تهافت الع"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :542310
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الثامنة من تهافت العلمانية

المقال
تفريغ الخطبة الثامنة من تهافت العلمانية
3686 زائر
14/02/2014
أبو حازم القاهري السلفي

تهافت العلمانية

(الخطبة الثامنة)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فنستكمل إخوة الإسلام حديثنا عن مظاهر الحكمة الإلهية في تشريع العقائد الإسلامية، ونبتدئ مقامنا اليوم بالركن الثالث من أركان الإيمان الذي هو الإيمان بالكتب .

والإيمان بالكتب -عبد الله!- أن تؤمن أن الله -تعالى- أنزل كتبا على من اصطفى من أنبيائه ورسله يبين فيها شرعه ودينه، وأمره ونهيه، فهذه الكتب إخوة الإسلام قد أنزلها الله -تعالى- على أنبيائه ورسله يبين فيها دينه وشرعه، وأمره ونهيه.

وإنزال الكتب في حد ذاته هو مقتضى الحكمة الإلهية من التكليف والأمر والنهي، وقد ذكرنا مرارا أن الله -تعالى- لا يترك عباده هملا ولا سدى، بل لا بد من تكليف وشرع، وهذا التكليف والشرع هو ما أنزله الله -تعالى- في هذه الكتب.

وقد اقتضت الحكمة الإلهية -أيضا- أن تكون التشريعات الإلهية في هذه الكتب خاصة بحيث تكون في مصدر جامع يتداوله الناس، ويقرأونه، ويتعلمونه، ويعرفون ما فيه.

وهكذا فطر الله -تعالى- الخلق، فإنهم لا يتعلمون شيئا حق التعلم، ولا يعرفونه حق المعرفة إلا إذا كان في مصدر جامع يتداولونه ويتدارسونه، فهكذا أنزل الله -تعالى- الكتب مبينا فيها مراده من الخلق، وتكليفه إياهم.

فهذه الكتب الإلهية تجد فيها تشريع الرب -تعالى- في كل صغير وكبير، في أمور الاعتقاد والعمل، وفي أمور الحلال والحرام، وفي أمور السياسة والسلوك، وفي كل شيء؛ كما قال -تعالى- في شأن كتاب من هذه الكتب وهو الكتاب الخاتم -القرآن الكريم-، قال -تعالى-: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89]، فما من شيء إلا وقد بينه الله في القرآن، وأوضحه لعباده.

وهكذا في سائر الكتب التي نزلت على سائر الأنبياء والمرسلين، وخبرها كثير في القرآن، إما إجمالا وإما تفصيلا، فأحيانا يذكر الله -تعالى- شأن الكتب وما فيها على وجه الإجمال، وأحيانا يذكر شيئا من التفصيل؛ كما في شأن التوراة -مثلا- إذ قال الله -تعالى-: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ [المائدة: 45]، فهكذا تجد في هذه الكتب الإلهية، تجد أوامر الله -تعالى- ونواهيه، تجد تكليفه وشرعه ودينه ومراده من الخلق.

وقد ابتلى الله -تعالى-من كان قبلنا بحفظ ما أنزله إليهم من الكتب، ولكنهم فرطوا، وضيعوا، وبدلوا، وغيروا؛ كما حكاه الله -تعالى- عنهم في القرآن، وكما هي الحقيقة الملموسة التي لا يستطيعون لها ردا، فلما الأمر كذلك، ولما كان القرآن الكريم هو الكتاب الخاتم المنزل على النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم-، ولما كانت هذه الأمة أمة مرحومة بفضل الله -تعالى- وكرمه، لما كان ذلك، تعهد ربنا -تعالى- بنفسه بحفظ هذا الكتاب الخاتم، فلا يتطرق إليه تبديل ولا تغيير، قال -جل وعلا-: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وقد وقع تصديق هذا مذ أنزل هذا الكتاب، فلا يستطيع أحد أن يبدل فيه شيئا، أو يغير فيه شيئا، أو يحرف فيه شيئا، ومن تجرأ على شيء من ذلك فُضح، وعُرف أمره، وكُشف شأنه، فلا يروج شيء من تزييفه على المسلمين أبدا، وهذا الأمر في حد ذاته مما يبين إعجاز الكتاب، وحفظ الله -تعالى- له، وعظيم قدرته وسلطانه -جل في علاه-، وحكمته البالغة الباهرة.

فالقرآن محفوظ لا يتطرق إليه تبديل، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما ذُكر فيه من الدين فهو محفوظ لا يتطرق إليه خلل، ولا يظن فيه عبث، وهذا من فضل الله -تعالى- على هذه الأمة.

والله -تعالى- أيضا يكلفنا في الإيمان بالكتب أن نؤمن بما أنزله منها سواء ذكره لنا بعينه أو لم يذكره، فهناك من الكتب ما ذكره الله لنا بأسمائه، وهناك ما لم يذكر بأسمائه، فهذا تكليف من الله -تعالى- لنا وابتلاء، ومن صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، وخبر الله -تعالى- لا بد من تصديقه، وهكذا تجد في كافة أمور الإيمان.

فالله -تعالى- سمى لنا كتبا وهي خمسة ذكرها في كتابه، وهي: الصحف، والزبور، والتوراة، والإنجيل، والقرآن.

فنؤمن بهذه الكتب المعينة بأسمائها كما ذكر الله، وما سواها فإننا نؤمن إجمالا أن الله -تعالى- أنزل كتبا أخرى على بعض الأنبياء الآخرين وإن لم يذكر الله -تعالى- لنا أسماءها؛ لأن خبر الله لا بد من تصديقه، وهو ربنا -تبارك وتعالى-، لا يجوز عليه خلف في خبره، ومن أصدق من الله قيلا؟ ومن أصدق من الله حديثا؟

فهذا بعض ما يتعلق بالإيمان بالكتب.

وأما الركن الرابع الذي هو الإيمان بالرسل.

فهو الإيمان بأن الله -تعالى- قد اصطفى من بين الناس رسلا، اختارهم بحكمته، لتبليغ رسالاته إلى الخلق، فأنزل عليهم وحيه وكتبه، وأمرهم بتبليغها وبثها إلى الناس، وأمرهم بدعوة الناس إلى ما فيها من الحق، أمرهم بدعوة الناس إلى توحيده -جل وعلا-، والقيام بأمره، والاستقامة على صراطه، وخشيته وتقواه بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه.

فكانت الأنبياء والرسل تبلغ دين الله -تعالى- ومراده إلى الخلق، وهذا -أيضا- هو مقتضى حكمة الله -تعالى- في الأمر والنهي؛ كما عرفنا.

ومن حكمته -جل وعلا- في ذلك -أيضا- أنه جعل الرسل من البشر أنفسهم، فلم يرسل إليهم ملكا، ولا غير ذلك مما سوى البشر، وقد بين حكمته في ذلك فقال: ﴿ وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ . وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ [الأنعام: 8-9]، فبين -تعالى- أولا أنه لو أنزل ملكا لقامت الحجة مباشرة على الخلق، والله -تعالى- لا يريد إيمانا تحت القهر، وإنما يريد إيمانا مبنيا على الصدق والتسليم، وفي هذا يقول -تعالى-: ﴿ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾ [الشعراء: 4]، فلو أراد الله -تعالى- أن ينزل علينا آية أو يظهر إلينا آية تكره الناس جميعا على الإيمان لفعل، ولكن الإيمان على هذه الشاكلة لا يكون إيمانا على ما يريده الله، ولا يكون إيمانا على مقتضى الحكمة البليغة، فإن الحكمة تقتضي أن يكون الإيمان عن صدق وتسليم، ورغبة ورهبة، ولا يكون هذا إلا بشيء من الغيب يعزب عن الإنسان، لا يكون هذا إلا بشيء من الابتلاء والامتحان، هكذا يكون الإيمان الصادق، وأما الإيمان الذي يكون على وفق الآية مباشرة فهو فيما سوى ذلك.

فلو أنزل الله -تعالى- على البشر ملكا لآمنوا جميعا؛ لأن الملائكة كما عرفنا لهم صفة خاصة في خلقهم، لهم جلالة وعظمة في خلقهم، فإذا رأوهم الناس على هيئتهم سلموا وأقروا؛ ولهذا قال -تعالى-: ﴿ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ﴾ [الأنعام: 8]، أي: لوقع عليهم العذاب مباشرة من غير إمهال، فكان من رحمة الله -تعالى- بالخلق -أيضا- أن يرسل إليهم من بينهم رسولا حتى إذا وقع شيء من عدم الاستجابة أنظرهم، وأمهلهم لعلهم يرجعون ويؤمنون ويستقيمون حتى إذا قامت الحجة وتبينت المحجة وظهر الإصرار والعناد كان العذاب عندئذ حقا من الله -تبارك وتعالى-، وأما مع إنزال الملك فإن العذاب يقع بمجرد الإعراض من غير إمهال، فكان من رحمة الله -تعالى- أن يمهل الخلق، ولا يكون هذا إلا بإرسال الرسول من بينهم.

ثم قال -تعالى-: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ﴾ [الأنعام: 9]، أي: إن البشر أصلا لا يطيقون رؤية الملك لعظم خلقه، فلو أن الله -تعالى- أنزل عليهم ملكا من السماء لجعله في صورة رجل حتى يتحملوا رؤيته وسماع كلامه وما جاء به من عند الله -تعالى-، فأي فرق إذن بين أن يكون الرجل من الملائكة أو يكون من البشر؟

ولهذا قال -تعالى- في موضع آخر: ﴿ قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً ﴾ [الإسراء: 95]، مشيرا إلى حكمته التي تقتضي أن الرسول لا يكون إلا من جنس المرسل إليهم، فإنزال الملك لا يكون إلا للملائكة، فلو كان في الأرض ملائكة لنزل عليهم ملك رسول، ولكن الذين في الأرض ليسوا من الملائكة وإنما هم بشر، فاقتضت حكمة الله -تعالى- أن يكون الرسول من بينهم.

ومن الحكمة -أيضا- زيادة على ذلك- أن إرسال الرسول من نفس الجنس يكون أدعى إلى تصديقه والميل إليه، فإن الله -تعالى- فطر الخلق على الميل إلى ما يشاكلهم ويناسبهم، فالإنسي يميل إلى الإنسي ويستأنس بكلامه ويرتاح إليه ويميل إليه، فكان الرسول مرسلا من الإنس حتى يكون أدعى للاستجابة له.

وفوق ذلك لم يرسل الله -تعالى- كذابا، ولا خائنا، ولا معروفا بسوء السيرة أبدا، بل لا بد أن يكون الرسول البشري مصطفى مجتبى على أتم ما يكون من السيرة والحال والمقال حتى يكون ذلك أدعى لتصديقه، فإن الكذاب لا يصدقه أحد، وإن الخائن لا يصدقه أحد، وإن الفاسق الفاجر لا يصدقه أحد، ولو وقع شيء من ذلك لوقع الخلف بين قوله وعمله، يقول شيئا ويعمل بخلافه؛ ولهذا قال أحد أنبياء الله، وهو شعيب -عليه السلام-: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [هود: 88]، فلا بد أن يكون الرسول أصلح قومه، وأفضلهم، وأحسنهم سيرة حتى يكون ذلك أدعى لتصديقه.

وقد كان جميع الأقوام يقرون لأنبيائهم بهذا، واستحضر شأن مشركي قريش مع الرسول الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم-، فما كانوا يتهمونه في كلامه، ولا في فعاله، ولا في سيرته، ولكنه الجحود ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33]، فالمدار -إذن- على الآيات والبراهين، على الحجج والأدلة التي تقتضي الاستجابة لله -تعالى- ولأنبيائه، فلا فرق -إذن- بين أن يكون الرسول من البشر أو يكون من الملائكة؛ لأن المكذبين سيكذبون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم.

فهذا كله من مظاهر حكمة الله في اصطفاء الرسل وإرسالهم، نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لكل خير.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

من مظاهر حكمة ربنا -تعالى- أيضا- في إرسال الرسل: أنه جعل دعوتهم واحدة، والمقصود بهذه الدعوة الواحدة أصل الديانة والتكليف، فأصل الديانة والتكليف هو توحيد الله -تعالى-، وهذا لا يختلف فيه أحد من الأنبياء والمرسلين، ويتبعه إيجاب الواجبات الظاهرة، وتحريم الفواحش الظاهرة، فإن هذا أمر لا يختلف فيه -أيضا- أحد من الأنبياء والمرسلين.

فكل ما هو مستحسن في الفطرة، قد أمر به جميع الأنبياء، وكل ما هو مستقبح فيها، قد نهى عنه جميع الأنبياء.

يقول الله -تعالى-: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، ويقول -تعالى-: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، ويقول -تعالى-: ﴿ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [الزخرف: 45]، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- مبينا هذه العلاقة بين المرسلين: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد»، فجعل الأنبياء بمثابة الإخوة من الأمهات الذين لهم أب واحد، فكذلك دين الأنبياء في أصله واحد لا يتغير، وإنما الاختلاف بينهم في بعض التشريعات وأمور العمل والعبادة بحسب ما تختلف فيه الحال في أقوامهم وأهلهم.

وهذا -أيضا- من حكمة الله -تعالى- في شرعه، فإنه يكلف أمة بشيء، ثم لا يكلف أمة أخرى به، ويلزم أمة بشيء، ثم لا يلزم أمة أخرى به، ويضع على أمة من الآصار والأغلال ما يرفعه عن غيرها، فإن الله -تعالى- حكيم يضع الشيء في موضعه، وكل تشريع منه فهو مطابق لمقتضى الحال، واعتبر بشأن أهل الكتابين كيف وضع الله -تعالى- عليهم من الآصار والأغلال لعنادهم وبغيهم وفسادهم، يقول -تعالى-: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً . وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ﴾ [النساء: 160-161]، فلما صنعوا ذلك شدد الله عليهم، وحرم عليهم أمورا من الطيبات بخلاف هذه الأمة -مثلا-، بخلاف أمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، لم يضع الله -تعالى- عليهم من الآصار والأغلال ما وضعه على بعض من كان قبلهم.

فهذا هو الاختلاف بين الأنبياء، اختلاف في بعض أمور العمل، في بعض أمور العبادة، وأما أصل الدين والتكليف فواحد.

فلم يبعث نبي قط بما يتعارض تعارضا تاما مع غيره من الأنبياء والمرسلين، لم يبعث نبي قط بالشرك، لم يبعث قط بإباحة القتل، أو الزنا، أو السرقة، أو نحو ذلك من الفواحش الظاهرة التي هي مستقبحة في الفطر، وهكذا.

فهذا من حكمة الله -تعالى- في شرعه -أيضا-.

ومن حكمته كذلك في أنبيائه ورسله أنه أوجب طاعتهم على الخلق، فالطاعة ليست لله وحده، وإنما هي -أيضا- لأنبيائه ورسله، وطاعة الرسل طاعة لله؛ لأنه الذي أرسلهم، ولأنه الذي أمر بطاعتهم، ولأنهم يبلغون نفس دينه ووحيه لا شيئا آخر، فكان إيجاب طاعتهم مما تقتضيه الحكمة ومما يقتضيه صريح العقل، فالذي يفصل بين طاعة الرسول وطاعة الله -تعالى- هو في حقيقة أمره عاص لله، معترض على الله، متهم له في حكمته وأمره ونهيه، والأمر بطاعة الرسول -عليه الصلاة والسلام- ظاهر في الكتاب بين، لا يحتاج إلى كلام.

وهذا يظهر في حياته -عليه الصلاة والسلام-، يكون الرد إلى شخصه ويكون الاحتكام إليه، ويكون الصدور عن قوله، وأما بعد موته فالرد إليه رد إلى سنته، فهو -صلى الله عليه وسلم- وإن قبض شخصه وإن قبضت روحه إلا أن كلامه باق، لم يقبض ولم يرفع ولم يزل من هذه الأمة، سنته باقية، أوامره ونواهيه، أحكامه وأقضيته، هديه وشمائله، كل هذا موجود، ومحفوظ -أيضا- كما حُفظ القرآن، فإن السنة من الذكر، وإن السنة من الوحي، ولا يستقيم في حكمة الله -تعالى- أن يحفظ بعض الوحي دون بعض، فالسنة وحي كما أن القرآن وحي، وكما أن القرآن محفوظ، فالسنة محفوظة، لا يستطيع أحد -أيضا- أن يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يستطيع أحد أن يبدل كلامه أو يزيد أو ينقص، ومن فعل شيئا من ذلك -أيضا- فلا بد أن يفتضح، ولا بد أن يكشف أمره، ولا بد أن تظهر صفحته للناس، فلا يروج شيء من كلامه على عموم المسلمين أبدا.

فهذا -أيضا- من حكمة الله -تعالى- في إرسال الرسل.

ومن ذلك -أيضا- أن الله -تعالى- عامل الرسل بمقتضى بشريته، فهم بشر من جملة البشر لا يتميزون في الأمور العامة البشرية، فيجوز عليهم ما يجوز على سائر البشر من البلاء والمرض والأذى والجوع وغير ذلك، وهذا -أيضا- من حكمة الله -تعالى- في اصطفائه لهم حتى يبتليهم، ويكون لهم نصيب من المحنة، حتى يصبروا على دعوتهم، ويصبروا على تبليغها للناس، وقد وعدهم الله -تعالى- على ذلك أعظم الوعد، فجعلهم درجات، ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ [البقرة: 253]، ﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [الإسراء: 55]، فتفاضلهم بحسب حالهم في البلاء، بحسب حالهم في الصبر، بحسب حالهم في دعوتهم لأقوامهم، وكان منهم أولو العزم الخمسة -عليهم جميعا الصلوات والتسليمات-، وكان منهم من سواهم ممن له فضل ودرجة عند الله -تعالى-، وكل في مقامه وعلى حسب حاله، وأفضلهم خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- لعظيم صبره، وعظيم بلائه، وشدة جده في دعوته لقومه، وشدة تحمله للأذى، وغير ذلك من موجبات تفضيله -صلى الله عليه وسلم-.

فهذا -أيضا- من حكمة الله -تعالى-، يبتلي رسله كما يبتلي غيرهم ممن دونهم حتى يتحقق لهم من التكليف ما يتحقق لغيرهم.

ومن ذلك -وبه نختم- ما تقدم مثله في شأن الكتب، فإن الله -تعالى- سمى لنا من الرسل أناسا، ولم يسم لنا أناسا آخرين، فوجب علينا أن نؤمن بالجميع، نؤمن بمن سمى الله، ونؤمن بمن لم يسم؛ لأن الجميع أنبياء ورسل، ولأن خبر الله -تعالى- لا بد من تصديقه، فهناك من الأنبياء المسمين في كتاب الله -تعالى- خمسة وعشرون، نؤمن بهم بأسمائهم، ومن سواهم فكما قال -تعالى-: ﴿ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ﴾ [النساء: 164]، وكما قال -تعالى-: ﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 24]، فنؤمن بهذا، نؤمن بهذا الغيب الذي كلفنا الله -تعالى- بالإيمان به كما نؤمن بربنا وكما نصدق خبره، ونسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من المؤمنين.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبدا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت