التحذير <"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :542587
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الأولى من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير

المقال
تفريغ الخطبة الأولى من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير
3981 زائر
08/09/2013
أبو حازم القاهري السلفي

التحذير

من دين الخوارج

وخطر التكفير

(الخطبة الأولى)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فنبتدئ -بعون الله وتوفيقه- الكلام على فرقة الخوارج، وسيكون أول كلامنا معرفة نشأتهم.

فاعلم -رحمك الله- أن الخوارج هم أول الفرق المبتدعة ظهورا في الإسلام، وأن خلافهم هو أول خلاف وقع في الأمة، ويكفيك هذا لمعرفة أهميتهم وخطورتهم.

وستزداد بينة من هذا الأمر عندما تعرف أن ظهورهم كان في عهد النبوة نفسه، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه هو الذي تولى بيان أمرهم وذكر صفتهم، وأن أحاديثه في ذلك بلغت عند العلماء مبلغ التواتر.

ونحن نذكر -في مقامنا هذا- جملة من هذه الأحاديث، ونجعل أغلب ما نذكره مما ثبت في الكتابين المتلقَّيْن لدى الأمة بالقبول -أعني: صحيحي الإمامين البخاري ومسلم-، ونتتبع أهم ما ورد من الألفاظ فيهما بالنسبة لهذه الأحاديث.

* ونبدأ بحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وهو عند الشيخين، والسياق الذي سأذكره للبخاري، وأنا أذكر السياق بتمامه، ثم أعود لشرح بعض الأشياء وذكر بعض الألفاظ.

قال أبو سعيد -رضي الله عنه-: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اليمن بذُهَيْبة في أَدِيم مَقْرُوظ، لم تُحصَّل من ترابها، فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن حِصْن، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل؛ فقال رجل من أصحابه: «كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء»، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟!»، فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمَّر الإزار، فقال: «يا رسول الله، اتق الله»، فقال: «ويلك! أو لستُ أحق أهل الأرض أن يتقى الله؟!»، ثم ولَّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: «يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟»، فقال: «لا، لعله أن يكون يصلي»، فقال خالد: «وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه»، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إني لم أومر أن أنقِّب قلوب الناس ولا أشق بطونهم»، ثم نظر إليه وهو مُقَفٍّ، فقال: «إنه يخرج من ضِئْضِئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية- أظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود».

هكذا جاء ذلكم الموقف، الذي يمثل أول ظهور للخوارج في هذه الأمة.

قوله: «بذهيبة»، أي: بقطعة ذهب.

قوله: «في أديم مقروظ» الأديم: نوع من الجلد، والمقروظ: هو المدبوغ بالقَرَظ، نبات معروف في ذلك الوقت.

قوله: «لم تحصل من ترابها»، أي: لم تخلَّص مما علق بها من التراب.

وقد كان ذلك الموقف بعد بعث علي -رضي الله عنه- إلى اليمن، في العام التاسع من الهجرة.

قوله: «ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟!» يأتمنه رب العزة -سبحانه وتعالى- على الوحي والرسالة، ثم لا يأتمنه الناس؟! فأي طعن بعد هذا فيه -صلوات الله وسلامه عليه-؟!

وفي رواية للشيخين: بيَّن -صلى الله عليه وسلم- السبب في ذلك العطاء، فقال: «إنما فعلتُ ذلك لأتألفهم»، وكان هذا من عادته -صلى الله عليه وسلم-، يعطي العطاء لشخص -وغيره أحبُّ إليه منه-؛ لما يُرجَى من تألُّف الأول، وتحبيبه في الإسلام، وترغيبه في الملة؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام- في موقف آخر: «إني لأعطي الرجل -وغيره أحبُّ إليَّ منه-؛ كراهة أن يكبه الله على وجهه في النار»، فلم يكن -صلى الله عليه وسلم- في عطائه ظالما ولا جائرا، ولا كان يحرم أحدا حقه؛ ولكنه كان يراعي تلك الحكمة التي ورد بها الشرع؛ ولهذا كان من المستحقين للزكاة: المؤلفة قلوبهم -كما ذكر رب العالمين -جل وعلا- في كتابه-.

قوله: «فقام رجل غائر العينين»، أي: عميقهما، «مشرف الوجنتين»، أي: بارزهما، «ناشز الجبهة»، أي: مرتفعها، «كث اللحية»، أي: غزيرها، «محلوق الرأس»، أي: حلق رأسه بالكلية، «مشمر الإزار»، وهذا في أصله مشروع، قد حث عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-.

هكذا ورد في تلك الرواية، وفي رواية للشيخين: «أتاه ذو الخويصرة، رجل من بني تميم»، فعُيِّن ذلك الرجل بأنه رجل تميمي، يقال له: ذو الخويصرة.

قوله: «يا رسول الله، اتق الله»، وفي رواية لمسلم: «اعدل»؛ هكذا ظهر ذلكم الرجل -الذي هو أصل الخوارج-؛ ظهر -بزعمه- يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويغار على الدين، ويحرص على الحق؛ وفي سيماه -كما جاء في الرواية- دلالة على زهده وتقشُّفه وخشونته، وهذا هو ما سنعرفه في صفة الخوارج من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن شأنهم الذي وقع من بعد؛ فالرجل -في ظاهر أمره- خشن متقشف، تدل سيماه على اجتهاد في العبادة، وهو -في ظهوره- يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يهاب في ذلك من بُعث بتبليغ الدين محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر النبيَّ الخاتم المجتبَى نفسَه، لا يخاف في ذلك شيئا، ولا يستحيى من شيء.

قوله: «ويلك! أو لستُ أحق أهل الأرض أن يتقى الله؟!»، وفي رواية للبخاري: «من يطع الله إذا عصيت»، ولمسلم: «ويلك! ومن يعدل إن لم أعدل؟! قد خبت وخسرت إن لم أعدل».

قوله: «قد خبتَ وخسرتَ» يُضبط هكذا -في بعض الروايات- على الخطاب؛ أي إن الخطاب موجَّه لذلك الرجل، لأن عدم عدله -صلى الله عليه وسلم- يفضي إلى الخلل في الشريعة التي يبلغها إلى الناس، فيؤدي ذلك إلى خيبتهم وخسرانهم وضلالهم.

وضُبط -في بعض الروايات الأخرى- بالرفع على الفاعلية: «لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل»؛ أي إنه -صلى الله عليه وسلم- إن لم يعدل -وحاشاه-؛ لكان متعرضا لعقوبة الله -عز وجل-، فالله -سبحانه وتعالى- لا يحابي أحدا، وهو القائل في كتابه مخاطبا نبيه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ . لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ . فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [الحاقة: 44-47].

فانظر كيف بيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن مقامه مقام أعظم من يتقي الله، وأعظم من يخشى الله، وأعظم من يرعى حدود الله، فاتهامه -صلى الله عليه وسلم- بما يخالف ذلك ليس اتهامه لشخصه فحسب؛ بل هو اتهام لرب العالمين -جل وعلا-، إذ يختار لتبليغ الدين من لا يكون عادلا، ولا مراعيا لحدود الله.

قوله: «ثم ولى الرجل»، أي: انصرف.

قوله: «فقال خالد بن الوليد: «يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟»، وللشيخين: أن قائل ذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وقد جمع بعض العلماء بأن كلا الرجلين استأذن في قتل ذلك الرجل، وقد وردت رواية لمسلم صريحة في أن كليهما -رضي الله عنهما- استأذن في قتل ذلكم الرجل.

قوله: «لا، لعله أن يكون يصلي» استنبط منه العلماء أن تارك الصلاة ليس بمعصوم، فقد رتب النبي -صلى الله عليه وسلم- عصمة ذلكم الرجل على كونه يصلي، فدل ذلك على أن من لم يصلِّ فليس بمعصوم، وقد أبيح دمه، وهذا قول جمهور أهل العلم في أن تارك الصلاة يُقتل، يدعوه الإمام لفعلها، فإن أقامها وإلا قتله.

قوله: «وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه»، يريد أن كثيرا من الناس منافقون، لعلهم يصلون، ويصومون، ويتشهدون، وليس في قلوبهم من ذلك شيء، وهذا أمر معلوم لدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه؛ ولكن قاعدة الشريعة التي بُعث -صلى الله عليه وسلم- بتقريرها تقتضي أنه لا يجوز النظر في قلوب الناس، وهذا أصل فرط فيه الخوارج أنفسهم -كما سنعرف إن شاء الله تعالى-.

قوله -مبيِّنا هذه القاعدة-: «إني لم أومر أن أنقِّب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم»، أي: ليس لنا إلا الظاهر، ولا يجوز لنا أن نتعامل مع إنسان إلا بما أظهره لنا.

