تهافت الع"/>
الدرس الثاني والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الثالث والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الرابع والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الخامس والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس السادس والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس السابع والعشرون، وهو الأخير - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو حرمة أكل المال بالباطل - خطب عامة الحياء 1446 - خطب عامة لغة القرآن والحفاظ على الهوية - خطب عامة صناعة العقول بين الاستقامة والانحراف - خطب عامة
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :567252
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الحادية عشرة من تهافت العلمانية

المقال
تفريغ الخطبة الحادية عشرة من تهافت العلمانية
6043 زائر
07/03/2014
أبو حازم القاهري السلفي

تهافت العلمانية

(الخطبة الحادية عشرة)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فنستكمل إخوة الإسلام حديثنا في باب العبادات، وما فيه من مظاهر الحكمة الإلهية، وقد ذكرنا أننا سنقتصر على المباني الأربعة التي هي الصلاة والزكاة والصيام والحج، وقد تحدثنا في الجمعة الماضية عن الصلاة، واليوم -إن شاء الله تعالى- نتحدث عن سائر المباني.

فأما الزكاة؛ فإن الكلام على ما فيها من الحكمة يمكن أن يصور في ما يلي:

أولا: أن الزكاة فيها تطهير للنفس؛ كما قال ربنا -تبارك وتعالى-: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ [التوبة: 103]، فالزكاة تطهير وتزكية، وهي في الأصل تدل على ذلك، فإن الزكاة تدل معنى تزكية الشيء بتطهيره من الخبث، وتحسينه، وتجميله.

فالزكاة تطهر النفس، تطهرها من البخل والشح وحب المال والذات، فيبذل المزكي مما عنده من المال، ويستغني عنه ابتغاء لوجه ربه -تبارك وتعالى-، والله -عز وجل- يقول: ﴿ لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وهذا من ابتلاء الله -تعالى- للعبد، فإنه يبتليه بما يحب حتى يجود به ويستغني عنه، فإن فعل المزكي ذلك فإن نفسه تطهر وتزكو، وهذا من أعظم الحكم.

ومن الحكم -أيضا-: أن الزكاة تطهر المال، وتحدث فيه البركة؛ كما ذكرنا في الآية الماضية، وكما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «ما نقص مال من صدقة»، وكان عنده -صلى الله عليه وسلم- شاة، فأمر عائشة -رضي الله عنها- أن تتصدق بها، ففعلت، ثم سألها: «ما بقي منها؟»، فقالت: لم يبق منها إلا كتفها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «بل بقي كلها إلا كتفها»، فبين -صلوات الله وسلامه عليه- أن الصدقة تسبب البركة في المال، وأن الذي يذهب منه لا يذهب ثوابه عند ربه، فإن الله -عز وجل- كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يتقبل صدقة العبد إذا كانت من كسب طيب، فيربيها لصاحبها حتى تصير مثل الجبل»، وهو القائل -جل في علاه-: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261]، وهو القائل -جل ذكره-: ﴿ مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 245]، فالزكاة لا تنقص المال، لا تنقص ثوابه، ولا تنقص بركته، وهذا أمر محسوس مشاهد، فإن من حرص على التصدق بماله بورك له فيه، ووجد ذلك، وأما الذي يحبس الصدقة من ماله، فإن لا يبارك له فيه، ولا يكاد يدخر منه شيئا، ولا يكاد ينتفع به على الوجه الأكمل، فالزكاة -إذن- مطهرة للمال، محدثة للبركة فيه.

ومن الحكم -أيضا- وهي حكمة اجتماعية: أن الزكاة تحقق تكافلا اجتماعيا عظيما بين المسلمين، فإن الله -عز وجل- فاضل بين عباده، جعل منهم الأغنياء، وجعل منهم الفقراء، ولا بد أن يتشوف الفقير إلى ما في يد الغني لمكان حاجته، فإذا تصدق عليه الغني ووافاه من ماله، فإن هذا يحدث ألفة عظيمة، ويذهب العداوة والبغضاء، ويمنع الجرائم من السرقات وغيرها، فحققت الزكاة بذلك ألفة ومحبة وتكافلا اجتماعيا، وحققت أمنا واستقرارا، فدرأت المفاسد والشرور، ومنعت الجرائم والموبقات، وهذا -أيضا- واقع مشاهد.

فما كثرت السرقات إلا من منع الزكاة، ولا كثرت الجرائم إلا من حبس الصدقات، وإلا؛ فلو شكر الأغنياء نعمة الله عليهم، فأدوا ما افترضه عليهم من الزكاة، فإن الأمر سيتغير، ولعلنا لا نشاهد بطالة ولا لهوا ولا لعبا؛ كما عليه الأمر في المجتمعات الأول التي بورك فيها ومكن لها، فحققت الزكاة بذلك مصلحة عظيمة، واشتملت على حكمة باهرة جسيمة.

وكما اشتملت الزكاة على الحكمة فإنها اشتملت -أيضا- على الرحمة؛ كما سبق بيانه في الصلاة، وهي جادة التشريع، فتشريع الرب -تعالى- حكمة ورحمة، وذلك أن الزكاة التي افترضها الله على العباد لا تكون من حاجتهم، بل تكون دائما مما يزيد عن الحاجة؛ كما قال -تعالى-: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ ﴾ [البقرة: 219]، والعفو هو ما زاد عن حاجتك.

ويمكنك أن ترى هذا واضحا في أنصبة الزكاة، ومقاديرها، والواجب إخراجه منها، فلم يفترض الله -تعالى- على الغني أن يخرج نصف ماله ولا ربعه ولا ثلثه، بل أقل القليل.

فمن كان عنده مال فإنه لا تجب فيه الزكاة إلا أن يبلغ نصابا، وهو خمسة وثمانون جراما من الذهب الخالص، أو خمسمائة وخمسة وتسعون جراما من الفضة الخالصة، وناهيك بهذا القدر، وقل من يبلغه، فإذا بلغه لم يخرج منه إلا ربع العشر.

ومن كان عنده إبل لم تجب عليه الزكاة إلا في خمس، فإذا ملك خمسا فإنه يخرج شاة، شاة واحدة، وفي كل خمس شاة، حتى يبلغ خمسا وعشرين، فإنه يخرج بنت مخاض واحدة، وهي ما أتم سنة من الإبل.

ومن كان عنده غنم لم يخرج منها إلا أن تبلغ أربعين شاة، وفي الأربعين إلى مائة وعشرين شاة واحدة.

ومن كان عنده بقر ففي كل ثلاثين تبيع، والتبيع ما له سنة، وفي كل أربعين مسنة، والمسنة ما له سنتان.

فانظر -رحمك الله- إلى هذا التقدير، أيشعر به الغني إذا أخرجه؟ أيؤثر عليه؟ أيحدث له ضررا؟ ولكنه البخل والشح والحرص على الدنيا والطمع فيها والتكالب عليها، والزكاة تخلص من كل هذا.

فاشتملت الزكاة على حكمة ورحمة، من تفطن لهما وعمل بهما -إذا كان من أهل الزكاة- فإنه يجد الكثير من الخير، نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الخير كله، وأن يبارك لنا في أموالنا وأعمالنا وأهلينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

ننتقل بعد ذلك إخوة الإسلام إلى الصيام.

والصيام فيه من الحكم والفوائد ما لا يعلمه إلا الله، فمنها، وهو الأصل فيما فيه من الحكم والفوائد: تقوى الله -عز وجل-؛ كما قال ربنا -تبارك وتعالى-: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، فهذا هو الأصل، وهذه هي الفائدة العظمى والكبرى: تقوى الله -عز وجل-، وتقوى الله -تعالى- هي وصية الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- للخلق، ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131]، هكذا قال الله، وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم-: «أوصيكم بتقوى الله»، فالصيام يحقق لك هذه الوصية، فإن الله -تعالى- يفترض عليك في صيامك أن تترك بعض شهوتك في فترة معينة، ولما كان الصيام عملا باطنا لا يطلع عليه إلا الله كان الإخلاص فيه أدعى، وكانت المراقبة فيه أحرى، فيمكن للصائم أن ينتهك حرمة صومه من غير أن يشعر به أحد، ومن غير أن يراه أو يسمع به أحد، ولكنها تقوى الله، تدفعه إلى مراقبة ربه، واستحضار علمه به، ونظره إليه، واطلاعه عليه، فيخاف أن ينتهك حرمة صومه -وإن كان لا يراه أحد- لأن ربه يراه، ويطلع عليه، ويعلم حاله، سره وجهره، فهذه تقوى الله -تعالى- تتحقق بالصيام.

ومن جملة ذلك، وهو من الحكم المستقلة في الصيام: الصبر، فإن الصيام لون من الصبر، وقد ذكره الله -تعالى- ضمنا في قوله -عز وجل-: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، فالصيام صبر عن الشهوة، صبر عن المعصية، صبر عن الغضب، صبر عن أمور كثيرة مما تضر الإنسان، وتحدث له الفساد، وإذا عود الصائم نفسه على الصبر، وتعود عليه كذلك بعد صيامه في سائر حياته فإنه يحصل على خير عظيم، وكيف لا وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما أعطي أحد عطاء خيرا ولا أوسع من الصبر»، وإذا صبر الصائم، واتقى ربه، فإن هذا يحقق له فائدة أخرى، وهي تهذيب النفس، فالصابر يهذب نفسه ويروضها ويتحكم فيها ويطهرها من الفساد والخبث، وكذلك الذي يتقي ربه -عز وجل- هو لنفسه مجاهد ومطهر ومزكٍ، فالصيام يهذب نفسك ويزكيها ويحسن أخلاقها ويحسن شأنها؛ ولهذا لم يكن الصيام صيام على الحقيقة إلا بالامتناع عن الفحش والخبث والشر والفساد، لا بمجرد الامتناع عن الطعام والشراب والنكاح.

والصائم -أيضا- في صيامه يشعر بالفقير، يشعر بالمسكين المحتاج، يشعر بالبائس الجائع، فإنه يمتنع عن طعامه وشرابه، فيحس بألم الجوع، ويشعر بشهوة الطعام والشراب، فيستحضر حينئذ شأن إخوانه الذين يشاركونه في مجتمعه، يستحضر شأن إخوانه المسلمين مما لا طعام لهم، ولا شراب، ولا غذاء، يشعر بهم، ويشعر بحاجتهم ويقدر شأنهم، فيدفعهم ذلك إلى مواساتهم والتصدق عليهم وإغنائهم بما يسر الله -تعالى- له، فحقق الصيام بذلك فائدة اجتماعية.

ومن الفوائد -أيضا- تقدير نعمة الله -عز وجل-، فإن النعمة لا يقدرها العبد حق قدرها إلا إذا حرمها، ما كانت النعمة في يده، فإنه لا يقدرها، ولا يشعر بقيمتها، فإذا منعت عنه شعر بقيمتها وقدرها، فكذلك الله -عز وجل- يعطيك الأكل والشرب، يعطيك الطعام والشراب، يعطيك الغذاء والقوت، وهي نعمة عظيمة، ولكنك لا تشعر بها عندما تلابسها وتستعملها، بل تشعر بها عندما تحرمها، فعندما تمتنع عن طعامك وشرابك في صيامك، تقدر هذه النعمة، وتقدر رزق الله لك، فتسعى لشكره، وشكره يدفعك إلى تقواه، وتقواه تدفعك إلى التمسك بصراطه وحبله والاستقامة على جادته، وهو الخير كل الخير، فهذه مصالح يوصل بعضها إلى بعض.

ومن فوائد الصيام فائدة صحية، وهي في ذاتها فوائد وفوائد، فكم من علة تزول بالصيام، وكم من داء يشفى بالصيام، والقاعدة العامة في ذلك أن المعدة بيت الداء، ويُنسب ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصح، وإنما هو من مأثور الكلام، وهو حق، فإن عامة الأدواء إنما تجيء من البطن، إنما تجيء من المعدة، ولو أحسن الإنسان طعامه، وخير الهدي في ذلك هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، لو أحسن الإنسان طعامه فإنه يتخلص من كثير من الأدواء، ويقي نفسه الكثير من العلل، فمن جملة ذلك أن يمتنع عن الطعام شيئا ما، وأن يقتصد فيه، فإن الصائم عند فطره لا ينبغي له أن يكثر من الطعام، ويدفعه إلى ذلك شأن تعبدي وهو أنه مقدم على قيام ليل، والقيام يستدعي منه خفة حتى يقوم به على الوجه الأكمل، فهذا من الفوائد التي تلحق العبد في عافيته وبدنه.

فهذا بعض ما في الصوم من الحكم.

وأما الحج؛ فإنه شعار الحنفاء الموحدين، وقد شرحنا قريبا أنه يشتمل على التوحيد في جميع شعائره، جميع شعائر النسك تشتمل على التوحيد، توحيد الرب -عز وجل- في عبادته والتذلل له، وتوحيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في متابعته والاقتداء به، وتوحيد المتابعة من توحيد الرب -عز وجل- فإن الله -تعالى- أمر بطاعة نبيه -صلى الله عليه وسلم- والتأسي به، فإذا اتبعنا الرسول واقتدينا به كنا مطيعين لله وذلك من توحيد الله.

فالنسك كله من أوله إلى آخره يظهر التوحيد، يظهر العبادة والتذلل، وقد عرفت أن العبادة، هي الغاية التي لأجلها خلقت.

واستحضر مقام الذل في النسك في ملبسك، في هذا الذي تلبسه، إزار ورداء، لا ترفه فيهما، ولا تنعم، بل يحرم عليك وأنت في نسكك أن تتزي بزي الحل، يحرم عليك أن تلبس الملابس العادية التي تلبسها في حياتك إمعانا في ترك الترفه والتنعم، ومن جملة محظورات الإحرام ما يعود إلى ذلك كالتطيب، فإن المحرم بعد شروعه في النسك يحرم عليه أن يتطيب، والتطيب من جملة الترفه، فتفد إلى ربك أشعث أغبر في هيئة رثة بذة، وهذا مقام ذلك بين يدي الله -عز وجل-، تستشعر فيه مقامك كعبد يفد إلى زيارة ربه، فلا يليق به إلا أن يكون على حال مناسبة لذلك، ويحظر على المحرم أمور أخرى منها ما يعود إلى شهوته، فلا يحل له أن يجامع امرأته ولا أن يباشرها بشهوة، بل يحرم عليه عقد النكاح نفسه؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا ينكح المحرم ولا يُنكح» حتى مجرد العقد يحرم عليه؛ لأنه في شأن آخر، شأن الإحرام، شأن النسك، شأن زيارة الرب، لا يليق به أن يشتغل العبد بشهوته، فحرم عليه مجرد الشروع في أسبابها المباحة، وهذا مقام عظيم حق لنا أن نتأمل فيه.

والحج -أيضا- تهذيب للنفس؛ كما تقدم في استشعار الذل والافتقار إلى الله، وكما يظهر في الحج من الامتناع عن محظورات الإحرام، وكما يظهر -أيضا- في تحمل المشقة، فإن مشقة الحج شديدة، وكفى بالسفر، فإنه قطعة من العذاب؛ كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فكيف بك مع ذلك بالزحام الشديد والحر الشديد والتنقل من هنا إلى هناك؟ فتلك مشقة لا يشعر بها إلا من لابسها، وهذا كله يهذب النفس، ويعودها الصبر والتحمل.

ومن الفوائد -أيضا- أن الحج يذكر بالآخرة، وهذا -أيضا- من جملة الأمور التي تجدها دائما في تشريعات الرب -تبارك وتعالى-، فالله -عز وجل- يبين لعباده دائما أنهم لا بد لهم أن يستحضروا شأن الآخرة، فشرع لهم ما يذكرهم بها دائما حتى لا يغفلوا عنها، وحتى لا يغفلوا عن هذا الأمر العظيم الذي هم مقدمون عليه، فإن الأمر لا يتوقف عند دنياهم، ولا يتوقف بموتهم بل هناك حياة أخرى، وهناك حساب وهناك جزاء، فلا ينبغي للعبد أن يغفل عن هذا، فكان من تشريع الرب، وهذا في حد ذاته من الحكمة، ما يذكر العبد بذلك المقام.

ومن جملته الحج، فالحج في الزحام الشديد والعدد الوفير يذكرك بمقام الحشر بين يدي ربك -تبارك وتعالى-، إنك تقوم من قبرك حافيا عاريا كما بدأك الله -تعالى- أول مرة يعيدك، تختلط بالناس في زحام رهيب، ومشقة شديدة، وحر عظيم، وتمكث في ذلك ما شاء ربك أن تمكث في مشقة عظيمة حتى يشفع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيجيء ربنا -تبارك وتعالى- لفصل القضاء بين عباده، إنه مقام عظيم تستحضره عندما تلابس عبادة الحج، فتتذكر الآخرة، وتتذكر أهوالها، وتتذكر مشقتها، فتجتهد في عبادة ربك، وتجتهد في الاستقامة على صراطه، والتمسك بتقواه حتى يتوفاك على ما يحبه ويرضاه، فييسر عليك أهوال القيامة، نسأل الله -تعالى- أن ييسر علينا أهوال القيامة، وأن يعافينا منها أجمعين.

والحج -أيضا- إخوة الإسلام فيه فائدة اجتماعية، فإن المسلمين يجتمعون في صعيد واحد، أبيضهم وأسودهم، صغيرهم وكبيرهم، قاصيهم ودانيهم، من بلدان شتى، وأصقاع مختلفة، ولكنهم جميعا يشتركون في مقام واحد، في عبادة واحدة، في مكان واحد، في بقعة واحدة، فهذا يشعر المسلم بوحدة الإسلام، وأخوة الإسلام التي هي المقدمة على كل أخوة، فإن أخوة الإسلام فوق أخوة النسب، وفوق أخوة الصداقة، وفوق أخوة الخلة، أخوة الإسلام هي الأصل الذي يجمع بين المسلمين، هي الصلة التي تربط بينهم، فيمكن أن تستشعر ذلك في هذا المقام، والاشتراك في الظاهر ينبغي أن يقتضي الاشتراك في الباطن، كما أن الاختلاف في الظاهر يقتضي الاختلاف في الباطن، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- في شأن تسوية الصف في الصلاة: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم»، فجعل الاختلاف الظاهر علامة على الاختلاف الباطن، فكذلك إذا اجتمع المسلمون ظاهرا ينبغي أن يكون ذلك مشيرا إلى اجتماعهم في الباطن، ولكن وواأسفاه عندما تكثر الأطماع والعداوات والبغضاء، وعندما يتعلق المسلمون بالدنيا ويحرصون عليها، ولا يتعلقون بربهم -عز وجل-، ولا يشيعون فيما بينهم روح الأخوة الحقة التي تنبني على دين الله وشرعه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- لا على التمييع والتضييع؛ كما يتصور كثير من المسلمين جهلا، عندما يصنع المسلمون هذا تراهم أمامك في الظاهر متفقين ولكنهم في الباطن مختلفون، فترى الناس أمامك في الحج بالآلاف والملايين والجميع يجمعهم صعيد واحد وبقعة واحدة ولكن إذا نظرت في قلوبهم فكل واحد على دين، لست أقصد ما يباين الإسلام وإنما أقصد التدين والمنهج والمعتقد، كل واحد على معتقد، وكل واحد على منهج، وكل واحد على رأي، كيف هذا ودين الله واحد؟! لماذا يتعدد المسلمون؟! ولماذا يختلفون؟! ولماذا يتفرقون؟! ألا يعتصمون بحبل الله؟ ألا يعتصمون بكتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ فكيف إذا خلت من قبلهم المثلات، وكثرت العبر والعظات، وعاشوا في فتن عرفوا فيها الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وتبين لهم دين الله؟ فكيف يتركونه بعد هذا كله؟! وكيف يستمر المبتدع على بدعته والضال على ضلاله والشقي على شقائه؟! ﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].

فأفيقوا أيها المسلمون، وعودوا إلى ربكم، وأصلحوا شأنكم معه قبل أن يحل ما لا طاقة لنا به، فإن عذاب الله شديد، والله -تعالى- لا يحابي أحدا، ولو اقتضت سنته أن ينزل العذاب بأناس فإنه والله لا يعجزه شيء، نسأل الله أن يرحم ضعفنا ويتولى أمرنا ويوفقنا للتوبة النصوح التي ترضيه عنا.

وأخيرا فمن فوائد الحج الابتلاء بما لا تعقل علته، وقد ذكرنا هذا في الجمعة الماضية، وقلنا: إن من العبادات ما لا يستطيع العبد أن يعقل علته على وجه الخصوص، والحكمة في ذلك الابتلاء حتى ينفذ العبد مراد ربه كما أراد وكما أمر، وهذا يتجلى خاصة في الحج، فإن الحج فيه الكثير من الأعمال، وفيه الكثير من الصفات في العبادات التي يأتيها المسلم في الحج في صفتها وهيئتها وأحوالها، فيه الكثير من ذلك مما لا تعقل علته، تأمل فيه من أوله إحرامك إلى آخر طواف تطوفه وهو طواف الوداع، تأمل في هذا كله، تأمل في إحرامك وطوافك وسعيك ورمي الجمرات والوقوف بعرفة، كل هذه الأمور لا تعقل علتها على وجه الخصوص ولكننا نفعلها كما أمر الله وكما شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا ابتلاء من الله -تعالى- لنا، وليس من شأن المسلم أن يتوقف عن عبادته حتى يسأل لما وكيف، كما ذكرناه في الجمعة الماضية، إذا أراد الله شيئا فإنه لا اعتراض عليه، ولا ضرب للأمثال بين يديه، ولا يقال لما ولا كيف، بل يفعل مراد الله كما أراد الله وكما أمر، ويفعل ما شرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما شرعه وكما سنه، فلا يقال لما ولا كيف، وهذا في حد ذاته يشعرك بعبوديتك لله -عز وجل- وافتقارك له، وذلك بين يديه، فإنك تفعل دائما ما يأمرك به، وتدور مع مراده حيثما دار، وهذه حقيقة العبودية.

نكتفي بهذا القدر إخوة الإسلام، وإلا فإن الكلام يطول جدا، ونسأل الله -تعالى- أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يفقهنا في دينه، وأن يرزقنا توبة نصوحا ترضيه عنا، وأن يكشف عنا الوباء والبلاء والغلاء والفتن وكل مكروه وسوء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت