الدرس الثاني والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الثالث والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الرابع والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الخامس والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس السادس والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس السابع والعشرون، وهو الأخير - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو حرمة أكل المال بالباطل - خطب عامة الحياء 1446 - خطب عامة لغة القرآن والحفاظ على الهوية - خطب عامة صناعة العقول بين الاستقامة والانحراف - خطب عامة
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :567265
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ محاضرة أحكام قتال البغاة

المقال
تفريغ محاضرة أحكام قتال البغاة
8158 زائر
23/08/2013
أبو حازم القاهري السلفي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فمعلوم ما وقع في اليومين الماضيين من قضية فض الاعتصامات، التي قامت بها قوات الأمن حيال بعض المعارضين، من المنتسبين إلى بعض التيارات والطوائف.

وهذه المسألة قد تكلمنا فيها كثيرا من قبل -والحمد لله-، وبيَّنا أن هناك فرقا بين ما يسمى بـ«الخوارج» وما يسمى بـ«البغاة».

وقد رأيت -نظرًا لتطور الأحداث- أنه ينبغي تناول المسألة بشكل أكثر تفصيلا، مع ذكر أقوال أهل العلم -من المذاهب الأربعة وغيرهم-، وما يتعلق بقضية البغاة من الأحكام المقررة في قتالهم والتعامل معهم.

وسنعتمد -إن شاء الله تعالى- على كلام للقاضي أبي الحسن الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية»، سنجعله أصلا نعتمد عليه، ونضيف إليه بعض الزيادات والتعليقات من مذاهب العلماء.

وفي البداية؛ لا بد أن نقدِّم مقدمة يتأسس عليها الكلام، وسأحاول أن أجعلها مختصرة قدر الإمكان -إن شاء الله-.

هذه المقدمة هي أن النظر في أحكام الخوارج والبغاة ونحوهم يتأسس -ابتداء- على تصور التغلُّب، ووجود الحاكم الذي تدين له البلاد بالسمع والطاعة؛ فلا بد أن يوجد الحاكم أولا، ويتحقق التغلب فيه، وعلى ذلك ينبني النظر في أحكام من عارضه، وكيفية التعامل معه؛ وأما إذا صارت الأمور فوضى، وصار الناس همجا لا إمام لهم ولا حاكم؛ فعندئذ لا تتنزل أحكام الخوارج والبغاة ونحوهم؛ لأن الخوارج هم الذين يخرجون على إمام، والبغاة هم الذين يبغون على إمام؛
فلا بد أن يكون الإمام موجودًا ابتداءً.

ومعلوم أن الإمامة تثبت -عند أهل السنة والجماعة- بطريقين رئيسيين:

الطريق الأول -وهو الطريق الشرعي-: من خلال البيعة - بيعة أهل الحل والعقد-، أو من خلال الاستخلاف.

الطريق الثاني -وهو في أصله طريق غير مشروع؛ ولكن الأحكام تترتب عليه؛ حقنا للدماء، وتحقيقا للمصالح-: وهو طريق التغلب.

والتغلب يكون بالسيف، وبأي طريقة غير مشروعة لا يقرها الإسلام؛ كمثل الطرائق المعروفة الآن -من الديمقراطية، وما يؤول إليها-، فهذه الطرائق ليست من الإسلام في شيء، والمتوصِّل بها إلى الحكم متوصِّل بطريقة غير شرعية؛ ولكن الأحكام تنبني على توصُّله هذا، ويصير إماما تثبت له حقوق، وتترتب له أحكام.

والأصل في ثبوت الإمارة بالتغلب: النص والإجماع.

فأما النص؛ فهو قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحديث في الصحيح-: «اسمعوا وأطيعوا، وإن تأمر عليكم عبدٌ كأن رأسه زبيبة»، وفي رواية: «مجدع الأطراف».

قال العلماء: لا يتولى حاكم على هذه الصورة إلا في حال القهر والاضطرار؛ لأنه في حال السعة والاختيار لا يمكن أن نأتي بعبد، ولا بشخص مجدع الأطراف، فلا يمكن أن يأتي شخص على هذه الصفة ويتولى الحكم إلا بطريق القهر والإرغام للناس، ومع ذلك يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسمع والطاعة.

وهذا الأمر هو الذي لا يفقهه الغوغاء، الذين يريدون أن تتحول حياتهم إلى بهيمية، يأكل فيها القوي الضعيف، وإذا لم يكن في الواقع زاجرٌ؛ فلن يكون زاجر قط، وسنة الهلاك واحدة، الأمم جميعًا يهلكون -مع ظهور الحق لهم-؛ كما تراه مبسوطا في قصص الأنبياء وأقوامهم، التي ذكرها الله تعالى في كتابه، فالذين يهلكون يهلكون عن بينة، ويهلكون بنفس الطريقة التي هلك بها من كان قبلهم.

لقد جرب الناس الخروج -عبر قرون طويلة، وفترات متباعدة-، فلم يروا منه إلا الشر والفساد والفوضى، ونحن لا نحتاج إلى واقع حتى نصدق كلام ربنا أو كلام رسولنا -صلى الله عليه وسلم-؛ فكيف وقد صدقه الواقع؟

فأمرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسمع والطاعة للمتغلب ليس أمرًا بالجبن ولا الخور، وليس فيه تضييع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما هو حقن للدماء، وتحقيق للمصالح، وحفظ للأمن؛ هذا هو الفقه، وإن لم يكن الفقه كذلك؛ فليُضرب به عرض الحائط.

وأما الإجماع؛ فقد أجمع علماء السنة -في كل زمان ومكان-، ودونوا هذا الأمر في كتب اعتقادهم ومنهجهم؛ أجمعوا على لزوم طاعة المتغلب؛ تحقيقا لهذا النص النبوي الرشيد، وتحقيقا للمصالح التي أشرت إليها.

ونحن كثيرًا ما نذكر في هذا الصدد قول الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في رسالته «أصول السنة»: «ومن عَلِيَهم بالسيف، حتى صار خليفة، وسُمِّي أمير المؤمنين».

فالسمع والطاعة لمن تأمر بالرضا أو بالغلبة، وإن كان توليه بالغلبة؛ فهذا طريق -في نفسه- غير مشروع؛ لأنه خروج على حاكم سابق، ولأن فيه سفكا للدماء وتضييعا للأموال؛ ولكن القاعدة الماضية في الشريعة: أن أحكام الابتداء لا تعامل معاملة أحكام الدوام، وأن الدفع أسهل من الرفع.

هذه مقدمة مختصرة لا بد أن ينجلي فيها القول أولا.

وعليه؛ فلا بد أن نتصور وقوع التغلب -ابتداء- من الحاكم الممكَّن الآن، فهذا الحاكم حاكم متغلب، تثبت له أحكامه وحقوقه بهذا الطريق، وعليه؛ ينبني النظر فيمن خالفه، أو خرج عليه، أو عارضه.

لا بد أن نتصور هذا أولا؛ حتى نحرر موطن النزاع؛ لأن الذين لا يعترفون بما حدث ابتداء،
فلا يعترفون بالحاكم الحالي، ولا يزالون يدعون الإمارة في الحاكم المعزول؛ فهؤلاء لا شأن لنا بهم؛ لأننا لم نتفق في الأصل.

وهناك مشكلة أخرى تأتي من قِبَل المنتسبين إلى المنهج - للأسف-، فيقول بعضهم: إن الوضع القائم الآن وضع فتنة، ليس فيه إمام أصلا!!

وهذا غلط كبير، ومخالفة للواقع -قبل أن يكون مخالفة للشرع-، فهذا الواقع الذي حدث: كيف لا يتصور فيه التغلب؟!

حقيقة التغلب -يا إخوان-: أن يأتي شخص، فيتولى مقاليد الحكم، بحيث تستقر له الأمور في البلاد؛ وأعني باستقرار الأمور: ما يتعلق بالناحية المؤسسية، بأن تدين له جميع المؤسسات بالسمع والطاعة، وتنفذ فيها كلمته، وينفذ أمره ونهيه؛ لاسيما إذا تكلمنا على الجيش والشرطة -فيما يعرف بالسلطة التنفيذية-.

فإذا كان كل هذا يدين للحاكم بالسمع والطاعة، ويأتمر بأمره وينتهي بنهيه، وإذا كان هذا الحاكم يصدر القرارات والمراسيم، وكما قال الإمام أحمد: «وسُمِّي أمير المؤمنين»، يعني: سُمِّي رئيسا، وخوطب بوصف الرئاسة والحكم؛ فإذا الأمر كذلك فكيف لا يتصور التغلب؟! وكيف يأتي -من بعد ذلك- من يقول: نحن في زمان شغور عن الإمام؟!

فهذا غلط صريح، وهناك مزيد من الرد على هذا الكلام - حتى لا أطيل المقام أكثر من هذا- في فتوى موجودة على الموقع -لمن أرادها-.

فلا بد أن نؤصل هذه المقدمة أولا: بعدما نتصور الحاكم، ينبني النظر في أحكام من خالفه.

ونأتي -بعد ذلك- إلى كلام الماوردي -رحمه الله-.

قال في الكلام على أحكام أهل البغي:

«وَإِذَا بَغَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَخَالَفُوا رَأْيَ الْجَمَاعَةِ، وَانْفَرَدُوا بِمَذْهَبٍ ابْتَدَعُوهُ: فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا بِهِ عَنِ الْمَظَاهرةِ بِطَاعَةِ الْإِمَامِ، وَلَا تَحَيَّزُوا بِدَارٍ اعْتَزَلُوا فِيهَا، وَكَانُوا أَفْرَادًا مُتَفَرِّقِينَ، تَنَالُهُمُ الْقُدْرَةُ، وَتَمْتَدُّ إلَيْهِمُ الْيَدُ؛ تُرِكُوا وَلَمْ يُحَارَبُوا، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْعَدْلِ فِيمَا يَجِبُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ.

وَقَدْ عَرَضَ قَوْمٌ مِنَ الْخَوَارِجِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ- لِمُخَالَفَةِ رَأْيِهِ، وَقَالَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِهِ: «لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ»، فَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ، وَلَا نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ -مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا-».

فَإِنْ تَظَاهَرُوا بِاعْتِقَادِهِمْ -وَهُمْ عَلَى اخْتِلَاطِهِمْ بِأَهْلِ الْعَدْلِ-؛ أَوْضَحَ لَهُمْ الْإِمَامُ فَسَادَ مَا اعْتَقَدُوا، وَبُطْلَانَ مَا ابْتَدَعُوا؛ لِيَرْجِعُوا عَنْهُ إلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ وَمُوَافَقَةِ الْجَمَاعَةِ، وَجَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ مِنْهُمْ مَنْ تَظَاهَرَ بِالْفَسَادِ أَدَبًا وَزَجْرًا، وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ إلَى قَتْلٍ وَلَا حَدٍّ.

رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ».

فَإِذَا اعْتَزَلَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ أَهْلَ الْعَدْلِ، وَتَحَيَّزَتْ بِدَارٍ تَمَيَّزَتْ فِيهَا عَنْ مُخَالَطَةِ الْجَمَاعَةِ: فَإِنْ
لَمْ تَمْتَنِعْ عَنْ حَقٍّ، وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ طَاعَةٍ؛ لَمْ يُحَارَبُوا -مَا أَقَامُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَتَأْدِيَةِ الْحُقُوقِ-.

قَدْ اعْتَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلِيًّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالنَّهْرَوَانِ، فَوَلَّى عَلَيْهِمْ عَامِلًا أَقَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ زَمَانًا -وَهُوَ لَهُمْ مُوَادِعٌ-، إلَى أَنْ قَتَلُوهُ، فَأَنْفَذَ إلَيْهِمْ: أَنْ سَلِّمُوا إلَيَّ قَاتِلَهُ، فَأَبَوْا وَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ، قَالَ: فَاسْتَسْلِمُوا إلَيَّ أَقْتَصُّ مِنْكُمْ، وَسَارَ إلَيْهِمْ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ.

وَإِنْ امْتَنَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْبَاغِيَةُ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ، وَمَنَعُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَتَفَرَّدُوا بِاجْتِبَاءِ الْأَمْوَالِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ: فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يُنَصِّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا، وَلَا قَدَّمُوا عَلَيْهِمْ زَعِيمًا؛ كَانَ مَا اجْتَبُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ غَصْبًا لَا تَبْرَأُ مِنْهُ ذِمَّةٌ، وَمَا نَفَّذُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ مَرْدُودًا لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ.

وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَدْ نَصَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا، اجْتَبَوْا بِقَوْلِهِ الْأَمْوَالَ، وَنَفَّذُوا بِأَمْرِهِ الْأَحْكَامَ؛
لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحْكَامِهِمْ بِالرَّدِّ، وَلَا لِمَا اجْتَبَوْهُ بِالْمُطَالَبَةِ، وَحُورِبُوا فِي الْحَالَيْنِ -عَلَى سَوَاءٍ-؛ لِيَنْزِعُوا عَنِ الْمُبَايَنَةِ، وَيَفِيئُوا إلَى الطَّاعَةِ».

خلاصة هذا الكلام: أن هناك تفصيلا عند العلماء فيمن خرج على الإمام وفارق الطاعة، ولا بد أن نعرف أولا - وسيأتي الكلام على هذا بعد قليل إن شاء الله - أن كثيرا ممن يصنف في هذا الباب، ويذكر أحكام قتال البغاة: لا يفرق بين الخوارج والبغاة، ويجعل حكم الجميع واحدًا؛ ولكن الراجح خلاف ذلك -كما سننبه عليه إن شاء الله-.

فالحاصل: أن العلماء يقولون: إذا خرجت طائفة عن الجماعة، وتميزت عنهم برأي أو مذهب؛ فإنهم لا يحارَبون -ما داموا مقيمين على طاعة الإمام، لا ينبذونها، ولا يخرجون عليها-.

والعلماء يتكلمون -بعد ذلك- في حكم التعامل معهم إن ظهر اعتقادهم هذا -طالما أنهم
لم يخرجوا عن الجماعة ولا عن الطاعة-، فالعلماء يجوزون تأديبهم وتعزيرهم -إذا أظهروا شيئا من معتقدهم الفاسد المخالف للحق-، وقد تكلمنا على هذه المسألة في «معاملة الحكام»، وذكرنا الكثير من أقوال أهل العلم التي تبين مشروعية ذلك.

وهناك الكثير من الآثار عن سلفنا -كما هو مدوَّن في كتب الاعتقاد-: أنهم جوَّزوا تعامل الأئمة مع رءوس أهل البدع -وإن كان بالقتل، وإن لم يفارقوا الجماعة ويخرجوا عن الطاعة-؛ كما فعل الأئمة مع الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وغيلان القدري، وغيرهم؛ فعلماء أهل السنة حمدوا هذا الصنيع، فليس هناك من بأس في ذلك.

وفقه هذا -عند العلماء-: أنه من باب دفع الصائل، وكفِّ شره عن المسلمين؛ لأنه إذا جاز كفُّ الصائل عن الأعراض والأموال؛ فكفُّه عن الأديان أولى، فالذي يتسلط على معتقدات الناس، فيشوِّشها ويبطلها؛ فإن الأئمة يجوِّزون أن يتعامل معه الحاكم -وإن كان ذلك بالقتل-.

نأتي -بعد ذلك- إلى الحالة الثانية، وهي: حالة مباينة الجماعة، إذا انفردت الطائفة عن الجماعة، ونزعت اليد من الطاعة، وخرجت على الإمام؛ فالعلماء -عندئذ- يجوِّزون محاربتهم -سواء نصبوا لأنفسهم إماما أم لا-.

ما الأصل في ذلك؟ نعود إلى كلام الماوردي.

قال: «قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9] .

وَفِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى﴾ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: بَغَتْ بِالتَّعَدِّي فِي الْقِتَالِ.

وَالثَّانِي: بَغَتْ بِالْعُدُولِ عَنِ الصُّلْحِ.

وَقَوْلُهُ: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ يَعْنِي: بِالسَّيْف؛ رَدْعًا عَنِ الْبَغْيِ، وَزَجْرًا عَنِ الْمُخَالَفَةِ.

وَفِي قَوْله تَعَالَى: ﴿حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الصُّلْحِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ؛ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

وَالثَّانِي: إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ؛ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.

﴿فَإِنْ فَاءَتْ﴾ أَيْ: رَجَعَتْ عَنِ الْبَغْيِ، ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾ فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: بِالْحَقِّ.

وَالثَّانِي: بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى».

فهذا هو الأصل في مشروعية قتال البغاة.

وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه-: أن هذه الآية نزلت في قصة، مَرَّ فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- على ابن أبيٍّ ابن سلول - لعنه الله-، والنبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار له، فقال ابن أبيٍّ: «إليك عني، فقد آذاني نتن حمارك!»، فغضب رجل من الصحابة، وقال: «لحمارُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطيب منك!»، فغضب لابن أبيٍّ رجلٌ من أصحابه، وغضب لكل من الرجلين أصحابُه، حتى ثار القتال، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ...﴾ الآية.

قوله تعالى: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ قال غير واحد من السلف: بالرجوع إلى حكم الله وشرعه.

فهذا هو الأمر الأول، فمع حصول الاقتتال لم يأذن الله -تبارك وتعالى- بالاقتتال، وإنما أمر أولا بالإصلاح.

والإصلاح يكون -كما قال السلف- بالرجوع إلى الشرع، لا بالرجوع إلى السياسة، ولا الأهواء، ولا المصالح.

شرع الله -تعالى- ملزم لكل أحد، يجب على الجميع أن يتمسك به، فلو قُدِّر أن هناك مصالحة عُقدت مع الإخوان وأشياعهم؛ فلا بد أن يكون أساسها لزوم طاعة الإمام، لا يجوز أن يكون الأساس -كما يدَّعون هم- أن يعود مرسي إلى منصبه؛ لأن هذا -في الأصل- مخالف للشرع؛ لأن عندنا إماما متغلبا متمكنا، لا بد من لزوم طاعته، وعدم الخروج عليه، ففي هذا الإطار تنتظم الأشياء، وأما بخلاف ذلك؛ فهذا مخالف لشرع الله -تبارك وتعالى-، لا يثبت به صلح، ولا يحدث شيء من الإلزام.

يقول تعالى: ﴿ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى ﴾ كيف يتحقق هذا البغي؟ قال الماوردي: فيها وجهان:

أحدهما: «بغت بالتعدي في القتال»، أي: بعد السعي في الصلح، تأتي الطائفة الباغية فتتعدى في القتال، وتسل السيف.

الوجه الثاني: «بغت بالعدول عن الصلح»، وهكذا قال العلماء -كما سنعرف كلامهم بعد قليل-، فمجرد العدول عن الصلح يكفي لاستباحة قتال البغاة.

﴿ فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي ﴾ قال الماوردي: «يعني: بالسيف؛ ردعا عن البغي، وزجرا عن المخالفة».

﴿ حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ قال: فيه وجهان:

أحدهما: «حتى ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به» الموافق لدين الله -عز وجل-.

والثاني -وهو ملازم للأول-: « إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام - فيما لهم وعليهم ».

﴿ فَإِن فَاءَتْ ﴾ أي: رجعت عن البغي، وقال الشافعي -رحمه الله- في «الأم»: « أي حال ترك بها القتال؛ فقد فاء».

﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ﴾ فيه وجهان:

«أحدهما: بالحق. والثاني: بكتاب الله تعالى»، وهما متلازمان.

فالذي نستنتجه من الآية: مشروعية قتال البغاة -بعد السعي في الصلح أولا-، ولهذا قلنا كثيرًا من قبل: إنه لا يجوز البدار بمقاتلة المتظاهرين؛ لأن المتظاهرين -على التفصيل الذي سأذكره الآن- لا يعدون كونهم خوارج أو بغاة، فلْنتعامل معهم على وجه الاحتياط في الدماء، ولْنجعلهم جميعا بغاة، فلا بد من الإصلاح أولا، حتى إذا حصل الإياس، ووقع البغي -على الصورة التي ذكرناها في كلام العلماء-؛ فعندئذ يأتي القتال.

والعلماء لهم اختلاف في قضية قتال البغاة، بالنظر إلى وقت الشروع في القتال، وقضية الاستتابة، ونحو ذلك:

فمالك -رحمه الله- يرى قتالهم بعد الاستتابة أولا -سواء كانوا خوارج أم بغاة-.

والشافعي وأحمد -رحمهما الله- لا يريان قتالهم إلا إذا صالوا على المسلمين -سواء كانوا خوارج أم بغاة-.

وقال الحنفية: يجوز بدؤهم بالقتال، وحملوا الاستتابة على الاستحباب، وقالوا أيضًا: إذا علم الحاكم بأمرهم؛ جاز له البدار بحبسهم؛ كفًّا لشرهم عن المسلمين.

والراجح في هذا الاختلاف: التفصيل بين الخوارج والبغاة.

فالخوارج: هم الذين يكفرون المسلمين، ويستحلون الدماء، تحت مسمى «الجهاد»، أو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، أو غير ذلك.

وأما البغاة؛ فهم الذين يخرجون لتأويل يسوغ مثله، كأن يخرجوا دفعا للظلم، أو يكون عندهم بعض الاعتراض -من الناحية السياسية-، طالما أنهم لا يكفرون المسلمين، ولا يستحلون الدماء، ولا يحدثون الفساد في الأرض.

فأما الخوارج؛ فالصحيح -الذي رجحه غير واحد من محققي العلماء-: أنه يجوز قتالهم ابتداء؛ لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك في الأحاديث المتواترة، التي تعرفونها -إن شاء الله تعالى-؛ وأما الاستتابة التي قام بها عليٌّ -رضي الله عنه- مع الذين خرجوا عليه؛ فهي محمولة -كما قال الحنفية- على الاستحباب؛ جمعا بين فعل عليٍّ رضي الله عنه -الذي هو من سنة الخلفاء-، وبين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن شاء الإمام أن يستتيبهم؛ فله ذلك، ويستحب له؛ ولكن يجوز له أن يبدأ بقتالهم.

وأما البغاة؛ فلا يجوز له البدء بقتالهم أبدا؛ بل لا بد من الإصلاح، فالبغاة هم الذين تتنزل عليهم الآية التي ذكرناها آنفا.

وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة -إن شاء الله-.

وقد أوضحنا من قبل أن المتظاهرين الآن قد جمعوا بين الصنفين، ففيهم خوارج وفيهم بغاة: فيهم الذين يكفِّرون، ويستحلون الدماء، ويدعون إلى الجهاد؛ وفيهم المخدوعون من الشباب والعوام والنساء ونحو ذلك، الذين يخرجون -بزعمهم- نصرة للإسلام، ورفضا للظلم، ورفضا لعودة النظام القديم؛ فهؤلاء على سمت البغاة، لا على سمت الخوارج.

ومراعاةً للاحتياط للدماء، ونظرا للاختلاط الشديد بين الفريقين: نتعامل مع الجميع -ظاهرا- بمعاملة البغاة، ونعطي الأقل حكم الأكثر.

وعليه؛ فلا بد من الإصلاح أولا، فإن حصل نزوع عن الإصلاح، وحصل إعراض وإصرار وعناد؛ فعندئذ نلجأ إلى القتال، الذي له ضوابطه وأحكامه، وديننا -والحمد لله- ينظم كل شيء، فليس فيه فوضى ولا همجية.

وعلى كل حال؛ فالعلماء مجمعون على قتال البغاة -من حيث الإجمال-، وأنه من القتال المشروع، فليس من سفك الدم المحرم، ولا من التعدي على حرمة الدماء وحرمة المسلمين؛ لأن الله أمر به في كتابه؛ فهل يأمر الله -عز وجل- بالظلم أو الجور أو التعدي على الناس؟!

قال ابن عبد البر -رحمه الله- في «التمهيد»: «أجمع العلماء على أن من شق العصا، وفارق الجماعة، وشهر على المسلمين السلاح، وأخاف السبيل، وأفسد بالقتل والسلب؛ فقتله وإراقة دمائه واجب؛ لأن هذا من الفساد العظيم في الأرض، والفساد في الأرض موجِبٌ لإراقة الدماء -بإجماع-؛ إلا أن يتوب فاعل ذلك من قبل أن يُقدَر عليه» اهـ.

وقال النووي -رحمه الله- في «روضة الطالبين»: «قال العلماء: ويجب قتال البغاة، ولا يكفرون بالبغي، وإذا رجع الباغي إلى الطاعة؛ قُبلت توبته، وتُرك قتاله؛ وأجمعت الصحابة -رضي الله عنهم- على قتال البغاة» اهـ.

فهذا هو تأصيل المسألة -ابتداء-، وهذا هو حكم قتال البغاة، مع التفصيل بينهم وبين الخوارج.

ونأتي الآن إلى الكلام على كيفية قتال البغاة.

قال الماوردي:

« فَإِذَا قَلَّدَ الْإِمَامُ أَمِيرًا عَلَى قِتَالِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنَ الْبُغَاةِ؛ قَدَّمَ قَبْلَ الْقِتَالِ إنْذَارَهُمْ وَإِعْذَارَهُمْ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ -إذَا أَصَرُّوا عَلَى الْبَغْيِ- كِفَاحًا، وَلَا يَهْجُمُ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا».

هذا كلام الماوردي، وفيه:

أولا: يكون قبل القتال: الإعذار والإنذار.

ثانيا: تكون المقاتلة كفاحا؛ أي: وجها لوجه، وسيأتي -بعد قليل- أنه لا يجوز اتباع المدبر.

ثالثا: لا يهجم عليهم غرة وبياتا؛ أي: لا يفاجئهم بالهجوم، ولا يبيِّتهم.

هكذا قال الماوردي -رحمه الله-، وزاد بعض علماء الشافعية تفصيلا في هذه المسألة، وهو تفصيل مهم، ينبغي لنا أن نعرفه أيضا.

قال الجويني في «نهاية المطلب»: «فقد يظن من لا يطلب حقائق الأشياء أنا نصطفُّ في مقابلتهم، فإذا قصدونا؛ ندفعهم!

وقد رأيتُ هذا لطائفة من المعتبرين، وهذا زلل منهم، لم أذكره لبُعْدِه من المذهب، وذلك أنا وإن أطلقنا أن قتالهم دفعٌ، فالمراد دفعهم عن العصيان، والاستعدادُ له؛ فإذا رأيناهم مُعدِّين؛ سرنا إليهم وزحفنا إليهم، ومن ضرورة هذا مفاجأتهم.

ومما يتصل به: أنا لو اصطففنا حتى يلْقَوْناْ؛ فقد يُفضي هذا إلى أن يتغشَّوْنا، وقد ذكرنا أن القتال ليس على صورة قتال رجل ودفعه، وربما يكون تارك البداية معرِّضاً نفسه للهلاك، وإليه أشار عليّ
-رضي الله عنه- إذ قال: «حدِّدوا سيوفكم، وقاربوا بين الخطى، ولاحظوا شذراً، وعليكم بالرواق والمقيت».

والذي يجب مراعاته: أنه إن أمكن الأسر؛ فلا قتل، وإن أمكن الاقتصار على الإثخان؛ فلا تذفيف [والتذفيف هو الإجهاز على الشخص].

وهذا الفن من التدريج تجب مراعاته، وإذا التحمت الفئتان؛ فلا ضبط، وهذا المعنى يتحقق في تساوي الصائل والمصول عليه؛ فما الظن بالتحام فئتين عظيمتين؟

وخرج مما ذكرناه: أن المنهزم ينقسم إلى من يُتبع، وإلى من لا يُتبع، وهم مستوون في أنهم
لا يُقصَدون بالأسلحة، وترتيبُ القتال على ما بيّناه
» اهـ.

وزاد النووي في «الروضة»: «لا يُغتالون، ولا يُبدءون بالقتال حتى يُنذَروا، فيبعث الإمام إليهم أمينا فطنا ناصحا، فإذا جاءهم؛ سألهم: ما ينقمون؟ فإن ذكروا مظلمة، وعللوا مخالفتهم بها؛ أزالها، وإن ذكروا شبهة؛ كشفها لهم [هذا في طور المناصحة الذي ذكرناه أولا].

وإن لم يذكروا شيئا، أو أصروا -بعد إزالة العلة-؛ نصحهم ووعظهم، وأمرهم بالعود إلى الطاعة.

فإن أصروا؛ دعاهم إلى المناظرة، فإن لم يجيبوا، أو أجابوا فغُلبوا، وأصروا مكابرين؛ آذنهم بالقتال.

فإن استنظروا؛ بحث الإمام عن حالهم واجتهد، فإن ظهر له أنهم عازمون على الطاعة، وأنهم يستنظرون لكشف الشبهة، أو التأمل والمشاورة؛ أنظرهم، وإن ظهر له أنهم يقصدون الاجتماع، أو يستلحقون مددا لهم؛ لم ينظرهم، وإن سألوا ترك القتال أبدا؛ لم يجبهم» اهـ.

وبنحوه قال ابن قدامة -رحمه الله- في «المغني».

إذن؛ فقضية البدء بالقتال قضية مضبوطة -بعد تجاوز طور المناصحة والإصلاح-.

فأما مسألة المفاجأة؛ ففيها الكلام الذي عرفته من العلماء: فالماوردي يقول: لا تجوز المفاجأة، والجويني يقول: تجوز.

والجواز يتأيد -إن كان الباعث عليه المبالغة في حقن الدماء-؛ فلا شك أن الحرب إذا كانت منصوبة كفاحا بين الطرفين؛ فإن القتال يكون أعظم، والقتل يكون أكبر، وأما إذا وقع شيء من المفاجأة -لغير قصد القتل-؛ فهذا فيه تقليل للخسائر -ما أمكن-.

فيجوز المفاجأة -بغير قصد القتل والإبادة-، وإنما تكون لتقليل الخسائر -ما أمكن-، وإحداث الأسر بين صفوف البغاة، وتحجيم القتل، وتقليل صورته.

نأتي -بعد ذلك- إلى الأحكام التي تكون في نفس القتال.

قال الماوردي:

«وَيُخَالِفُ قِتَالُهُمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَ بِالْقِتَالِ رَدْعَهُمْ، وَلَا يَعْتَمِدُ بِهِ قَتْلَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ والمرتدين».

وعلى هذا كافة أهل العلم؛ لأن قتال البغاة إنما هو من باب دفع الصائل، وكفِّ الشر والفساد، والأصل أن قتالهم لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، فيحتاط فيه -ما أمكن-.

وكما رأينا في كلام الجويني: إذا أمكن الأسر؛ فلا قتل، وإذا أمكن الإثخان -يعني: إحداث الجراحة-؛ فلا قتل، وإذا التحمت الفئتان؛ صعب الضبط، فكيف نضبط أمرا تلتحم فيه فئتان عظيمتان، ويحدث فيه القتل العظيم؟ وأما ما كان في الأمر من سعة في الابتداء؛ فإننا نحكمه ونضبطه -ما استطعنا إلى ذلك سبيلا-.

وعليه؛ فلا يجوز -في مقاتلة البغاة- البدار بالقتل ولا تعمده، وإنما يُتعامل معهم بالأسهل فالأسهل، ولا يُلجأ إلى القتل إلا في أضيق الحدود؛ كمثل الدفاع عن النفس، أو عدم اندفاع البغاة بغير القتل، أو نَصْبِهم السلاح على قوات الأمن، وابتدائهم بالقتل.

وقال العلماء أيضا -كالحنفية والمالكية-: كل من لم يجز قتله من الكفار؛ لم يجز قتله من البغاة
-كالنساء والصبيان-؛ إلا إذا قاتلوا.

قال الماوردي:

«وَالثَّانِي: أَنْ يُقَاتِلَهُمْ مُقْبِلِينَ، وَيَكُفَّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ، وَيَجُوزُ قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ فِي الْحَرْبِ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَإِنْ جَازَ الْإِجْهَازُ عَلَى جَرْحَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ.

أَمَرَ عَلِيٌّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ يَوْمَ الْجَمَلِ: أَلَا لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ».

وهكذا قال المالكية والحنابلة، فهذا قول جمهور أهل العلم -بالنسبة لقضية اتباع المدبر-.

وقال الحنفية - وهذا تفصيل حسن-: إن انهزم إلى فئة؛ أُتبع، وإلا فلا؛ يعني: إذا فَرَّ البغاة، وعُلم من حالهم أنهم لا يفرون عن القتال، وإنما يفرون إلى تجمع آخر واستعداد آخر؛ فعندئذ يجوز اتباعهم؛ ولكن لا يتبعون بالقتل -كما يتبع المشركون-، بل بالإثخان والحبس.

وقال بعض المالكية: إن لم يؤمن رجوعه؛ قُتل! وهذا فيه نظر، وإنما الصواب -إن شاء الله- ما ذهب إليه جمهور العلماء.

قال الماوردي:

«وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَقْتُلَ أَسْرَاهُمْ، وَإِنْ قَتَلَ أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ.

وَيَعْتَبِرَ أَحْوَالَ مَنْ فِي الْأَسْرِ مِنْهُمْ: فَمَنْ أُمِنَتْ رَجْعَتُهُ إلَى الْقِتَالِ؛ أُطْلِقَ، وَمَنْ لَمْ تُؤْمَنْ مِنْهُ الرَّجْعَةُ؛ حُبِسَ إلَى انْجِلَاءِ الْحَرْبِ، ثُمَّ يُطْلَقُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْبَسَ بَعْدَهَا».

وكذا قال الحنابلة أيضا.

وجوَّز الحنفية قتل أسيرهم؛ استئصالا لشأفتهم! وهذا كلام غير صحيح، وإنما الصحيح -إن شاء الله تعالى- مذهب الجمهور؛ لأن أصل المسألة -كما عرفنا- أننا نتعامل مع مسلمين، لا مع كفار، وقتال البغاة إنما يُقصد به دفع الصائل، وكفُّ الشر والفساد عن المسلمين، لا يُقصد به القتل والإبادة؛ فإذا اعتبرنا بهذا الأصل، واستحضرناه جيدا؛ فإنه يسهل تفريعنا بعد ذلك.

فالأسرى -كما قال الجمهور- لا يُقتلون؛ بل يُتحفظ عليهم، فإن عُلم من حالهم أنهم إن أُطلقوا لم يرجعوا إلى الحرب؛ فإنهم يُطلَقون, وإن لم يؤمن منهم ذلك؛ فإننا نحبسهم حتى تنتهي الحرب وتستقر الأوضاع، ثم يُطلَقون، فلا يجوز استبقاؤهم في السجون حتى بعد انتهاء الحرب.

قال الماوردي:

«وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا يَسْبِيَ ذَرَارِيَّهُمْ.

رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا، وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا».

ولم أقف على الحديث المذكور في كتب التخريج، ولم يسعفني الوقت لأبحث فيه تفصيلا.

وهذا الفصل -الذي هو عدم الغنيمة، وعدم السبي- مجمَع عليه بين العلماء، فهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة، وقال ابن قدامة -رحمه الله-: «لا نعلم فيه خلافا».

قال الماوردي:

« وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يُسْتَعَانَ لِقِتَالِهِمْ بِمُشْرِكٍ مُعَاهَدٍ وَلَا ذِمِّيٍّ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالرِّدَّةِ».

وهذا تفصيل العلماء المعروف في مسألة الاستعانة بالمشركين، والمقام يضيق عن هذا الآن، فجمهور العلماء وعامتهم على أنه لا تجوز الاستعانة بالمشركين على المسلمين، وإن كان هؤلاء المسلمون خوارج أو بغاة أو لصوصا؛ ولكن يجوز -عند الجمهور- الاستعانة بالمشركين على المشركين.

قال الماوردي:

«وَالسَّابِعُ: أَنْ لَا يُهَادِنَهُمْ إلَى مُدَّةٍ، وَلَا يُوَادِعَهُمْ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ هَادَنَهُمْ إلَى مُدَّةٍ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإِنْ ضَعُفَ عَنْ قِتَالِهِمْ؛ انْتَظَرَ بِهِمُ الْقُوَّةَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ وَادَعَهُمْ عَلَى مَالٍ؛ بَطَلَتِ الْمُوَادَعَةُ، وَنُظِرَ فِي الْمَالِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ فَيْئِهِمْ أَوْ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ؛ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَصَرَفَ الصَّدَقَاتِ فِي أَهْلِهَا، وَالْفَيْءَ فِي مُسْتَحَقِّيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِهِمْ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ عَلَيْهِمْ، وَوَجَبَ رَدُّهُ إلَيْهِمْ».

وهذا قول الحنابلة.

ووافق الحنفية على شأن المال دون أصل المهادنة، فأجازوها، وكذا قال المالكية.

إذن؛ فهناك اختلاف بين العلماء في مسألة المهادنة: هل يجوز عقد الهدنة بين الإمام وبين البغاة أم لا؟

والراجح -إن شاء الله تعالى- أن هذا بحسب المصلحة، وكما تقدم معنا في كلام النووي: أنه ينبغي النظر في ذلك إلى الحاجة: فإن غلب على الظن أن الهدنة إنما يُتوصَّل بها إلى التقوِّي على حرب أخرى؛ فإن الأمر عندئذ لا يجوز، ولا بد من المواصلة في القتال -بالضوابط التي عرفنا-.

قال الماوردي:

« الثَّامِنُ: أَلَّا يَنْصِبَ عَلَيْهِمْ الرَّعَّادَاتِ [أي: المجانيق]، وَلَا يُحْرِقُ عَلَيْهِمْ الْمَسَاكِنَ، وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْهِمْ النَّخِيلَ وَالْأَشْجَارَ؛ لِأَنَّهَا دَارُ إسْلَامٍ تَمْنَعُ مَا فِيهَا -وَإِنْ بَغَى أَهْلُهَا-، فَإِنْ أَحَاطُوا بِأَهْلِ الْعَدْلِ وَخَافُوا مِنْهُمُ الِاصْطِلَامَ؛ جَازَ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا اسْتَطَاعُوا مِنِ اعْتِمَادِ قَتْلِهِمْ وَنَصْبِ الرَّعَّادَاتِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أُرِيدَتْ نَفْسُهُ؛ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْهَا بِقَتْلِ مَنْ أَرَادَهَا -إذَا كَانَ لَا يَنْدَفِعُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ-».

وهذا قول الحنابلة أيضا.

وأجاز الحنفية والمالكية قتالهم بكل ما يقاتَل به الكفار -من غير تفصيل-! وهذا قول مرجوح ضعيف؛ بل الصحيح قول الشافعية والحنابلة: أنه لا يجوز قتالهم بما يَعُمُّ أثره، وهو ما نسميه الآن: «السلاح الثقيل»؛ مثل: المدافع والدبابات والطيران؛ لما عرفنا من أن المقصود من قتالهم إنما هو الدفع، لا الإبادة.

لكن الحالة التي رخص فيها الشافعية والحنابلة -وهي موضع إجماع- هي خشية الاصطلام؛ أي: اجتماع البغاة على أهل العدل، وعدم اندفاعهم بغير هذا النوع من الأسلحة؛ فعندئذ يجوز.

قال الماوردي:

« وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِدَوَابِّهِمْ وَلَا سِلَاحِهِمْ، وَلَا يُسْتَعَانَ بِهِ فِي قِتَالِهِمْ، وَيَرْفَعُ الْيَدَ عَنْهُ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ وَبَعْدَهُ [زاد الجويني: «ولا يردها حتى ينتهي القتال»]، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى قِتَالِهِمْ بِدَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ -مَا كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً-».

قال الحنفية والمالكية: بحيث إذا استغنوا عنها؛ أمسكها الإمام لهم، وردَّها عليهم.

وأما الحنابلة؛ فلهم اختلاف في ذلك -فيما بينهم-، مع قولهم بالرد بعد الحرب.

فهذا اختلاف للعلماء في حكم استعمال أسلحتهم وأمتعتهم؛ فإذا وجدنا سلاحا للمعتصمين أو متاعا؛ هل يجوز لنا استعماله أم لا؟

الجمهور يقولون: لا يجوز، وعلى الإمام أن يمسكه ولا يتصرف فيه، فإذا انتهت الحرب؛ ردَّه إليهم.

ولا شك أنه إن بقي منه شيء بحاله؛ فإنه يرد إليهم -بعد انتهاء القتال-؛ ولكن هل يستعان به عليهم في أثناء القتال أم لا؟

الأقرب -إن شاء الله تعالى- أن الإمام إذا احتاج إلى ذلك؛ فلا بأس، فلو قُيِّد ذلك بالحاجة؛ لكان حسنا قريبا، وأما إن كان لا يحتاج إليه؛ فالأصل أنه يبقيه -كما هو-؛ لأنه لا يجوز استعمال ملكية المسلم -بشكل عام-؛ ولهذا قال الماوردي في الاحتجاج لهذا القول: «وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ».

قال الماوردي:

«فَإِذَا انْجَلَتْ الْحَرْبُ، وَمَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ لَهُمْ أَمْوَالٌ؛ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَمَا تَلِفَ مِنْهَا فِي غَيْرِ قِتَالٍ؛ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مُتْلِفِهِ، وَمَا أَتْلَفُوهُ فِي نَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ؛ فَهُوَ هَدَرٌ، وَمَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فِي غَيْرِ نَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ؛ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ».

هذه الجزئية قال فيها غير واحد من العلماء: لا خلاف فيها، فضمان المتلَفات يفصَّل فيه أولا بين حالتين:

الحالة الأولى: ما كان قبل القتال؛ فما أُتلف حينئذ فهو مضمون على من أتلفه، سواء كان من أهل العدل أم من أهل البغي.

الحالة الثانية: ما كان في القتال، فالذي يتلفه أهل العدل ليس بمضمون -قولا واحدًا-.

وإنما الذي وقع فيه الاختلاف هو: ما يتلفه أهل البغي على أهل العدل.

قال الماوردي:

« وَمَا أَتْلَفُوهُ فِي نَائِرَةِ الْحَرْبِ؛ فَفِي وُجُوب ضَمَانِهِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: يَكُونُ هَدَرًا لَا يُضْمَنُ.

وَالثَّانِي: يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُبْطِلُ حَقًّا وَلَا تُسْقِطُ غُرْمًا، فَتُضْمَنُ النُّفُوسُ بِالْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَإِ».

والقول الأول هو قول جمهور العلماء، وهو منصوص الشافعي نفسه -رحمه الله- في كتاب «الأم»، واختاره غير واحد من أئمة الشافعية.

والحجة في ذلك: قول الزهري -رحمه الله تعالى-: «هاجت الفتنة بين أصحاب رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أُصيب بتأويل القرآن؛ فهو هَدَر؛ إلا مالا يوجد بعينه، فيُردُّ على صاحبه
».

يعني: أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- في الفتن التي وقعت بينهم على أنه لا يُضمن دم ولا مال؛ لأن المقام مقام تأويل، والتأويل عذر، ولم يضمِّن الصحابة أحدًا -لا من هؤلاء ولا من أولئك-؛ إلا إذا كان هناك شيء من المال أو المتاع يوجد بعينه -كما هو-، ويُعرف صاحبه؛ فإنه يرد على صاحبه -كما هو-.

قال الماوردي:

«وَيُغَسَّلُ قَتْلَى أَهْلِ الْبَغْيِ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ».

وهذا قول الحنابلة.

«وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ؛ عُقُوبَةً لَهُمْ».

وهذا قول المالكية، وخص أحد أئمتهم -وهو سُحْنُون بن سعيد رحمه الله- المنع بالإمام؛ وهذا وجيه، ومُتَمَشٍّ مع مذهب السلف؛ لأن مذهب السلف -كما هو معلوم- أنه لا يصلي الإمام ومن يُقتدَى به على أهل البدع، وأصحاب المعاصي الظاهرة؛ فالذين يُقتَلون من أهل البغي لا يصلي عليهم الإمام؛ ولكن يصلي عليهم عامة المسلمين، وتجرى عليهم أحكام المسلمين -كما هي- من غير اختلاف.

قال الماوردي:

«وَأَمَّا قَتْلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فِي مَعْرَكَةِ الْحَرْبِ -فِي غُسْلِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ-؛ فَقَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا -كَالشُّهَدَاءِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ-».

وهذا قول الحنفية والمالكية، فهو قول الجمهور!

وفي هذا أبلغ ردٍّ على الذين يقولون إن القتلى من أهل البغي هم الشهداء، والعلماء يختلفون في الصلاة عليهم أصلا! العلماء الذين هم فقهاء الشريعة، لا فقهاء الدولة! وهذا كلام علماء الشريعة من كتبهم، لا من مكاتب أمن الدولة!

وأما الذين يُقتلون من أهل العدل؛ فجمهور العلماء على أنهم يعاملون معاملة الشهداء! وإن كان هذا قولا ضعيفا؛ ولكن انظر كيف قال جمهور العلماء: إنهم يعاملون معاملة الشهداء!

قال الماوردي:

«وَالثَّانِي: يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ -وَإِنْ قُتِلُوا بَغْيًا-، وَقَدْ صَلَّى الْمُسْلِمُونَ عَلَى عُمَرَ وَعُثْمَانَ
-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وَصُلِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَإِنْ قُتِلُوا ظُلْمًا وَبَغْيًا
».

وهذا قول الأوزاعي، وابن المنذر -رحمة الله تعالى عليهما-، وهو الصحيح؛ لأننا وإن أعطيناهم الشهادة الحكمية؛ فمعلوم أن الشهيد الحكمي لا يعامل معاملة الشهداء الذين يقتلون في قتال المشركين، وإنما هذا قتال بين مسلمين، فلا ينبغي أن يعامَل القتلى فيه معاملة القتلى في قتال المشركين؛ فالصحيح -إن شاء الله تعالى- أنهم يغسَّلون، ويصلَّى عليهم، وتجرى عليهم كافة الأحكام، حتى وإن حصلوا على لقب الشهادة الحكمي.

بهذا القدر نكتفي -إن شاء الله تعالى-، وهناك زيادة ذكرها الماوردي في قضية التوريث، وأخذ الزكاة، والعشر، وإقامة الحدود؛ وهذا لا حاجة بنا إليه الآن.

والخلاصة: أن قتال أهل البغي مشروع -باتفاق العلماء-، وله ضوابطه التي تحكمه وتقيِّده وتصيِّره على الجادة الشرعية المطلوبة.

وعليه؛ فلا مجال هنا للتورع البارد، عند الذين لا يزالون يفتون بحرمة الدماء.

وأنا أسأل سؤالا واحدا: من هم أهل البغي؟! ومتى نعمل بما قرره كافة العلماء من قتال أهل البغي؟!

وأسأل الذين يفتون بهذا في الجهات الرسمية -كالأزهر وغيره-: ما اعتقادكم في الحاكم القائم الآن؟! أهو حاكم أم لا؟! وهؤلاء الذين يخرجون عليه: أهم خوارج عن الشرعية أم لا؟! وهل يسوغ عند عاقل -فضلا عن عالم- أن تبقى الأمور على ما هي عليه هكذا؟!

وكلامنا واضح -والحمد لله تعالى-، كلامنا يُختصَر في عبارة واحدة فقط -وهو كلام أهل العلم كما عرفت-:

نحن مع فضِّ الاعتصام بطريقة «احترافية»، يُلجأ فيها إلى القتل بأضيق الحدود، وفي أُطُر محدودة مقيدة.

فقولنا -وقول أهل السنة دائما- وسط بين طرفين:

طرف من يقول: يبقى الأمر على ما هو عليه، وتستمر الفوضى، ونسلك سياسة «الطَّبْطَبَة»؛ حتى تضيع البلاد، وتنتشر الفوضى، ويدخل اليهود في سيناء!!

وطرف من يقول بالإبادة التامة، والتعامل الغاشم مع المعتصمين، واللجوء إلى القتل -كخيار أول وابتدائي-!!

فنحن -والحمد لله- لسنا مع هؤلاء، ولا مع أولئك، ولا نتكلم إلا بعد الرجوع إلى كتب أهل العلم؛ وأما هؤلاء الذين يفتون بأهوائهم وعقولهم واستحساناتهم؛ فلا يجيء من ورائهم إلا الشر والفساد.

ويأتي قائل فيقول: كلامك هذا يبيح للجيش أن يفعل ما يريد.

فأقول: لو اعتبرنا بمثل هذه الأشياء؛ لضاعت الفتاوى، وتعطل الدين، وتعطلت مصالح الخلق؛ لأنه ما من فتوى -في أي مسألة من المسائل- إلا ويمكن أن يستغلها صاحب هوى على ما يوافق هواه.

فمثلا: عندما نقول -كما قال ربنا سبحانه وتعالى-: يجوز الفطر في السفر؛ أليس من الممكن أن يستغل بعض أهل الأهواء هذه الفتوى؛ حتى يترخصوا في أمر لم يُبِحْه الله؟

واعتبر بهذا في جميع المسائل: فلو أننا اعتبرنا بأهواء الناس، وأنهم سيفهمون كذا، وسيؤدي الأمر إلى كذا؛ لضاع الدين، وتعطلت الفتاوى.

فإذا كانت الفتوى محققة ومنضبطة؛ فليس على المفتي -من بعد ذلك شيء-، والمستفتي أو المسلم العادي إذا فرط في الضوابط، أو خالف دين الله -سبحانه وتعالى-؛ فهو مسئول على ذلك ومحاسب عليه، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ذلك.

وعليه؛ فنحن نقول -بمنتهى الوضوح والصراحة-: ما فعلته قوات الأمن جائز -إجمالا-، فيجوز -عموما- المبادرة بفض الاعتصامات، والقضاء على هذه الفوضى، التي لا يسمح بها عاقل -فضلا عن عالم-؛ ولكن لا بد في عملهم أن يكونوا منضبطين بالضوابط الشرعية التي شرحناها.

وليس لنا إلا الظاهر، وليس لنا أن نتخوَّض في أمور لم يكلفنا الله تعالى بها، ولا بد أن نعتبر أن هؤلاء ولاة أمر، لهم علينا حقوق ولاة الأمر من إحسان الظن بهم -وإن ر غمت أنوف-، فإحسان الظن بولاة الأمر دين وشرع، نقول به -والحمد لله تعالى-، ونواجه به أي أحد، ولا نخاف في ربنا لومة لائم.

فالقوم يقولون -في الظاهر-: نحن أعطينا إنذارا، وأعطينا توجيها، وأخرجنا النساء، وفعلنا كذا وكذا.

إذن؛ فأمركم إلى الله، إن كان الأمر كما تقولون -ونحن نحسن الظن بكم-؛ فقد أصبتم وأحسنتم، وإن كان الأمر على خلاف ما تقولون -ونحن لا نتهمكم، ولا نهيج الناس عليكم، ولا نثبط اليد عن طاعتكم-؛ فأمركم إلى الله.

ولسنا مكلفين بتحقيق فتوانا هذه على أرض الواقع، والنظرُ في الأمور الأمنية ليس من اختصاصاتنا، فليس نحن الذين نتواجد في الشوارع والطرقات وننظر: هل يجوز الآن أن يقع القتل أم لا؟! هل يجوز الآن أن يضرب بالذخيرة الحية أم لا؟! هل يجوز أن يُستعمل كذا أم لا؟!

ليس نحن الذين ننظر في هذا الأمر، وإنما القوم هم الذين ينظرون فيه، فإن أدوا ما عليهم -وفق شرع الله تبارك وتعالى-؛ فقد أصابوا، وإن فرطوا واتبعوا أهواءهم ولم يراعوا الضوابط؛ فأمرهم إلى الله، ولسنا نخرج عليهم، ولا نثبط اليد عن طاعتهم.

هذه هي الفتوى المنضبطة المقيَّدة، التي تحقق المصالح وتدرأ المفاسد.

ودعك من أهل الجهالات والوساوس والتلبيسات، الذين لا يزالون يعيشون في أوهام الفتن المزعومة، وأوهام شغور الزمان عن الإمام!!

وعلاج هؤلاء لا يتأتَّى إلا بالدِّرَّة! والذي لا يرتاب فيه عاقل -فضلا عن عالم-: أن هذه الفوضى التي نعيشها الآن لا حل لها إلا القوة، وأما إذا تُركت الأمور هكذا؛ فقد رأيتم بأنفسكم وسترون ما يحل بكم.

والفتن لن تنتهي، ستأتي المعارضات وستأتي المظاهرات، ولا تنسوا طابور العلمانيين، ولا تغتروا بموافقتهم للسلطة الآن، فإنما يوافقونهم إلى حين، وبعد ذلك ستأتي المعارضات والمظاهرات والتشغيبات، ونفسُ الكلام الذي نقوله الآن: سنقوله ونكرره، ولن نمل أبدا -إن شاء الله تعالى-.

فعليكم بهذه الضوابط -بارك الله فيكم-، هذا دين الله -عز وجل-، هذا هو تحكيم الشريعة
-على الوجه الصحيح-: نرجع إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وما قرره علماؤنا، فنتمسك به، ولا نحيد عنه.

نسأل الله تعالى أن يكف عنا الفتن كلها، وأن يوفقنا لما فيه صلاحنا، وأن يهدينا إلى ما فيه رشادنا وفلاحنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه؛ وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

   طباعة 
0 صوت