ما لنا وللسياسة؟!
الحمد لله حقَّ الحمد، وأشهد أن لا إله إلا الله رفيع الجَدِّ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله عظيم المجد؛ صلى الله عليه وعلى آله، ما طال على الناس عهد.
أما بعد؛ فإن الدعوة السلفية المباركة قائمة على الاتباع، والعلم، والتصفية، والتربية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
دعوة لا تجد فيها إلا كل خير، وكل ما فيه صلاح للخلق؛ وكيف لا تكون كذلك، وهي قائمة على الإيمان برب العالمين، واتباع ما جاء من عنده من البينات والهدى، التي من اتبعها؛ فلا يضل، ولا يشقى؟
ولمَّا كانت قضية الإمامة، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ من أعظم القضايا التي تقوم عليها البشرية؛ كان لا بد أن يجد الإنسان في الوحي الشريف -ومن ثَمَّ: في الدعوة السلفية- ما يضبط هذه القضية، ويحقق فيها السداد والصلاح للخلق، بما يقبله كل عقل صريح، وكل فطرة سوية.
جاء الأمر عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بطاعة الحكام المسلمين، ولزوم جماعتهم، والالتفاف حولهم؛ إذ كانت لا تقوم مصالح الخلق إلا بذلك، فلا بد للناس من إمام، يقوم على أمورهم، ويضبط شئونهم، ويؤمِّن بلادهم وسُبُلهم؛ ولولا ذلك؛ لكانت الحياة فوضى لا تطاق، واضطرابا لا يُحتمل؛ ولما استقام للناس دين، ولا دنيا.
وجاء التقييد من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بكون الطاعة في المعروف، الذي لا يخالف شرع الله عز وجل؛ إذ لا يصح -في الشرع، ولا العقل، ولا الفطرة- أن يطاع المخلوق في معصية الخالق؛ لما في ذلك من تقديم المخلوق على الخالق، وتقديم أمر المخلوق على أمر الخالق، بما يُذهب عظمة الخالق في نفوس الخلق، ويؤدي إلى الاستهانة بحدوده وأوامره، وهي الأصل، الذي تقوم به مصالح الخلق -من الأساس-، فلو تعارض أمر الحاكم مع أمر الله عز وجل؛ فالصلاح والنفع في أمر الله عز وجل وشرعه، مهما ادعى الحاكم أن مخالفته للشرع محققة لذلك.
وجاء النهي من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الخروج على الحكام، ونزع اليد من طاعتهم، ورفض إمارتهم؛ وإن حدثت منهم المعصية، وظهر الظلم، وأمروا بخلاف شرع الله عز وجل، وحكموا بغير ما أنزل الله عز وجل؛ إذ كان مستقرا في العقل، والفطرة، والتجربة: أن مفسدة الخروج عليهم أعظم من مفسدة ظلمهم، وأن الأمر كما قال السلف: «ستون سنة بإمام جائر: خير من ليلة واحدة بلا إمام».
وقد بيَّن لنا ربنا -سبحانه- بيانا شافيا: أن ظلم الرعاة من ظلم الرعية، وأنه -جل شأنه- يولِّي على الناس من يناسبهم، ومن يكون عمله من جنس عملهم: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾؛ وكان من الكلام المأثور المتوارَث: «أعمالُكم عُمَّالُكم»، «كما تكونوا يولَّى عليكم».
فإذا حصل الظلم والفساد من الحاكم؛ فلا يصح أن يقابَل بالخروج والمنازعة؛ لأن الناس -أصلا- فاسدون، فمهما سعوا في إزالة حاكمهم؛ فلن يأتيهم إلا من يناسب حالهم وفسادهم.
فلهذا أمرت الشريعة بالصبر على جور الأمراء، والرجوع إلى النفس بالتوبة والإصلاح، كما لخَّصه الإمام الحسن البصري رحمه الله بمقولته البليغة: «إن جور الملوك نقمة من نقم الله -تعالى-، وإن نقم الله لا تُسْتَدْفَعُ بالسيف، ولكن بالتوبة والإنابة».
فإذا أصلح الناس أنفسهم؛ أصلح الله لهم حكامهم، وهداهم إلى تحقيق العدل والاستقامة في حكمهم وقرارهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.
وليس معنى ذلك السكوت عن المنكرات والمعاصي -نفسها-، بل يجب النهي عنها، وبيان ما فيها من المخالفة للصراط المستقيم؛ صيانة للشريعة من التبديل، ونصيحة للمسلمين، وقياما بفريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ من غير تعرض لأشخاص الحكام، ولا تهييج عليهم؛ قياما بفريضة لزوم الجماعة، وترك الخروج والفساد.
هذه هي المعالم الرئيسية للموقف الشرعي من الحكام، كما جاءت به نصوص الوحي الشريف، وكما تدعو إليه الدعوة السلفية المباركة، بلا زيادة، ولا نقصان.
وكالعادة المطردة: لا بد من وقوع خلل في الفهم والتطبيق، ولا بد أن يقع من بعض حملة الحق أن ينسبوا إليه -بتأويلهم- أشياء، هي من قبيل الزيادة عليه، أو النقصان منه؛ كما قال التابعي العاقل مخلد بن الحسين رحمه الله: «ما ندب الله العباد إلى شيء، إلا نزع فيه الشيطان بأمرين، لا يبالي بأيهما ظفر: إما غلو فيه، وإما تقصير عنه».
فهذا أمر واقع لا بد منه في الخلق، وفي دعاة الحق، في كل زمان ومكان؛ إلا أنه لا بد من التنبيه عليه، وبيان ما فيه من الخطإ؛ حفظا للحق والشريعة من التبديل، ونصيحة للمسلمين، وبيانا لحقيقة الدعوة، بما يدفع عنها التهمة والريبة، المؤدِّيتَيْن إلى صد الناس عنها، وتنفيرهم منها.
إذا عُلم ذلك؛ فاعلم أن الدعوة السلفية بعيدة عن التدخل في سياسة الحكام وقراراتهم، ولا يُعهد عن علمائنا المتقدمين والمتأخرين أنهم فعلوا ذلك؛ إلا فيما ظهر صوابه، وتبينت مصلحته وموافقته للشرع؛ فإنهم ينصرونه ويؤيدونه بالحجة والبرهان؛ وما يُطلب فيه الطاعة والتنفيذ: نسمع فيه ونطيع -بلا إشكال-، ما لم يكن فيه معصية.
والإشكال في هذا الموضع: هو الخلط عند بعض الدعاة الفضلاء بين هذه الصورة، وبين صورة أخرى، وهي: التصدي لكل ما يصدر عن الحاكم من قرارات، وكل ما يتخذه من سياسات، فيتابعونها بالتأييد المطلق، والتصويب التام، بدون بحث، ولا تمحيص؛ ولاسيما إن كان القرار موضع إشكال، أو فيه نزاع لدى أهل الاختصاص، بحيث لا يُسلَّم فيه لما يراه الحاكم؛ فضلا عما ظهر خطؤه من القرارات، أو ظهرت مخالفته للضوابط الشرعية، والقواعد المرعية.
وهذه القرارات تدخل تحت مسمى «السياسة» -عموما-، فمنها ما يتعلق بالسياسة الداخلية، والمشروعات القومية، والقوانين المنظِّمة لأحوال الاقتصاد، والصحة، والتعليم، وغير ذلك من الملفات الداخلية؛ ومنها ما يتعلق بالسياسة الخارجية، في التعامل مع الدول الأجنبية، حربًا، أو سِلْمًا، أو تجارة، أو تأييدا، أو معارضة، أو غير ذلك من الملفات الخارجية.
والمقصود -كما أوضحتُ في كلامي آنفا، وأكرِّره مبالغة في دفع الغلط في الفهم-: ما يعتريه الإشكال والنظر، والنزاع فيه بين أهل التخصص، مما لا علاقة لأهل الدين به، ولا يُطلب فيه طاعة وتنفيذ لشيء معين؛ فضلا عما ظهر خطؤه وبطلانه، ومخالفته للشريعة وضوابطها؛ وأما ما ظهر صوابه وموافقته للشرع؛ فلا إشكال في تأييده؛ وما طُلب فيه الطاعة والتنفيذ؛ سمعنا، وأطعنا؛ ما لم يكن معصية لرب العالمين.
فتجد من الفضلاء من يبادر بتصويب ما ذكرتُه من الصورة المشكلة أو الخاطئة، تحت مسمى: نصرة الحاكم، وجمع قلوب الرعية عليه، ودرء الفتنة والمنازعة، ونحو ذلك.
فاعلم -علمني الله، وإياك- أن الأمر ليس كذلك، ولا يُعهد -إطلاقا- عن أحد من علمائنا أنه خاض في ذلك، ولا تقحَّم هذه المشكلات والمعضلات.
والسبب في ذلك: أن الحاكم ليس بمعصوم، وقد يتخذ القرار لمجرد السياسة المحضة، من غير التفات إلى ضوابط وقيود تضعها الشريعة لذلك القرار؛ وقد يجتهد في تقدير المصلحة في ذلك، وينازعه أهل الاختصاص -سياسيا، أو اقتصاديا، أو عسكريا، أو غير ذلك-؛ وقد تؤثر عليه بطانة السوء، أو يلبس عليه علماء السوء؛ إلى غير ذلك من الاحتمالات المعلومة في هذا الشأن.
وإذا تكلمنا على أمور السياسة -خاصة-؛ فمعلوم لدى كل أحد ما فيها من الحسابات الدقيقة، والتقديرات العويصة، التي لا ضابط لها ولا رابط، وكثيرا ما تنبني على المصلحة المحضة، من غير تقيُّد بشرع ولا خلق؛ حتى صار من المقررات السياسية: أن السياسة لا تعرف الأخلاق! وأن عَصَبَها «المِيكافِلِّيَّة» [أن الغاية تبرر الوسيلة]، و«البَرَجْمَاتِيَّة» [النَّفْعية، والسعي للمصلحة المجردة]!
وهذا المعنى -بعينه- هو الذي لأجله أطبق علماؤنا على المنع من المشاركات السياسية المعاصرة، حتى صار من المحفوظات لدى صغار السلفيين، وصار من شعائر الدعوة السلفية: أنها لا تشارك في أحزاب، ولا انتخابات، ولا برلمانات، ولا نحو ذلك؛ لما في هذه الأمور من مخالفات للشريعة، وخضوع للأحكام السياسية المتقلبة، التي لا تتقيد بالشريعة.
فأي فرق بين هذه المشاركة، وبين المشاركة بتأييد نفس القرارات السياسية، من غير انخراط فعلي في السياسة؟!
وفي تلك المشاركات: كان من مآخذ علمائنا في المنع: صيانة الدعوة وأهلها عن التُّهَم والرِّيَب؛ لأن السياسي متقلِّب بطبعه، مخالف للشرع -كثيرا-، مقدِّم للتنازلات -كثيرا-؛ وليس رجال الدين هكذا؛ لأنهم أصحاب مبادئ وشريعة، تحكم أقوالهم وأفعالهم، وهم أهل القدوة للناس، لا بد أن يصونوا أنفسهم عما يُشِينُهم، ويميِّع قضيتهم ودعوتهم.
وهذا المعنى -بعينه- موجود في المبادرة إلى تأييد القرارات المشكلة، فضلا عما ظهر خطؤه وبطلانه منها؛ فإن هذا يضع الداعية -مع معصيته لربه، وتسويغه للمنكر- في موقف تهمة وحرج، ويجعل الناس يظنون به شرًّا، ويرسِّخ ما يروِّجه أهل البدع عن أهل السنة: أنهم علماء بلاط! وعملاء للحكام! وهذه فتنة عظيمة للناس، وباب كبير للصد عن سبيل الله، يجب دفعه وتجنبه.
وإنما وظيفة الدعاة في هذا الموضع، وما يتحقق به المطلوب من لزوم الجماعة: هو تهدئة القلوب، وتطييب النفوس، ودفع التهييج، وإفهام العامة أن الحاكم -بتقدير خطئه في قراره- لا يجوز الخروج عليه، ولا تكفيره -كما يصرح بعض الجهال المبتدعة في بعض القرارات-.
نعم؛ هذا هو مرادهم، وهذه هي غايتهم؛ فليست القضية قضية قرار، أصاب فيه الحاكم أو أخطأ، وإنما المراد: تكفير الحاكم، والتهييج عليه، وإحداث الثورة والخروج.
فالواجب علينا -معشرَ الدعاة السلفيين-: التصدي لهذا الأمر، بما تقدم ذكره من بيان القواعد الشرعية في التعامل مع الحكام، وحسن مخاطبة الناس بما يعقلون ويفهمون، وبما فيه التقدير والتفهُّم للواقع والظروف؛ لا بتصويب القرار -نفسه-، ما دام الحال على ما ذكرتُ.
أرأيتَ لو أتى الحاكم ظلما بيِّنا، أو غُشْمًا ظاهرا؛ أَكُنَّا نبرِّره، ونصوِّبه، ونقول: السنة جاءت بذلك؛ جمعا للقلوب على الإمام؟!
فالداعية الراسخ في فهم منهجه، الحكيم في دعوته؛ لا يقف مواقف التهم، ولا يعرض نفسه ودعوته للحرج، ولا يتدخل في أمور لا تعنيه؛ وليترك السياسة لأهلها، والحكم لأهله، والقرار لأهله؛ وليكن شعاره -قولا، وعملا- كما قال الصحابي الجليل العالم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «إن كان خيرا؛ رضينا، وإن كان شرا؛ صبرنا».
نسأل الله التوفيق والصلاح لحكامنا، ودعاتنا، وجميع المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وسلم تسليما كثيرا.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 14/صفر/1442
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
|