أسباب المشكلات في الدعوة السلفية
(تكميل للمحاضرات التي تم إلقاؤها في هذا الموضوع)
(الحلقة الثالثة)
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فهذه هي الحلقة الثالثة في موضوعنا، وموضوعها: مرض آخر من أمراض القلوب، وهو: حب الرياسة.
وحب الرياسة معنى مذموم مرذول، يندرج تحته مفردات؛ مثل: حب الظهور، وحب الشهرة، وحب المدح، والشهوة الخفية، ونحو ذلك.
وهذا الأمر القبيح يتنافى -مباشرة- مع الإخلاص، وقد تكلمتُ -بفضل الله- عن الإخلاص في المحاضرات المشار إليها -آنفا-،وإنما يُفرد حب الرياسة؛ تنويهًا بخطورته، وسوء أثره.
وأخطرُ ما في حب الرياسة -بالنسبة لتأثيره على الدعوة-: أنه يؤدي إلى علوِّ المبتلَى على إخوانه، ومحبته لإسقاطهم؛ حتى يبقى في رياسته!
فتجد المسكين الأحمق يرى نفسه أولى من غيره!
أعلم من غيره!
أكبر من غيره!
فيحب أن يكون رأسا!
قائدا!
إماما!
وحده!!
نعم! هنا الخطورة: أن يكون كل ذلك له وحده!!
أن تكون الزعامة له وحده!
أن تكون الكلمة له وحده!
أن يكون الرأي له وحده!!
أن يكون فزع الناس، وإقبال الطلاب، وازدحام المجالس: له وحده!
وعلى هذا: ينبني العمل، وبئس العمل!
فلا يطيق الأحمق أن يبرز غيره من إخوانه، فيُعرف، ويقبل الناس عليه، ويستفيدوا منه!
من ذا الذي ينازعني في سلطاني؟!
من ذا الذي يزاحمني في رياستي ومجدي؟!
من ذا الذي يُسأل، ويؤخذ عنه، ويُرحل إليه؛ غيري؟!
أَكَبِيرٌ معي؟!! أَرَأْسٌ من دوني؟!!
وكأن الهالكَ الأبعدَ إلهٌ! أدركته اللوثة الفرعونية!
ثم يستمر في لوثته، وجنونه:
أسقِطوه!!
تكلموا فيه!!
حذِّروا عنه!!
زَهِّدوا الناس فيه!!
وتصير فتنة -يا أهل السنة-! ونتفرق! ونختلف! ونتهاجر! ونتلاعن! ونَتَبَادَع!
كالمعتاد!!
بسبب حب الرياسة!!
فهذا هو الداء؛ فما الدواء؟!
دواء حب الرياسة: الإخلاص، والتعلق بالله وحده، ومحبة الخير للغير.
يا من تحب الرياسة!
بالله عليك! ماذا تحب؟!
أتعرف -حقًّا- ما تحب؟! أتدرك -حقًّا- ما تفعل؟!
إن الرياسة لا تملك لك نفعا، ولا ضرا.
إن الناس لا يغنون عنك من الله شيئا.
فكيف تبذل نفسك في شيء يحرمك محبة ربك، وثوابه، وفضله؛ ويحبط عليك عملك، ويضيع عليك سعيك؛ وهو -مع ذلك- لا ينفعك؟!
أتشعر أنك -بهذا- قد صرتَ عبدا لغير الله؟!
ألم تسمع بقول رسول الله ﷺ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ».
فهل ترضى أن تكون عبدا للرياسة، فتكون ممن دعا عليه رسول الله ﷺ؟!
إنها الحقيقة -لو تأملتَ-؛ ولكن شهوتك غالبة عليك!
مهما مدحك الناس!
مهما عظموك!
مهما شيَّخوك!
مهما استمتعتَ بذلك، ووجدتَ له لذة!
فإنك زائل!
وإنهم زائلون!
وإن الرياسة زائلة!
ولا يبقى إلا وجه ربك، ذو الجلال والإكرام.
فهل ابتغيتَه؟! أم ابتغيتَ غيره، من الدُّون، والرَّذْل، والخسيس؟!
لو لقيتَه وأنت شيخ العالم! ورأس الدنيا! وكبير الخلائق! فلا تزن عنده جناح بعوضة؛ ما دمتَ لم تخلص له، ولم تبتغ وجهه.
فانتبه من غشيتك!
ثم انتبه إلى حقيقة الرياسة التي غفلتَ عنها، وقارن بين نظرتك، ونظرة الإمام -حقًّا-، والبصير -صدقًا-: أبي محمد سفيان بن عيينة الهلالي.
كان في مجلسه -يومًا- نفرٌ من شتى الأمصار: الشام، والعراق، ومصر، وكذا وكذا.
فجعل يقول: «يا فلان! ما فعل فلان؟!»، فيقول: «مات!».
فلما كثر عليه ذلك، ورأى أن إخوانه العلماء هلكوا؛ أنشأ يقول:
خلت الديار فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ ومن الشقاء تفرُّدي بالسُّؤْدُدِ
أَنْعِمْ بك يا أبا محمد! رحمك الله يا هلالي!
حب الرياسة شقاء؟! التفرد بالصدارة شقاء؟!
إِي -واللهِ-؛ لمن عقل، وفهم.
فإن أردتَ تأويله؛ فإِلَيْكَهُ:
التفرد بالرياسة شقاء؛ لحرمان الناس ممن يعلمهم، ويدعوهم إلى الله.
التفرد بالرياسة شقاء؛ لما يُخشَى من تأثيرها على القلب الضعيف؛ لمَّا يرى الناس ازدحموا عليه وحده.
ألم تعلم أن الواحد من السلف كان إذا جلس إليه أربعة؛ قام، وتركهم؛ مخافة الشهرة؟!
إنها نظرة عالية سامية، لا تكون إلا لمن أعلى الله هِمَّته عن الدُّون، وزيَّنه بزينة الإخلاص، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.
ثم نظرةٌ عاليةٌ ساميةٌ أخرى: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، «وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ».
أتحبُّ أن تعامَل -يا عبدَ الرياسة- بنفس شريعة الغاب التي تتعامل بها؟!
البقاء للأقوى!!
يا للسخافة!
لو رأيتَ غيرك قد أحب الرياسة الشوهاء التي تحبها، فأسقطك، وقضى عليك؛ غيرةً منه على تلك الساقطة!!
أفتحب ذلك؟!
أم ترد عليه بما نرد به عليك الآن؟!
فاتق الله ربك، وأَحِبَّ لإخوانك ما تحب لنفسك، واحرص على الخير للمسلمين، ولا تكن سببا في منع الدعوة إلى الله.
فالبَدارَ البَدارَ -يا إخواني-!
عرفنا الداء، وعرفنا الدواء؛ فلِمَ الجفاء عن النَّجاء؟!
علينا أن نحذر عبيد الرياسة، الذين يفتنوننا، ويفرقوننا.
علينا أن نحافظ على دعوتنا، وديننا، وأنفسنا.
علينا أن نربي أنفسنا وأبناءنا على الإخلاص، والتعلق بالله وحده، ومحبة الخير لإخواننا.
عرفنا؛ فعلينا أن نلزم؛ وإلا؛ فالحجة علينا، والسؤال قادم، والمصير محتوم.
وسأعلنها لكم -واضحةً- في نهاية الكلام؛ فتربصوا!
ولله الأمر من قبل، ومن بعد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 22/رمضان/1441
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
|