الشيخ حسن بن عبد الوهاب البنا
قدس الله روحه
(العالِم، الوالد، القدوة)
الحمد لله الملك العزيز القدير، الذي إليه المرجع والمصير.
وأشهد أن لا إله إلا الله، رب العالمين، الآخِر الذي ليس بعده شيء، الذي كتب الفناء على جميع البشر، ولم يستَثْنِ منهم أكرمهم عليه، وأحبَّهم إليه: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾، ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلغ رسالته، وأدى أمانته، ونصح أمته، ولم يورِّث دينارا ولا درهما، وإنما ورَّث العلم، يحمله بعده العلماء والدعاة -كابرا عن كابر-؛ حتى إذا أذن الله بقبضه؛ قبضهم، كما قبض إليه عبده ورسوله -من قبل-؛ صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم يُبعثون.
أما بعد؛ فقد فُجع أهل السنة بوفاة الشيخ العالم العابد القدوة حسن بن عبد الوهاب بن مرزوق البنا، يوم السبت، الثالث من المحرم، عام اثنين وأربعين وأربعمائة وألف؛ قدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه.
فقد أهل السنة بوفاته عالما ربانيا، وعابدا قدوة، ووالدا رحيما، وقائدا بصيرا حكيما.
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضى الربُّ، وإنا لله، وإنا إليه راجعون.
وفي رثاء شيخنا ووالدنا -رحمه الله-؛ نتوقف عند حياته المديدة الحافلة، ونحاول أن نأخذ بعض الدروس والعبر، من صفاته وشمائله؛ عسى أن تكون دليلا لنا على الطريق، فنتمسك بها، ونحافظ -من خلالها- على مسيرة الدعوة، وطريق الإصلاح.
ويقتصر العبد الفقير -من ذلك- على أربعة أشياء:
* الأول: الصدق والإخلاص:
وهما مِلَاك كل شيء، وأساس الفلاح في الدنيا والآخرة.
ومع كونهما من الأمور الباطنة، التي لا يطلع عليها إلا من يعلم السِّرَّ وأخفى؛ إلا أن لهما علامات وقرائن تدل عليهما، من الأقوال والأفعال.
وكل من عرف شيخنا -رحمه الله-، وجالسه، وسمع كلامه، ونظر في دعوته، وعلاقته بإخوانه وأبنائه؛ لم يَرَ إلا الدليل الواضح على صدقه وإخلاصه؛ نحسبه كذلك، والله حسيبه.
ما كان -رحمه الله- طالبا لدنيا، ولا لشيء من زخرفها.
ما كان حريصا على مدح، ولا ثناء، ولا رياسة.
في مواضع النزاع: ما كان طالبا إلا للحق والدليل، وكان أسرع الناس اعترافا بالخطإ.
ما كان حريصا إلا على مصلحة الدعوة، وأبنائه الدعاة؛ وما كان إلا ناصحا لهم، مشفقا عليهم.
حتى رياستُه التي نالها بغير طلب: لم يستغلها -قط- في مصلحة نفسه.
كان -دائما- كبيرنا ووالدنا ومقدَّمنا، وما كان -أبدا- يعاملنا بهذه الصفة!
لقد كان -دائما- يُكِنُّ في نفسه، ويتعامل معنا؛ على أنه واحد منا.
كان يقدم أبناءه، ويستفيد منهم، ويعرف لهم أقدارهم.
حتى في تَقْدِمَاته، وتزكياته؛ وهو المقام الذي يُتوقع فيه أن يرفع شأنَه، ويُظهر فضلَه؛ كان -رحمه الله- لا يتكلم إلا بوصفه «مُعَرِّفًا» لأبنائه، وكان -دائما- يقول: هذا تعريف، وليس بتزكية؛ ولا يذكر كلمة واحدة تُفْهِمُ أنه «العلامة» «المزكِّي» «الإمام»، الذي لولاه؛ لما راح «المزكَّى»، ولا جاء!
وحتى في مواطن النزاع، والمشاكل التي تَعُجُّ بها الدعوة؛ ما كان -رحمه الله- إلا ناصحا مشفقا، ولا كان يزيد على الاقتراح والمشورة، ولا كان ظالما، ولا جبارا، ولا فرعونيا، يقول كما قال فرعون: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ﴾.
فهذه الخِلال لا تصدر -في عادة الخلق- إلا من صادق مخلص، نحسب شيخنا -رحمه الله- كذلك، ولا نزكي على الله أحدا.
فاعتبروا -يا أهل السنة-، وأجيبوا عن السؤال -بصدق-:
أين نحن من أخلاق شيخنا -رحمه الله-؟!
وهل كان -رحمه الله- يُغَرِّدُ خارج السِّرْب، ويسبح ضد التيار؟!
* الأمر الثاني: معرفة قدر النفس:
لقد كان والدنا -رحمه الله- من أكثر الناس معرفة بقدر نفسه، لا يتعداه -طرفة عين-.
ففي المسائل العلمية -اعتقاديةً كانت، أو منهجيةً، أو فقهيةً، أو من النوازل العامة، أو الجرح والتعديل-: ما كان يتصدر للقول فيها -ابتداء- كشأن سائر العلماء، بل كان لا يتكلم فيها إلا تبعا للعلماء، فليس له فيها قول منفرد، ولا يتكلم إلا أن يسبقه أحد بالكلام، ولا تُحفظ عنه مسألة إلا على هذه الصفة.
ولم يَدَّعِ لنفسه -يوما- أنه من المتوسعين في العلم، بل من كلماته المحفوظة عنه: «أنا قليل العلم، وإنما يُرجَع إليَّ لِسِنِّي، وخبرتي، وتمييزي بين الصواب والخطإ».
وهذا الذي كان يدعيه لنفسه هو حقيقة العلم!
أَلَسْنَا نعرف -جميعا- قول علمائنا: «العلم نور يقذفه الله في القلب، يفرق به العبد بين الحق والباطل، وليس بكثرة المسائل»؟
ألم نقرأ وندرس -جميعا- قول الإمام البربهاري -رحمه الله-: «واعلم -رحمك الله- أن العلم ليس بكثرة الرواية والكتب، إنما العالم من اتبع العلم والسنن، وإن كان قليل العلم والكتب، ومن خالف الكتاب والسنة؛ فهو صاحب بدعة، وإن كان كثير العلم والكتب»؟
فما بال أقوام كانوا يَلْوُون ألسنتهم في حياة الشيخ، ولعلهم يفعلون بعد موته: بأنه لم يكن عالما؟! ولا يستأهل أن يؤخذ عنه العلم؟!
كيف يصنعون بأقوال السلف والأئمة، مما نقلتُ بعضَه؟!
وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن معروف الكَرْخِيِّ -فيما أذكر-، فقال: «معه أصل العلم، خشية الله».
وأصله في كتاب الله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
وهذه فتاوى الشيخ، ودروسه، وغيرها مما ترك: لا يكاد يُعرف له فيها خطأ، وإن عُرف؛ فلا يكاد ينفرد به، بل لا بد أن تجد له موافقا فيه؛ وقد استقر في بديهة العقل والفطرة، وفي الجادة العلمية: أنه لا يُختص أحد بعيب لم ينفرد به.
فكان ماذا؟!
ما قيمة التوسع في العلم، مع كثرة الغلط والتخليط؟!
أَيَشُكُّ عاقل في أن قلة العلم مع كثرة الإصابة أفضل من كثرة العلم مع كثرة الخطإ؟!
فقد أتعب المتنطعون أنفسهم، ولم يصنعوا شيئا! وتَمَخَضُّوا، فَوَلَدُوا فَأْرًا!!
فاعتبروا -يا أهل السنة-، وأجيبوا عن السؤال -بصدق-:
أين نحن من أخلاق شيخنا -رحمه الله-؟!
وهل كان -رحمه الله- يُغَرِّدُ خارج السِّرْب، ويسبح ضد التيار؟!
* الأمر الثالث: علو الهمة:
وهذا من الصفات المدهشة في شيخنا -رحمه الله-، فإنه على كبر سنه، وضعف طاقته؛ ما كان يفتر عن أمرين عظيمين: العبادة، والدعوة.
فأما العبادة؛ فلعل الشيخ -رحمه الله- كان من أعبد أهل زمانه، وكم من مرة كنتُ أجالسه فيها مع بعض إخواني، وننشغل بكلامنا، ونلتفت إلى الشيخ، فإذا هو يصلي على كرسيه! وغير ذلك كثير، مما عرفه غيري.
هذا فضلا عن سمت التقوى، والصلاح، وحسن الخلق؛ الذي اشتهر به الشيخ -رحمه الله-، حتى كانت رؤيته تذكِّر بالله، ومجالسته تورث الحياء من الله.
وأما الدعوة؛ فهذا هو المدهش -حقا-؛ فإن العبادة ربما نشط فيها الكبير الضعيف على حسب حاله، بما رخَّص الله فيه لعباده؛ وأما الدعوة؛ فتحتاج إلى جهد أكبر، وطاقة أكبر.
ومن المعلوم عن الشيخ -رحمه الله- أنه كان نشيطا جدا في الدعوة، يتحرك إلى المساجد البعيدة، ويلقي دروسه؛ وكأنه ابن العشرين والثلاثين!
ومن المشهور عنه أنه نصحه غير واحد من المقربين إليه بأن يستريح، والناس هم الذين يأتون إليه؛ وكان -رحمه الله- يأبى، ويريد أن يستمر على هذا العمل العظيم، حتى يُختم له به.
فاعتبروا -يا أهل السنة-، وأجيبوا عن السؤال -بصدق-:
أين نحن من أخلاق شيخنا -رحمه الله-؟!
وهل كان -رحمه الله- يُغَرِّدُ خارج السِّرْب، ويسبح ضد التيار؟!
* الأمر الرابع: الحرص على الألفة، وجمع الكلمة:
وهذا لعله أظهر ما يُعرف به الشيخ -رحمه الله-.
إذا ذُكر الشيخ حسن؛ ذُكر العقل، والحكمة، والتؤدة.
إذا ذُكر الشيخ حسن؛ ذُكرت الألفة، والمودة، والجماعة.
ما أكثر وصاياه بالرفق، والصبر، والحرص على وحدة الكلمة.
ما أكثر ما كان يجمعنا في المجالس والتزاور والتواصل.
ما أكثر ما كان يهدئ الفتن والمنازعات بين الدعاة، ويطفئ نار العداوة بينهم، أو يسكِّنها -في أقل الأحوال-.
بل وصل به مراعاة هذا الأمر العظيم إلى حد أنه كان يتحرك بنفسه، ويتحمل مشقة السفر، ويجود بصحته وطاقته؛ نصرةً لأحد أبنائه، أو تقويةً لدعوته، أو درءًا لفتنة ومشكلة.
بل وصل به ذلك إلى حد إجابة الدعوة، إلى زيارة، أو وليمة، أو عقيقة؛ رغم ضعفه ومرضه؛ جبرًا لقلوب أبنائه، ورعايةً لخاطرهم؛ في تواضع جَمٍّ، وأدب رفيع.
فاعتبروا -يا أهل السنة-، وأجيبوا عن السؤال -بصدق-:
أين نحن من أخلاق شيخنا -رحمه الله-؟!
وهل كان -رحمه الله- يُغَرِّدُ خارج السِّرْب، ويسبح ضد التيار؟!
إن هذه الخلال العظيمة، والشمائل الفاضلة؛ جعلت الشيخ -رحمه الله- موضع محبة واحترام الجميع؛ وما له لا يكون كذلك، وهذه الخلال والشمائل هي مناط المحبة والاحترام -أصلا-؟!
يخطئ -جدًّا- من يظن أن مناط المحبة والاحترام هو كثرة العلم، أو كثرة الكتب، أو الوجاهة، أو الرياسة، أو الشهرة، أو غير ذلك من زخرف الدنيا، الذي لا يساوي عند الله جناح بعوضة.
إن الله جعل مناط الفضل، والإمامة، ورفعة الذكر؛ في التقوى، والصلاح، والاستقامة، وحسن الخلق، والاعتصام بالحق.
فلا يكون إماما إلا من اتصف بتلك الصفات المجيدة، ولا يُوضع له القبول والمحبة في الأرض إلا كذلك.
وفي أقل الأحوال: لا يمكننا أن نثبت على الطريق، ونحافظ على دعوتنا وأنفسنا؛ إلا بالتمسك بهذا الصراط المستقيم، والحبل القويم.
فاعتبروا -يا أهل السنة-، وتفهَّموا، واعملوا؛ تَرْشُدُوا، وتُفْلِحُوا.
رحم الله شيخنا ووالدنا، وأسكنه فسيح جناته، ورفع درجته، وجزاه خيرا عما قدمه، وألحقنا -جميعا- به على خير، مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين؛ وحسن أولئك رفيقا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الأحد 4/محرم/1442
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
|