ولا يؤثر فيه شيء- بإذن الله-، يكفينا أن الله -تعالى- هو الذي حكم، يكفينا أن الله -تعالى- هو الذي خلقنا وفطرنا، وهو الذي تعبدنا بهذه الأحكام، وهو الذي أمرنا أن ننفذها، وهو الذي قضى بها دين العباد، ﴿ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾ [ الرعد: 41]، إلا أنه لا بأس بالتعريج على شيء مما يردده هؤلاء، مع ضرورة التنبيه -أيضًا- إلى ما سبق بيانه في الجمعة الماضية لمسألة الاعتداد بالسنة مصدرًا من مصادر الأحكام، فإذا ثبت شيء في السنة، فلا بد من الأخذ به كما يؤخذ بما ثبت في القرآن سواء، لا نفرق بينهما ولا نكتفي بالقرآن عن السنة، ولا بد في النظر إلى نوعية العقوبة من استحضار جانب الحكمة، سواء تبين لنا أو لم يتبين، فإن الله -عز وجل- هو العالم بأحوال عباده، وهو -جل وعلا- الحكم العدل الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه، وقد ذكرنا أن العقوبة لا بد أن تكون مناسبة لقدر الجناية، ومحققة للردع والزجر، فهل نحن أعلم بذلك؟ أم الله تعالى؟ الله أعلم، الله أعلم بما يحقق الردع، الله أعلم بما يحقق الزجر، الله أعلم بما ينبغي وما لا ينبغي، فلا يجوز لأحد أن يقول هلّا كانت العقوبة كذا؟ ولو كانت على وجه هذا، لماذا تقطع يد السارق؟ لماذا يرجم الزاني؟ لماذا يصنع كذا؟ لماذا يصنع كذا؟ ليس أحد من الناس هو الذي حكم، وإنما الله هو الذي حكم، وهو سبحانه وتعالى أعلم بما يصلح عباده، وما يناسبهم، وما يحقق فيهم الخير، ويدرأ عنهم الشر، والواقع خير شاهد، فلما طبقت هذه الأحكام انتشر الأمن، وقوي المجتمع وساد الإسلام في الأرض، وأما بدون ذلك، فالواقع -أيضًا- خير شاهد.
ولا بأس بالتعريج على بعض الشبهات -كما ذكرنا-، فمنها قولهم، وهذه شبهة قديمة روّجها بعض الناس من قديم، قالوا: كيف تقطع يد السارق في ربع دينار مع أن ديتها عندما تقطع -لو أن رجلًا جنى عليها فقطعها- ديتها خمسمائة؟ دية اليد إذا قطعت خمسمائة دينار، فكيف تقطع في ربع دينار؟ فنقول كما قال أهل العلم من قبل: إن اليد إذا قطعت من غيرها، لو أن رجلًا جنى على رجل آخر فقطع يده، فإن تغليظ الدية في حقه هو المناسب زجرًا له وردعًا له؛ لأنه صار يتعلق بحقه وذمته، وأما هذه اليد نفسها عندما تجني على الغير، وتتعدى على حق الغير، فإن الأمر عندئذ ينظر فيه إلى حق من جنت عليه، هذا الذي سرق ربع دينار، قد يكون سارقًا لقوت أسرة بأكملها ليوم كامل، ربع دينار إذا حددت قيمته، فإنه قد يعادل قوت أسرة كاملة ليوم كامل أو حتى لما فوقه، فصار الأمر متعلقًا بحق هؤلاء، واستحق الجاني عندئذ أن يعاقب بالعقوبة المناسبة التي قدرها الله وحكم بها، وهذا هو الذي عبر عنه العلماء قديمًا بقولهم: لما كانت أمينة، كانت ثمينة، فلما خانت، هانت. لما كانت اليد أمينة، كانت سليمة، من قطعها غلظت فيه الدية، ولا شك أن اليد باليد، هذا هو الأصل، لكن عند الانتقال إلى الدية، فإن الدية تكون مغلظة، فاليد عندئذ ثمينة قيمتها كبيرة، وأما عندما تخون وتتعدى وتسرق وتسطو على حق الغير، فإنها عندئذ تهون عند الله، وتقطع في قدر أقل من قدر الدية مراعاة لحق هذا الغير الذي سطت على ماله، وأخذت قوته.
ومن الشبهات -أيضًا- قولهم: كيف تقطع يد السارق؟ ولا تقطع يد الغاصب؟ والغاصب هو الذي يأخذ المال غصبًا وقهرًا وجهرًا، وأما السارق فإنه هو الذي يأخذ المال خفية، فالحد إنما في حق السارق لا الغاصب، قالوا كيف هذا؟ فنقول: الفرق بين الرجلين أن السارق تعم به البلوى، ويشق التحرز منه؛ لأنه يتعدى على الأموال في خفاء، بخلاف الذي يأخذ المال جهرة فإن ذلك قليل في الناس، والذي يريد أن يأخذ أموال الناس جهارًا، لا بد أن يفكر في أمور متعددة، لعل الناس يمسكونه، لعلهم يضربونه، لعلهم يرفعونه إلى السلطان، فهذا كله يجعله يتدبر أمره قبل أن يقدم على جريمته، ولا يقدم عليها عندئذ غالبًا إلا إذا انتقل إلى صورة الحرابة التي ذكرناها، وقد عرفت أن حد المحارب أشنع من حد السارق، فلا تناقض ولا تعارض، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ﴾ [ النساء: 82].
ومن الشبهات -أيضًا- قولهم: حيث قطعتم يد السارق، فاقطعوا فرج الزاني، العضو الذي تمت به عملية السرقة قطع، فكذلك العضو الذي تمت به عملية الزنا يقطع. نقول: بل التفريق بين الأمرين هو محض الحكمة والرحمة، فإن قطع الفرج فساد بحت، لا مصلحة فيه، قطع الفرج فيه هلاك للنفس، وفيه قطع للنفس، وفيه إيذاء بليغ بهذا الذي وقع في تلك الجريمة إن لم يكن محصنًا، بخلاف السارق فإنه إذا قطعت يده بقيت له يد أخرى، إذا سرق لأول مرة قطعت يده، وكان ذلك أدعى لزجره وترهيبه لئلا يقدم على الجريمة مرة أخرى، فصارت له يد أخرى يستعملها، وأما الفرج فإنه لو قطع، فإنه لا بديل له، ويقطع به النسل، وتتحقق به مفاسد عظيمة جدًا، ثم إن الفرج عضو مستتر، لو أنه قطع لما حصل الزجر، كيف يطلع الناس على هذا؟ وأما اليد فإنها عضو ظاهر، إذا رأى الناس أن فلانًا سرق فقطعت يده، كان ذلك أدعى لزجرهم وترهيبهم وتخويفهم، فالفرق بين الأمرين هو محض الحكمة، ومحض الرحمة من الله -تبارك وتعالى-.
نكتفي بهذا القدر -إخوة الإسلام-، وبه ينتهي كلامنا على جميع أقسام الشريعة، والحمد لله، وقد أظهرنا على قلة كلامنا وسرعتنا في العرض، أظهرنا كثيرًا لمظاهر حكمة الشريعة ومناسبتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، فهكذا يجب على المسلم أن يؤمن، ويجب عليه أن يحسن الظن بربه، ويسلم لأحكامه، وينقاد لها، فإن الخير كله في ذلك، وإن الشر كله في خلاف ذلك.
نسأل الله -عز وجل- أن يقينا الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أحينا على الإسلام والسنة وتوفنا على الإسلام والسنة، اللهم اجعلنا صالحين مستقيمين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا الذي فيه معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا الذي فيها معادنا، واجعل لنا الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت لنا راحة من كل شر، اللهم اجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم اكشف الفتن عنا، اللهم اكشف عنا الفتن كلها صغيرها وكبيرها، ولا تؤاخذنا بذنوبنا يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا |