تهافت العلمانية
(الخطبة التاسعة)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فلا يزال حديثنا موصولا حول مظاهر الحكمة الإلهية في تشريع العقائد الإسلامية، ونتناول اليوم -إن شاء الله تعالى- الركنين الأخيرين من أركان الإيمان، وهما الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر.
فأما اليوم الآخر؛ فهو يوم القيامة، يوم البعث والنشور، يوم الحساب والجزاء، يوم الخلود والقرار، إنه اليوم الذي يُبعث فيه الخلق من قبورهم بعد موتهم وفنائهم، فيمثلون بين يدي ربهم، فيحاسبهم على أعمالهم، ثم يكون من بعد ذلك الجزاء في الجنة دار النعيم أو في النار دار الجحيم.
وهذا اليوم -عباد الله- في حد ذاته هو مقتضى الحكمة الإلهية؛ كما سبق بيانه مرارا في شأن التكليف، والأمر والنهي، والحساب والجزاء، فما كان الله -تعالى- ليترك خلقه سدى، بل أمرهم ونهاهم، وامتحنهم وابتلاهم، ثم جعلهم من بعد ذلك محاسبين على ما قدموا، فهذا عين الحكمة الإلهية.
أراد ربنا -تعالى- أن يكون ذلك اليوم حتى يتحقق فيه الحساب والجزاء، ومقدمة ذلك اليوم في حق كل إنسان هي الموت والفناء، فكتب الله -تعالى- على جميع الخلق الموت والفناء، ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ [الرحمن: 26]، ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [القصص: 88].
فالله -تعالى- وحده هو الآخر الذي لا يلحقه فناء، وكل ما سواه من الخلق من البشر ونحوهم قد كُتب عليهم الفناء، وكُتب عليهم أن يذوقوا الموت، وهذا مظهر من مظاهر كمال الرب -جل وعلا-، فإن كماله في آخريته، وإن كماله في دوامه وبقائه، فكان من تحقيق هذا الكمال أن يُكتب الفناء على ما سوى الرب من الخلق.
وفي الموت حكمة أخرى وهي العبرة والعظة، فإن الموت مفارقة للدنيا، وما فيها من النعيم والشهوة، وقد عرفت أنها دار ابتلاء وتكليف، يُكلف فيها العبد بمجاهدة نفسه، وترك شهوته وملذته، والانخلاع من هواه حتى يكون عبدا لسيده ومولاه، فكان مما يساعده على ذلك أن يعرف أنه ليس في هذه الدار بخالد، فلا تبقى معه شهوته ولا ملذته، ولا تبقى له دنياه وما فيها من النعيم والزخرف، فإن حرص على مال فإن المال يفنى، وإن حرص على جاه فإن الجاه يفنى، وإن حرص على رياسة فإن الرياسة تفنى، وإن حرص على ولد فإن الولد يفنى، ﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [النحل: 96]، فامتحن العبد بهذا، وجعل الموت له عبرة وعظة حتى يتفكر فيما قدم، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب.
ومن تأمل في الموت وما فيه، مما يحصل عند الاحتضار، وما بعده من أمور التجهيز -تجهيز الميت-، وما بعده من القبر، فكفى بذلك كله عبرة وعظة، يتأمل العبد في كل هذا، فيجاهد نفسه، ويقدم على طاعة ربه، ويحرص على تقواه وخشيته حتى يكون له من العمل ما يقدمه لذلك اليوم.
فهذا بعض ما في الموت من الحكم، وهو مقدمة الساعة في حق كل إنسان، فمن مات فإنه ينتقل إلى حياة يقال لها: حياة برزخية، وهي الحياة في القبر، وقد أخبرنا ربنا -تعالى-، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- بهذه الحياة، وما يكون فيها من النعيم أو العذاب، فكل قبر فيه فتنة، وكل مقبور مفتون، كل مقبور يسأل عن ثلاث، يسأل عن ربه ودينه ونبيه، وكل مقبور يحاسب على حسب ذلك ويجازى، فإما منعم وإما معذب، كما أخبر به الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد ذكرنا مرارا أن من الإيمان بالله -تعالى-: الإيمان بأخباره وتصديقها، وكذلك الأمر في حق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذه قاعدة مطردة مستمرة في كافة أمور الشريعة، فكل خبر عن الله ورسوله فلا بد من تصديقه والإيمان به، فإذا أخبر الله ورسوله بفتنة القبر فهي حق، وإذا أخبر الله والرسول بنعيم في القبر أو عذاب فإن ذلك حق، ومن كذب به فهو مكذب لله والرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وليس في ذلك ما يشكل، والكلام في هذا يطول، وحسبك ما ذكره أهل العلم من أن الله -تعالى- جعل لنا في حياتنا مثالا يقرب لنا فتنة القبر، وهو ما يقع لأحدنا في منامه، فإن النوم وفاة صغرى؛ كما قال -تعالى-: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى ﴾ [الزمر: 42]، ولهذا كان مما علمناه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول أحدنا عند قيامه من نومه: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور»، فاعتبر بالنوم، واعتبر بما يقع لك في منامك من الرؤى ونحوها، فالإنسان يكون في موضعه، ويُرى أنه حدث له كذا وكذا، وذهب إلى مكان كذا وكذا، وقال كذا وكذا، وقيل له كذا وكذا، وهو في موضعه كما هو، فهذا مثال أراد الله -تعالى- أن يحدث لنا في حياتنا وهو يقع لكل إنسان حتى يقرب لنا فتنة القبر، وحتى نقيس هذه بتلك، فليس في فتنة القبر ما يشكل، وإذا أخبر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بشيء فهو حق، ولا معقب لذلك ولا راد له.
ثم يمكث البشر في قبورهم ما يمكثون حتى تجيء الساعة التي انفرد الله -تعالى- بعلم وقتها، فلا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 63]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ [لقمان: 34]، فإذا جاء وقت الساعة، قام الناس من قبورهم على هيئتهم التي عليها ولدوا وخلقوا؛ كما قال -تعالى-: ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ﴾ [الأنبياء: 104]، ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 78-79]، ينفخ في الصور نفخة أولى، فيصعق الخلق، ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، على هيئتهم التي خلقوا عليها، ثم يحشرون إلى ربهم حفاة عراة غرلا -أي: غير مختونين-؛ كما نزل أحدهم من بطن أمه يبعث، حتى يلقى ربه ويسأله عن عمله.
ثم يكون من بعد ذلك فصل القضاء، ثم يكون من بعد ذلك الحساب، والميزان الذي توزن فيه الأعمال وصحائفها ويوزن العامل نفسه -أيضا-، ثم حوض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي تشرب منه أمته، ثم الصراط الذي يمد على جسر جهنم يجوزه الخلق، ثم القنطرة التي يحبسون عليها، ثم يكون المصير إما إلى جنة وإما إلى نار.
فهذا جامع ما يقع في ذلك اليوم، ولا بد من الإيمان به؛ كما أخبر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتفاصيله معروفة، ولا يحتمل المقام الخوض فيها، ولكن ننبه على وجود الإيمان بكل ما أخبر به الرب -جل وعلا-، وما أخبر به الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فإن هذا من الإيمان بالله والرسول، وقد سبق شرح ذلك.
فها أنت ترى -أراك الله الهدى- أن هذا اليوم الآخر هو مقتضى الحكمة الإلهية، وكل ما فيه من التفاصيل يحققها ويؤكدها ويبين عدل الرب -تعالى- في حكمه بين العباد، ويبين عدله في الحكم على كل واحد في مصيره الذي يقر فيه، فهذه كلها حكمة إلهية تتجلى لنا في تشريع ربنا -جل وعلا-، ونسأل الله -تعالى- أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما تسمعون، ويغفر الله لي ولكم.
* الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام عباد الله، يبقى لنا الركن الأخير من أركان الإيمان وهو الإيمان بالقدر خيره وشره، فلا بد أن نعرف ابتداء في الإيمان بالقدر أن حكمة الله -تعالى- اقتضت أن يكون كل شيء عنده بنظام وترتيب من غير عبث ومن غير لعب ومن غير خلف ولا تناقض، فهذا يستدعي أن يكون كل شيء عند الله -تعالى- مقدرا، وذلك الإيمان بالقدر؛ كما قال -تعالى-: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وكما قال -تعالى-: ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ [الأحزاب: 38]، فليس في حكمة الله -تعالى- شيء من العبث أو التناقض بل حكمته تقتضي أن يكون كل شيء عنده مقدرا ومرتبا ومنظما على أسمى درجات الإحكام والإتقان، فإنه -تعالى- قال عن نفسه: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [السجدة: 7]، ولو جاز خلاف هذا لكان الرب متصفا بالعبث، وحاشاه.
واعتبر بنفسك في حياتك -ولله المثل الأعلى-، فإن الذي يعيش في حياته من غير ترتيب وتنظيم مذموم، ولا يصل إلى مصلحة معتبرة، ولا يستقيم في حياته على الجادة، بل يخبط خبط عشواء، وتمتلئ حياته بالمفاسد والاضطرابات، ولله المثل الأعلى.
كيف بالرب -جل وعلا- الذي سبق في علمه كل شيء، ﴿ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾ [الطلاق: 12]، ولا يقع في كونه إلا ما يريد، وهو الفعال لما يريد، وهو خالق الكون كله بما فيه ومن فيه، فما من شيء في هذا الكون إلا وهو مخلوق لله -تعالى-، لا بد أن تكون هذه الأمور كلها على وفق الحكمة والإحكام والإحسان.
فذلك الإيمان بالقدر مجملا، أن تؤمن أن كل شيء عند الله -تعالى- مقدر.
وينتظم الإيمان بالقدر في أربع مراتب شرحناها كثيرا من قبل:
أولا: أن تؤمن بعلم الله -تعالى-.
فإن القدر لا بد أن ينبني في أوله على علم، فالله -تعالى- أحاط بكل شيء علما، علم كل شيء، ﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ ﴾ [سبأ: 3]، ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]، وبخلاف هذا يكون الرب متصفا بالنقص، وحاشاه.
فالله -تعالى- لم يزل عالما عليما، وهو يعلم كل شيء يقع في كونه، سواء كان صغيرا أو كبيرا، سواء كان كليا أو جزئيا، لا يعزب عنه شيء ولا يغيب.
ثانيا: أن تؤمن بكتابة المقادير.
فإن الله -تعالى- علم فكتب، كل شيء عنده في كتاب؛ كما سمعنا في الآية السابقة، وكما في قوله -تعالى-: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، وذكر الكتاب في الكتاب والسنة كثير لا يخفى، وهناك أنواع من الكتابة ذكرناها من قبل لا بد من الإيمان بها كما أخبر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا -أيضا- من مقتضيات الحكمة الإلهية ومن مظاهر الكمال والتمام في قدرة الله -تعالى- وسلطانه.
ثالثا: أن تؤمن بإرادة الله -تعالى- الشاملة لكل شيء، والتي لا يعجزها شيء.
﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ﴾ [فاطر: 44]، ﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ [الأنعام: 134]، فالله -تعالى- إذا أراد شيئا كان، وإذا لم يرده لم يكن، فكل شيء واقع بإرادة الله -تعالى-، كل ما يحدث حولك في الحركات والسكنات، في التغيرات والتقلبات، في كل شيء صغر أو كبر، كل هذا واقع بإرادة الله -عز وجل-.
ولكن لا بد أن تفرق فرقانا شرعيا بين الإرادة والمحبة، وهنا يتجلى مظهر من أعظم مظاهر الحكمة الإلهية، فإن الله -تعالى- قد يريد الشيء ولا يحبه، ولا يدعو إليه، ولا يأمر به، بل يذمه وينهى عنه ويعاقب عليه، فإنه قال: ﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ [البقرة: 205]، وقال: ﴿ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ ﴾ [الزمر: 7]، فكل ما حولك من أمور الشر والفساد والضرر هي مبغوضة لله -تعالى-، فالله لا يأمر إلا بكل بخير، ولا ينهى إلا عن كل شر.
فلا بد أن تفرق بين هذا وبين جانب الإرادة، فإن الله -تعالى- أراد هذه الأشياء ولا يكون خلاف هذا، وإلا فمن الذي أرادها؟! أيقال كما يقول أهل البدع: إن الله لم يرد هذه الأشياء فوقعت على خلاف مراده؟ اللهم، لا، لو كان كذلك لغلبت إرادة غير الله إرادة الله، ولا يكون ذلك أبدا، فالله -تعالى- ولا شك مريد لكل هذا.
ولكن إذا كان لا يحبه فلماذا أراده؟
الجواب يأتيك عندما تعرف الحكمة الإلهية في مراد الرب -تعالى-، فإن الله -تعالى- اقتضت حكمته الابتلاء والتكليف -كما عرفت-، ولا يتحقق الابتلاء والتكليف إلا بوجود الشيء وضده، وهذه فطرة فُطر الخلق عليها لا يستطيعون لها ردا، لا يتحقق الابتلاء إلا بوجود الشيء وضده، ولا يتحقق التكليف إلا بوجود الشيء ونقيضه، فالله -تعالى- كلفنا بالإيمان، وأمرنا بالإسلام، وحضنا على الطاعة والاستقامة، فكيف يحدث هذا لو لم يكن أمامنا ضد هذه الأشياء؟! لا بد أن يكون مع الإسلام الكفر، ومع الطاعة المعصية، ومع الخير الشر، وهكذا، حتى يميز العبد بينهما، ويعرف ما في الخير من الخير والفلاح والسداد، وما في الشر من الشر والشقاء والهلاك، لا بد أن تعرض أمامه الأشياء وأضدادها حتى يميز بينها ويعرف الحق من الباطل، والصوب من الخطأ.
والتكليف -كما عرفنا- لا بد فيه من ابتلاء ومجاهدة، يكون أمامك الشر ونفسك تميل إليه، ولكنك ممتحن ومكلف حتى تجاهد نفسك في تركه، وتنصرف إلى الخير.
ولولا هذا لما تُصور التكليف أصلا، كيف يتحقق التكليف، وكيف يتحقق الإيمان المبني على الرغبة والرهبة مع وجود الخير وحده في هذا الكون؟! واعتبر هذا في حياتك التي تعيشها، في حياتك أنت، وفي حياة أولادك، وفي حياة إخوانك، وفي تعاملك مع الناس، لا بد أن تكون الأشياء مع أضدادها حتى يحصل التمييز وحتى تحصل المجاهدة، والله -تعالى- أعطانا عقلا نميز به، وهذا من مقتضيات تكريم الإنسان، والعقل إذا تبع الشرع فإنه لا يضل أبدا، ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ﴾ [طه: 123]، فبهذا يحصل التمييز والابتلاء والتكليف.
ومن هنا تعرف لماذا أراد الله ما لا يحبه؟ أراده حتى يتحقق التكليف ويتحقق الابتلاء ويحصل الأمر والنهي على الجادة التي يحبها ويرضاها، والتي ينبني عليها الثواب والعقاب، والحساب والجزاء، وأي ثواب وعقاب يحصل إذا لم يكن مع الشيء ضده؟! يثاب على أي شيء؟! ويعاقب على أي شيء؟!
فهذه حكمة باهرة بالغة تجعلنا نخضع للرب -تبارك وتعالى-، وهذا بعض ما يمكن أن نصل إليه، أو هذا هو ما يمكننا أن نصل إليه، وما خفي عنا أعظم، والقدر -بالذات- هو سر الله في الخلق، مهما خاض فيه الناس فإنهم لا يصلون إلى نهايته، ولا إلى حقائقه، ولا إلى تفاصيله، فإن هذا مما ينفرد به الرب -تعالى-، وتفاصيل هذا كثيرة جدا، عندما يعالجها أهل العلم ويتكلمون فيها، فيتكلمون في أمور العطاء والمنع، والثواب والعقاب، والعز والذل، وما أشبه ذلك، كلها أمور مبنية على غاية الحكمة بحسب ما يتوصل إليه البشر، وما خفي عنهم كان أعظم.
فبهذا تعرف جواب السؤال الذي حير الكثير من الألباب، وزلت فيه أقدام الكثير من الأذكياء، وما التوفيق إلا بالله، وما العصمة إلا منه -جل في علاه-.
رابعا وأخيرا أخا الإسلام: أن تؤمن بخلق الله -تعالى- لكل شيء.
فكل ما حولك، كل ما تراه، كل ما تسمعه، وكل ما سوى الله -تعالى- عموما فهو مخلوق، محدث، كائن بعد أن لم يكن، يدخل في هذا كل شيء، صغيره وكبيره، دقيقه وجليله، ظاهره وخفيه، وينبه العلماء خاصة على القضية التي وقع فيها الاختلاف بين أهل القبلة وهي قضية أفعال العباد.
فأفعال العباد مخلوقة للرب -تعالى-، لم يخلقها العباد، ولم يوجدوها لأنفسهم، وإنما هي مخلوقة لله -تعالى- كما أن العباد أنفسهم مخلوقون لله -تعالى-، وهذا -أيضا- من مقتضيات قدرة الله -تعالى- وسلطانه، فإن كل ما سواه لا بد أن يكون مخلوقا له، ولولا ذلك لكانت القدرة ناقصة، ولكان السلطان ناقصا، وحاشا لله من شيء من ذلك، أفيخلق غير الله؟! أفيقدر على مثل هذه الأشياء غير الله -تعالى-؟! اللهم، لا.
وفي خلق الأفعال قضية مهمة، وهي قضية التيسير والتمكين، هي التي أخبر عنها الرب -تعالى- بقوله: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5-10]، فهناك تيسير، وهو الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اعملوا، فكل ميسر لما خلق له».
وهذا التيسير تجده في الكتاب والسنة في صور شتى، منها صورة الجعل، أي: إن الله -تعالى- جعل عباده على نحو كذا أو نحو كذا، جعل الطائع طائعا، وجعل العاصي عاصيا، فهذا مما يوجد في الكتاب والسنة، وله نظائر كثيرة.
فكيف نفهم هذا؟ لأن ما أخبر به الله والرسول -كما عرفت- فإنه لا يكون إلا حقا، ويجب الإيمان به، ولكن كيف نفهمه؟
هل نفهم من هذا أن العبد مسلوب الاختيار والمشيئة والقدرة؟
الجواب: لا.
وهو الذي تجده -أيضا- في الكتاب والسنة، أي: إن الله -تعالى- أثبت لعباده الاختيار والمشيئة، ﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ﴾ [فصلت: 40]، ﴿ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، ﴿ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الإنسان: 30]، ﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ﴾ [الزمر: 15]، هكذا تجد في الكتاب.
ولا بد أن نربط هذا بقضية التكليف، فإن كل شيء لا بد أن يعود إلى هذه القضية.
الله -تعالى- كلفنا وأمرنا ونهانا، فكيف يتصور هذا مع غير اختيار منك؟ وكيف يتصور هذا مع خلق الخير والشر جميعا؟
لقد عرفنا أن الخير والشر قد وجدا معا لأجل التمييز، والتمييز لا بد فيه من اختيار وإرادة.
فإذا تأملت في هذا، وتأملت في حقيقة التكليف وما ينبني عليه من الثواب والعقاب، فإنه لا يمكن أن يتصور أبدا أن العبد لا قدرة له، ولا اختيار له، ولا مشيئة له.
ومن تصور هذا أو اعتقده فقد أعظم على الله الفرية، ونسب إليه الظلم البين الذي لا يتشكك فيه أحد، إذ كيف يثيب الله -تعالى- ويعاقب أحدا على أمر قد طُبع عليه من غير اختيار منه؟! يؤتى به هكذا فيصلي، فلماذا يثاب؟! ويؤتى به هكذا فيعصي، فكيف يعاقب؟! فلا بد إذن من اختيار في العبد، فالاختيار موجود، والإرادة موجودة، وهي الفطرة التي لا يستطاع لها رد، كل واحد منا يجد من نفسه هذا، يجد من نفسه أنه يميل إلى كذا، ولا يميل إلى كذا، ويريد كذا، ولا يريد كذا، ويقوم في الطاعة أحيانا، ويقوم في المعصية أحيانا.
أهناك قدرة خفية دفعته إلى هذا كله كالمضطر الذي لا حركة له ولا اختيار؟!
الجواب: لا.
فالاختيار موجود، وإنما التيسير تمكين من الاختيار.
أي: إن الله -تعالى- يمكنك من اختيارك، من أراد الإيمان فإنه يمكنه من الإيمان، ومن أراد الكفر -عياذا بالله تعالى- فإنه يمكنه من الكفر، وكل هذا قد سبق في علم الله أزلا، فالله -تعالى- علم المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وعلم أن كل معين سيختار كذا أو سيختار كذا، فالتيسير مبني على هذا، وإذا يسر الله -تعالى- عبده لما أراد، فليس المقصود بذلك أنه لا اختيار عند العبد بل إرادة الله -تعالى- تبين أن العباد مختار لما يفعل، وعلى هذا ينبني التكليف وينبني الأمر والنهي.
فإذا أردت شيئا فإن الله يمكنك منه، هذا هو معنى خلق الأفعال، وهذا هو معنى التيسير أن العبد ميسر لما خلق له.
فليس هناك جبر ولا اضطرار ولا قهر ولا غير ذلك مما يقوله أهل البدع والأهواء، وليس الأمر بخلاف ذلك على ما تقوله طائفة أخرى من أن العباد يخلقون أفعال أنفسهم لا قدرة لله عليهم ولا سلطان، كما أن القول الأول نسبة للظلم إلى الله، فالقول الثاني نسبة للنقص إلى الله، ونسبة للعجز.
وأهل الإسلام وسط بين الملل، وأهل السنة وسط بين الفرق، هم الذين آمنوا بالكتاب كله، لم يأخذوا بعضه ويتركوا بعضه، بل آمنوا بالكتاب كله، فصدق بعض كلامهم بعضا، وصدق بعض اعتقادهم بعضا، وجمعوا الخير كله، والحمد لله.
فليس في الأمر ما يشكل، وليس في الأمر ما يحير، ولو أنك اكتفيت بهذا فأنت على خير، ولو مت على هذا فذلك الفوز العظيم، لا يسعك من بعد هذا أن تفكر وتدقق وتنظر وتتحير، لماذا؟ وكيف؟ لا يقال لما ولا كيف، هكذا قال الأئمة: لا يقال لما ولا كيف، لماذا؟ لأنك قاصر، عد معي إلى الفطرة، عد معي إلى ما سبق ذكره، أنت قاصر وضعيف، خلقك الله هكذا؛ لأنك قاصر وضعيف ومخلوق، لا بد أن تكون عبدا لأنك محتاج إلى رب خلقك، فلا بد أن تكون إذن عاجزا، ولا بد أن تكون قاصرا، ولا بد أن يغيب الله عنك أشياء وأشياء، فلماذا تصل أنت إليها؟ وما الذي تستفيده لو عرفتها؟ واستحضر قول الله -تعالى-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 101-102]، فلا تتسورن على الغيب، ولا تتكلفن معرفة ما لم تعرف ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 36]، فاكتف بهذا عبد الله، عرفت فالزم، استقم على جادة الله، قل آمنت بالله ثم استقم، والأمر -بحمد الله تعالى- لا إشكال فيه، ولا ريب فيه، ولا مطعن فيه.
وهذه عقيدة الفطرة، فمن وفقه الله -تعالى- إليها، ومات عليها، فذلك الفوز العظيم، وهو ما يريده كل إنسان، نسأل الله من فضله العظيم، وأما ما سوى ذلك فإنه لا يحصل إلا التعب والنصب والحيرة والحرج والشك والضيق والعذاب، قل ما شئت، حتى كان أحدهم يقول: أموت ولا أعتقد شيئا، نسأل الله السلامة والعافية، وكان الآخر يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، وأقرأ في النفي: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
ألا فليخسأ المتهوكون، وليسكت المتحيرون، وليلزموا حدودهم، وليعرفوا قدرهم كعباد، لا يجوز لهم أن يتخطوه ولا يتسوروا على ما لا يستطيعون الوصول إليه.
نكتفي بهذا إخوة الإسلام في الكلام على العقائد، فإن جميع العقائد الإسلامية ترجع إلى أركان الإيمان التي سبق بيانها، وقد عرفت -والحمد لله- أنها مشتملة على غاية الحكمة، وغاية الإحسان، والعدل في تشريع الرب -تبارك وتعالى-.
فليخسأ دعاة العلمانية، وسنزيد في إفحامهم -إن شاء الله تعالى-، نسأل الله العظيم من فضله، ونسأله أن يوفقنا دائما إلى كل خير.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا
|