ولنا في موقف أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عبرة، إذ قتل رجلا بعدما قال: «لا إله إلا الله»، وظن أنه قالها خيفة القتل، فأنكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: «هلا شققت عن قلبه؟»، فليس لنا إلا الظاهر، وليس لنا إلا ما يبديه الناس إلينا، وأما ما يسرونه في أنفسهم؛ فليس لنا عليه من سبيل.

قوله: «ثم نظر إليه وهو مُقَفٍّ»، أي: مدبر، قد ولَّى قفاه للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه.

قوله: « إنه يخرج من ضئضئ هذا» أي: نسله وذريته.

قوله: «قوم يتلون كتاب الله رطبا» أي: على أحسن ما يكون، يتلونه تلاوة حسنة، وقال بعض العلماء: هذا كناية عن حسن الصوت، ومراعاة أحكام القرآن الظاهرة المتعلقة بالتلاوة؛ وهذا أمر يغر الناس -ولا شك- أنه يغر الناس؛ ولكن هذا لا يكفي، بل هناك ما هو أخطر.

قوله: «لا يجاوز حناجرهم» أي: إنما يقرءونه بلسانهم، دون أن ينفذ بفقهه إلى قلوبهم.

وفي رواية لمسلم: «سيماهم التحالق، هم شر الخلق».

«سيماهم التحالق» أي: من علامتهم: حلق الرأس بالكلية -كما كان ذو الخويصرة، الذي عرفنا شأنه آنفا-، وقد كان هذا معروفا للخوارج من قديم، وإن كانوا قد تخلَّوْا عنه بأَخَرَة، فخوارج العصر لا يكادون يحلقون رءوسهم، وإنما أراد -صلى الله عليه وسلم- سيماهم الظاهرة، التي تُعرف في بداية أمرهم.

والعلماء عندما يتكلمون على حلق الرأس يبيِّنون أنه -في ذاته- لا ينبغي أن يتخذ قربة إلى الله -عز وجل-، وإن كان في أصله مباحا، فيباح للمسلم أن يحلق رأسه كله؛ ولكن لا يجوز له أن يتعبد بذلك؛ إلا في حالة واحدة، وهي: حالة النسك، فالنسك يتحلل منه المسلم بالحلق أو التقصير، وأما فيما سوى ذلك؛ فلا يجوز أن يتعبد بالحلق، وأما الخوارج؛ فيفعلون ذلك على نية التعبد المطلق، ويتخذونه لهم شعارا ودليلا وعلامة؛ كما تراه الآن في الشارات التي تعلق على الصدور: شارة الجماعة الفلانية، وشارة الجماعة الفلانية؛ هذه الشعارات التي تُتخذ سبيلا لتفرقة المسلمين: لا يجوز لأحد أن يأتي بها.

فالخوارج اتخذوا التحليق شعارا لهم؛ حتى يتميزوا عن سائر المسلمين، فيكون الأمر بذلك قربة وعبادة، فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- التحليق على أنه من شأنهم وعلامتهم، فلا يجوز لأحد أن يقتدي بهم في ذلك؛ أي: على الوجه الذي اتخذوه.

وفي رواية للشيخين: « يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم»، وللبخاري: «وعملكم مع عملهم»؛ هذه صفة أخرى للقوم، فهم ليسوا أهل كسل وركون عن العبادة؛ بل هم أعبد الناس، وأشدهم اجتهادا، حتى يفوق أمرهم في ذلك صحابةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقوله -صلى الله عليه وسلم- هنا: «يحقر أحدكم» خطاب للصحابة -في المقام الأول-؛ أي: يحقر الواحد من الصحابة صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، وعمله إلى عملهم، وهذا أمر لا شك أنه يغر السذج الحمقى، الذين لا يأخذون إلا بظواهر الأشياء؛ ولكن الأمر أخطر من ذلك.

وفي رواية أخرى للشيخين: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان» الصائمون القائمون، المصلون المجتهدون، العابدون القارئون!! وهم -مع ذلك- يسفكون الدماء، ويعيثون في الأرض بالفساد!! وليتهم يسفكون دماء الكفار؛ إذن لهان الأمر؛ ولكنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان؛ فعلام يدل هذا؟!

قوله: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الرمية: هي الصيد الذي يُرمَى فيه السهم، فكما أن السهم إذا أُطلق بقوة دخل في الصيد، ثم خرج منه مباشرة -في سرعة كبيرة-؛ فكذلك هؤلاء القوم: يمرقون من الإسلام ويخرجون منه -كما يمرق السهم من الصيد الذي يرمى به-، وهم الصائمون القائمون العابدون المجتهدون، فالأمر -إذن- لا يقاس بالظاهر؛ بل لا بد أن يُنظر في حقائق الأشياء.

وقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلا لشدة مروقهم من الدين -كما في رواية للشيخين-، فقال: «ينظر إلى نصله» أي: حديدة السهم، «فلا يوجد فيه شيء» أي: من الدم، «ثم ينظر إلى رِصَافِه فلا يوجد فيه شيء»، والرِّصاف: مدخل النصل من السهم، «ثم ينظر إلى نَضْيِه فلا يوجد فيه شيء»، والنَّضْيُ: عود السهم، «ثم ينظر إلى قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء»، والقُذَذ: ريش السهم؛ فهذه كلها أجزاء للسهم.

يريد -صلى الله عليه وسلم- أن يقول: إنه لا يعلق شيء من دم الرمية بهذا السهم مطلقا، في أي جزء من أجزائه؛ كناية عن شدة مروقه منها.

ولهذا قال: «سبق الفَرْثَ والدمَ»، والفرث: هو الخبث الذي يكون في بطن البهيمة؛ يريد -صلى الله عليه وسلم-: أنه تجاوز فرث الرمية ودمها بهذه السرعة الكبيرة؛ لدرجة أنه لم يعلق به شيء من الدماء قط.

فهذه كناية عن شدة مروق السهم، وكناية عن شدة مروق الخوارج من الدين، وهم -كما عرفتَ- الصائمون القائمون المجتهدون!!

وللبخاري: «ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فُوقِه»، والفُوْق: موضع السهم من الوَتَر؛ يريد -صلى الله عليه وسلم-: أنك إذا أطلقت السهم من وتره، ومرق بهذه السرعة الكبيرة؛ فهل يُتصور أن يعود فيه مرة أخرى؟! فكذلك هؤلاء: لا يعودون إلى الدين بعدما يمرقون منه بهذه السرعة الكبيرة.

ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: «لئن أدركتهم؛ لأقتلنهم قتل ثمود»، وفي رواية للشيخين: «قتل عاد»؛ يريد -صلى الله عليه وسلم-: لأقتلنهم قتلا عاما مستأصلا؛ كما فعل رب العالمين -جل وعلا- بعاد وثمود، ﴿ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّنْ بَاقِيةٍ ﴾ [الحاقة: 8]؛ فكذلك -صلى الله عليه وسلم- يريد أنه إن أدركهم؛ لا يُبقي منهم أحدا؛ لشدة خطورتهم وفسادهم وشرهم؛ نعوذ بالله من ذلك كله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

* الحديث الثاني معنا: حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، وقد أخرجه البخاري مختصرا، وطوَّله مسلم، وهذا سياقه:

قال: أتي رجلٌ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بالجِعْرانة -مُنصَرَفَه من حنين-، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبض منها يعطى الناس؛ فقال: «يا محمد، اعدل»، قال: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟! لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل»، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «دعني يا رسول الله، فأقتل هذا المنافق»، فقال: «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية».

هذا موقف آخر يتكرر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان بعد منصرفه -صلى الله عليه وسلم- من حنين، في السنة الثامنة من الهجرة.

فهذان -إذن- موقفان، وقد ورد تعيين الرجل -في حديث جابر هذا- بأنه ذو الخويصرة أيضا؛ ولكن هذا التعيين أتى في خارج الصحيح، فيحتاج إلى نظر في ثبوته.

وقد جاء من الزيادة في هذا الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن السبب في عدم قتله لذلكم الرجل، فقال: «لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي»، فكان -صلى الله عليه وسلم- يراعي التأليف في ذلك المقام؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان بصدد دعوة الناس إلى الإسلام، وترغيبهم في الدين، فلو أنه قتل رجلا ينتسب إليه ظاهرا؛ لحرَّف الناس الأمر، وقالوا: إنه يقتل أصحابه الذين يستجيبون إليه، فراعى -صلى الله عليه وسلم- هذه المفسدة.

وقد استنبط العلماء من ذلك: أنه لا ينبغي مراعاة هذا الأمر بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- فقد عفا -صلى الله عليه وسلم- عن بعض من طعن فيه طعنا صريحا يؤول إلى الكفر، قال العلماء: إنما فعل ذلك مراعاة لحقه -عليه الصلاة والسلام-، وحقه -عليه الصلاة والسلام- يُنظر فيه ما دام حيا، وأما بعد وفاته؛ فلا ينبغي لنا أن نتسامح مع أحد يسبه؛ بل من سبه -صلى الله عليه وسلم- وجب قتله -قولا واحدا-.

* الحديث الثالث: حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهو عند الشيخين، والسياق الذي سأذكره لمسلم:

قال علي -رضي الله عنه-: إذا حدثتكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فلأن أَخِرَّ من السماء أحبُّ إليَّ من أن أقول عليه ما لم يقل، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم؛ فإن الحرب خدعة، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ فإذا لقيتموه فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة».

قوله: «سيخرج في آخر الزمان» يعني بذلك: الفترة التي تلي وفاته -صلى الله عليه وسلم-، أو الفترة التي كان موجودا فيها في الجملة؛ لأنها تمثل آخر الزمان في الجملة؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «بُعثتُ والساعة كهاتين»، فكانت بعثته -صلى الله عليه وسلم- قريبة من وقت الساعة، ودلالة على أنها في آخر الزمان.

ثم ذكر -صلى الله عليه وسلم- صفتهم، وفي رواية لمسلم: «يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء»، وفي رواية لمسلم: «من أبغض خلق الله إليه».

فهكذا هم على شأنهم من العبادة والقربة؛ ولكنهم على غير أساس، فهم على بدعة وضلالة، والله -سبحانه وتعالى- لا ينظر إلى الأجسام والصور، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.

ثم قال: «أحداث الأسنان» أي: صغار السن، «سفهاء الأحلام» أي: عندهم طيش وخفة وتسرع؛ وهكذا شأنهم -وإن كانوا بين الناس شِيبًا-، فليست العبرة بشيب الرأس أو اللحية، ولا بما يؤول إليه القوم في رءوسهم ومتبوعيهم، وإنما العبرة بنشأتهم من الأساس.

فهم -في نشأتهم- أحداث الأسنان، ليس عندهم خبرة ولا تجارب، وهم -مع ذلك- سفهاء الأحلام، خفيفةٌ عقولهم، طائشٌ تفكيرهم، ليس عندهم روية ولا حكمة ولا عقل؛ ناهيك عن العلم بالشرع -وهو مفقود على كل حال-! فضموا إلى جهلهم تسرعا وطيشا؛ فأي شيء يتوقع بعد ذلك؟!

ثم قال: «يقولون من خير قول البرية»، قال بعض العلماء: يريد القرآن، أي أنهم يتكلمون بالقرآن. وقال بعض العلماء: المراد الحق عموما، أي: يتكلمون بالحق -على وجه العموم-، يتكلمون بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والغيرة، والحمية، والنصيحة، وإقامة الشرع، ونحو ذلك.

فهذا كله -في ذاته- كلام حق؛ ولكن نقول كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما خرج عليه القوم -كما سنعرف-: «كلمة حق أريد بها باطل»، فليست العبرة بالكلام، فإن الكلام في نفسه قد يكون حقا؛ ولكن يراد به أمر هو أبطل ما يكون، وأبعد ما يكون عن الشرع.

فهذه صفة أخرى يذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهي: أنهم يتكلمون بالحق في الظاهر، فلا ينبغي لنا أن نغتر بذلك ولا ننخدع به؛ بل علينا أن ننظر في مآلهم ومرادهم وطرائقهم.

ثم قال: «يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم»، وللبخاري: «لا يجاوز إيمانهم حناجرهم»، وفي هذه الراوية لفتة طيبة، وهي: أن إيمانهم في الظاهر فقط، وفيها إطلاق الإيمان على العمل؛ دلالة لمذهب أهل السنة والجماعة من أن العمل من الإيمان؛ فما يظهره الخوارج من الإيمان والتقوى والصلاح إنما هو أمر ظاهري، لا يتسلل إلى قلوبهم، ولا ينفذ إلى أفئدتهم.

وفي رواية لمسلم: «يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم، وهو عليهم» يحسبون أن القرآن ينفعهم أو يفيدهم، وهو -في الحقيقة- حجة عليهم، يبين باطلهم وضلالهم وجهلهم وبُعدَهم عن الشرع -كما سنبينه تفصيلا بتوفيق الله -تعالى-.

ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: «فإذا لقيتموه فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة»، وفي رواية لمسلم: «لو يعلم الجيش الذي يصيبونهم ما قُضي لهم على لسان نبيهم -صلى الله عليه وسلم-؛ لاتكلوا عن العمل»؛ دلالة على عظيم الأجر الذي يدخره الله -تبارك وتعالى- لمن قتل هؤلاء المارقين المفسدين.

* الحديث الرابع: حديث أبي ذر -رضي الله عنه-، وقد انفرد به مسلم:

قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن بعدي من أمتي (أو سيكون بعدي من أمتي) قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم»، والحلاقيم: جمع حلقوم، وهو معروف؛ قال: «يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه؛ هم شر الخلق والخليقة».

فهذه صفة زائدة في هذا الحديث: «هم شر الخلق والخليقة»، والفرق بين الخلق والخليقة قال فيه بعض العلماء: الخلق: الناس، والخليقة: الدواب؛ أي إن هؤلاء القوم شر الناس والدواب؛ لأن الدواب تقوم بوظيفتها: من تسبيح الله -تعالى-، والقيام بطاعته التي تناسبها؛ كما قال -عز وجل-: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]، فالدواب لها وظيفة تؤديها -كما قدره لها ربها -سبحانه وتعالى-، وأما هؤلاء؛ فيخرجون عن وظيفتهم، التي هي العبودية، وإقامة دين الله -تبارك وتعالى- على الحقيقة، وتنفيذ أحكامه على الحقيقة؛ يخرجون من كل هذا، ويعيثون في الأرض بالفساد، والدواب لا تصنع هذا، والدواب إنما يقتل بعضها بعضا، لا تصول على الناس فتقتلهم وتسفك دماءهم.

* الحديث الخامس: حديث سهل بن حنيف -رضي الله عنه-، وهو عند الشيخين، والسياق الذي سأذكره للبخاري:

عن يُسَيْر بن عمرو قال: سألت سهل بن حنيف: «هل سمعتَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الخوارج شيئا؟»، فقال: سمعته يقول -وأهوى بيده قِبَل العراق-: «يخرج منه قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقِيَهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية».

في هذا الحديث زيادة، وهي: تحديد موطن خروجهم؛ قال: «وأهوى بيده قبل العراق»؛ أي: إنهم يخرجون من العراق، وهذا هو ما حدث، عندما خرجوا على عليٍّ -رضي الله عنه- كما سنعرف.

* الحديث السادس: حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، وقد انفرد به البخاري:

عن عبد الله بن عمر - وذكر الحرورية -، فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية».

الفائدة هنا في ذكر الحرورية، وهذه نسبة لهم إلى القرية التي نزلوا بها بعد خروجهم على عليِّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فقد نزلوا بقرية يقال لها: «حروراء»؛ كما سنعرفه إن شاء الله -تعالى-.

ونكتفي بهذا القدر؛ حتى لا نطيل عليكم أكثر من ذلك.

والذي نستفيده: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذر بنفسه من هؤلاء القوم، وقد كثرت أحاديثه -كما رأيت-، حتى بلغت عند العلماء مبلغ التواتر؛ فالأمر إذن خطير، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يحذر من أمر -على هذه الشاكلة- إلا وفيه الشر كله والفساد كله.

وفي صفتهم التي عرفناها: أنهم يجتهدون -في الظاهر-، ويتعبدون، ويتقربون، ويتكلمون بالحق؛ ولكنهم -في حقيقة أمرهم- مخطئون، جاهلون، ضالون.

فعلينا أن نعرف هذا جيدا؛ لأنه أصل دينهم وملتهم، ومن فهمه حق الفهم؛ فإنه يعرف حقيقتهم، ولا ينخدع بكلامهم؛ نسأل الله -عز وجل- أن يسلمنا من كل الشرور، ومن كل الفتن.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم أحينا على الإسلام والسنة، وتوفنا على الإسلام والسنة، اللهم نجنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اكشف الفتن كلها، والشرور كلها، والمفاسد كلها، اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا على عدوك وعدونا، اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيرا فوفقه لكل خير، ومن أراد بالإسلام والمسلمين شرا فاجعل كيده في نحره، وانتقم منه، ومزقه كل ممزق، ولا تجعل له علينا سبيلا أبدا يا رب العالمين، اللهم احفظ دينك وعبادك الصالحين، اللهم احفظ دينك وعبادك الصالحين، اللهم احفظ دينك وعبادك الصالحين، يا رب العالمين، ويا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت