أسباب المشكلات في الدعوة السلفية
(تكميل للمحاضرات التي تم إلقاؤها في هذا الموضوع)
(الحلقة الرابعة)
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فهذه هي الحلقة الرابعة في موضوعنا، وموضوعها: مرض آخر من أمراضنا، وهو: الكذب.
والكذب مستقرٌّ قبحُه في كل شرع، وكل عقل، وكل فطرة.
ما أكثر ما ذم الله الكذب في كتابه، وجعله من صفات الكافرين، وبيَّن سوء عاقبته في الدنيا والآخرة.
وما أظهر قول النبي ﷺ في الترهيب من الكذب: «إِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»، وما أشهر قوله ﷺ في آية المنافق: «إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ».
ومن مشهور كلام السلف في ذم الكذب -وقد روي مرفوعا-: «الْكَذِبُ مُجَانِبٌ الْإِيمَانَ»، «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا، إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ».
ولم يزل عقلاء الناس ينفرون من الكذب، ويستنكفون عن الاتصاف به؛ حتى المشركون في جاهليتهم؛ وكلنا يستحضر قول أبي سفيان ﭬ في قصة هرقل، وكان أبو سفيان -إذ ذاك- مشركا: «فَوَاللَّهِ؛ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا؛ لَكَذَبْتُ عَنْهُ».
والكذاب لا يكذب إلا لجلب مصلحة، أو دفع مفسدة؛ وكل ذلك عَرَضٌ حائل، ومتاع زائل.
فما أحمقه! يؤثر الدنيا على الآخرة! ويُرضي الناس بسخط رب الناس!
وإن مما يؤسف له، وينفطر له القلب: أن يصير الكذب في المسلمين سجية! وكأنه هو الأصل! والصدق هو الاستثناء!
وكأنهم يتنفسون كذبا!
ومهما كان من شأن عامة المسلمين، ومهما توقعناه من ذلك؛ فإننا لا نتوقع، ولا نقبل -أبدا- أن تسري هذه العدوى الخبيثة إلى صفوة المسلمين!
إلى نقاوة المسلمين!
إلى أهل السنة، والاستقامة!
صاحب صلاة، ومسجد، وحِلَق علم؛ يكذب؟!
ذو لحية، وقميص مشمَّر؛ يكذب؟!
طالب علم يكذب؟!
بل الطامة الكبرى: شيخ، داعية، متصدر، قدوة؛ يكذب؟!!
إنها الحقيقة -يا أُخَيَّ-! ما هي عليك بخافية!
أخٌ (!) يكذب؛ ليضر أخاه!
طالب علم (!) يكذب؛ ليحرِّش بين المشايخ، ويحدث الفتن في الدعوة!
شيخ (!!) يكذب؛ ليدفع الشناعة عن نفسه، ويتنصَّل من خطئه، ويفتري على إخوانه!!
زيدٌ يقول لعمرو: إن بكرًا قال كذا؛ وما هو بقائل! فيفترقان، وتكون العداوة والبغضاء!
كذاب غبيٌّ يذهب إلي بعض المشايخ، ويقول له: «شيخنا! أحسن الله إليكم!! إن الشيخ فلانا يقول كذا -من الأخطاء-»؛ وما قال! ولعله لم يخطر له على بال!
أو يقول: إن فلانا يقع فيكم! أو: يقع في المشايخ! وليس من ذا شيء!
شيخ أحمق مأفون يصدر منه الخطأ الثابت، فيقول: ما صدر! ما قلتُ!
أو يقول: إن فلانا قال كذا؛ ولم يقل! يريد أن ينسب إليه ما يتهيَّأ له به أن يسقطه!!
وتصير فتنة -يا أهل السنة-! ونتفرق! ونختلف! ونتهاجر! ونتلاعن! ونَتَبَادَع!
كالمعتاد!!
بسبب الكذب!!
فهذا هو الداء؛ فما الدواء؟!
دواء الكذب: الصدق، وتقوى الله، ومحبة الخير للغير.
أيها الكذاب!!
أما شعرتَ أنك تغضب ربك؟!
أما شعرتَ أنك انسلختَ من عقلك وفطرتك؟!
أما شعرتَ أنك وقعتَ في خصلة يأنفها المشرك؟!
أتحب أن تكون شبيها بالمنافقين؟!
أتحب أن تُكتب عند الله في الكذابين؟!
لماذا تكذب على إخوانك؟!
أما سمعتَ عن شيء اسمه «البهتان»؟!
لقد عرَّفه الله ۵، وذكر عاقبته في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾، ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾.
وكذا النبي ﷺ في قوله: «إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ [أي: ذِكْرُكَ أخاك بما يكره]؛ فَقَدْ بَهَتَّهُ».
أَعَرَفْتَ الآن؟! أم لا زلتَ في عمايتك؟!
أتدرك سوء أثر كذبتك؟!
أتشعر بمعنى الفتنة، والوقيعة، والتحريش؛ بين المسلمين؛ بَلْهَ أهل العلم؟!
ألم تسمع بهذا الحديث، في رؤيا النبي ﷺ، قال: «فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ، فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ؛ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الجَانِبِ الآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الجَانِبِ، حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ المَرَّةَ الأُولَى»، ثم قال له الملكان في تأويل ذلك: «وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ، يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ؛ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ»؟!
فيا حسرتاه! كم من كذبة بلغت الآفاق، فأفسدت الدعوة، وفتنت أهلها!
أيها الكذاب!!
إنك لا تبوء بإثمك -وحدك-، بل بآثام من تأثروا بكذبتك!
تبوء بإثم التحريش، والوقيعة، والفتنة، والكلام في الأبرياء، و...، و...!!
فما أهون الكذب عليك!
وما أصلب ظهرك، حتى تحمل عليه هذه الأوزار!
أيها الكذاب!!
إن الكذب مسقط للعدالة، لا يؤخذ عن صاحبه دينٌ، ولا تُقبل له شهادةٌ.
فالكذاب بين الناس: نَكِرَةٌ! لا محل له من الإعراب! لا طائل من ورائه!
فانظر أين وضعتَ نفسك!
أيها الكذاب!!
أتحب أن يُكذب عليك؟!
أتحب أن تُقَوَّل ما تقل؟!
أتحب أن يُتَكَلَّم في دينك، وعرضك؛ بما أنت منه برئ؟!
إذا أردتَ أن تشعر بألم الأبرياء الذين آذيتَهم؛ فجرب الألم -بنفسك-!
عسى أن يحيا مواتُ قلبك!
فاتق الله ربك، وأمسك عليك لسانك، وأَحِبَّ لإخوانك ما تحب لنفسك، واحرص على دينهم وأعراضهم -كما تحرص على دينك وعرضك-، ولا تَبْغِ الفساد في الأرض، ولا الفتنة في الدين.
فالبَدارَ البَدارَ -يا إخواني-!
عرفنا الداء، وعرفنا الدواء؛ فلِمَ الجفاء عن النَّجاء؟!
علينا أن نحذر الكذابين، الذين يفتنوننا، ويفرقوننا.
علينا أن نحافظ على دعوتنا، وديننا، وأنفسنا.
علينا أن نربي أنفسنا وأبناءنا على الصدق، وحفظ اللسان، وتقوى الله، والحرص على إخواننا.
عرفنا؛ فعلينا أن نلزم؛ وإلا؛ فالحجة علينا، والسؤال قادم، والمصير محتوم.
وسأعلنها لكم -واضحةً- في نهاية الكلام؛ فتربصوا!
ولله الأمر من قبل، ومن بعد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
السبت 23/رمضان/1441
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
|