ما وراء «الكورونا»!
نصيحة لكل مسلم
ولكل مستقيم
الحمد لله الذي جمع بين الرحمة الواسعة، والعفو العظيم، وبين العقاب الشديد، والكيد المتين؛ فهو المحمود على كماله وعظمته، وهو المحمود على كل حال.
يحلم عن عباده، ويمهلهم، ثم يخوفهم، ويبتليهم؛ لعلهم يرجعون، ولرشدهم يفيئون، فلا يطغوا، ولا ينسَوْا ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾.
هو الغني عن العالمين، عن ذواتهم، وأعمالهم، وعباداتهم؛ وكل واحد منهم إليه مضطر فقير، قد برئ من كل حول وكل قوة؛ إلا بربه وسيده ومولاه. ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾.
وأشهد أن لا إله إلا الله، الواحد القهار، القوي المتين، شهادة معتزٍّ بدينه القويم، مسلِّمٍ لقضائه وقدره الحكيم، راجٍ لرحمته وفرجه العظيم.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، تركنا على البيضاء، واجتهد في نصيحتنا وتبليغنا رسالة ربه، وأمرنا بالصبر والاحتساب عند وقوع البلاء والوباء؛ نصيحةً ما أعظمها وما أَجْدَاها لكل من فقهها، وأدرك حكمتها وسرَّها.
أما بعد:
فقد فُجع العالم بـ«الكورونا»، وأذاقه الله به لباس الجوع والخوف، فعظمت البلية، واشتدت الرزية؛ وإنا لله، وإنا إليه راجعون.
وقد صار الخلق إلى تدابيرهم التي اتخذوا، في محاولة لتجنب ذلكم الشر، كلٌّ على ما أداه إليه اجتهاده، ثم استقروا على ذلك، منتظرين ما الله فاعلٌ بهم.
وليس عن هذا يتحدث العبد الفقير، بل يتحدث عما يسميه «ما وراء البلاء»، «ما وراء الكورونا»!
أَجَلْ! فإن السطور لها بَيْنٌ، وإن الفقيه الحكيم هو من يدرك هذا البَيْنَ، ويقف على ما وراءه؛ عسى أن ينتفع ويعتبر.
إن الناس الآن قد صار جُلُّ حديثهم، وأكبرُ هَمِّهم: الأسباب!
اجتنبوا كذا! وامنعوا كذا! وأغلقوا كذا! واتقوا كذا وكذا!
ولو كان كذا؛ لما وقع كذا! ولو فعلنا كذا؛ لحدث كذا!
ما تقول الأطباء؟! وما ترى الحكماء؟! وما التوصيات الجديدة؟! وهل من عقاقير وأمصال؟!
فقط!!
فزعٌ إلى الأسباب! تعلقٌ بالأسباب! رجاءٌ للأسباب!
أفهكذا صنيع أهل التوحيد والألباب؟!
إن المسلم لا بد أن يدرك الفرق بين الأخذ بالأسباب، والتعلق بها.
فالأخذ بها هو: مباشرتها واستعمالها، وهو سنة ماضية، وضرورة عقلية فطرية، لا يجحدها إلا مطموس.
وأما التعلق بها؛ فهو خوفها ورجاؤها، واعتقاد النفع والضَّر فيها -مستقِلًّا-، والفزع إليها عند الشدائد، والاهتمام الزائد بها، حتى يظن الإنسان أن حياته ونجاته متوقفة عليها.
والأخطر في ذلك: نسيان رب العزة، ومسبب الأسباب، ومالك القُوَى والقُدَر، الذي منح تلك الأسباب تأثيرها، ولو شاء لمنعه عنها، فكانت عديمة القيمة والجدوى.
الأخطر في ذلك: نسيان أن الله رب العالمين هو المنفرد بالنفع والضر، وكشف الكربات، وتفريج الهموم، ورفع البلايا.
الأخطر في ذلك: نسيان مشيئة الله النافذة، وقدرته الغالبة، وأنه لو أراد معاقبة أحد، أو إنزال البلية بأحد؛ فلا يرفع ذلك أسبابُ الكون مجتمعةً ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾، «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ؛ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ».
الأخطر في ذلك: نسيان السبب الحقيقي للمصيبة، وهو ذنوب الخلق، وعتوُّهم عن أمر ربهم.
إذن: فلا بد من الوقوف عند «ما وراء البلاء»، ولا بد من إيقاف الناس على الأسباب الحقيقة الدافعة للبلاء.
وإن من العيب والعار: أن يكون هذا الأمر خافيا على صفوة المسلمين، على أهل الالتزام والاستقامة، على أهل السنة والجماعة!
من العيب والعار: أن تكون الذنوب متوطِّنة في هذه الطائفة الطيبة، وأن يكون الفسق وصفا لها؛ حتى يكون منها من هو أفسق من صاحب الدخان والطُّنبور والقَيْنة!
إن الفزع الحقيقي لا بد أن يكون إلى الله رب العالمين، وإن السبب الحقيقي لرفع البلاء هو التوبة والخلاص من الذنوب.
وهذا هو نص القرآن: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾، ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾.
فإذا أخبرنا أصدق القائلين: أن مصائبنا بما كسبت أيدينا، وأنه لا يعاقبنا إلا لننزع ونتوب؛ أفلا نصدقه؟!
إذا اشتغل الإنسان بمعالجة أسباب المرض الظاهرية، وغفل عن سببه الحقيقي الأعظم؛ أيكون معدودا في زمرة العقلاء؟!
لقد علمنا وفَقِهْنا -تماما- كيفية التعامل الظاهر مع «الكورونا»، وكيفية الأخذ بالأسباب في ذلك، مما لا نزاع فيه؛ ولكن:
ماذا وراء «الكورونا»؟!
أتدري ماذا وراء «الكورونا»؟!
وراءه: ذنوب تتعاظم! وظلم يتكاثر! وفساد يتزايد!
وراءه: تخويف شديد! وترهيب أكيد!
وراءه: ابتلاء خطير! وامتحان رهيب!
فأما الذنوب؛ فيا حسرةً على العباد -وأولهم: راقم هذه الحروف-!
يا هذا! أما شعرتَ بجرمك؟! أما عرفتَ ظلمك؟!
يا هذا! أتظن أنك وحدك، بلا رقيب ولا وكيل؟!
أما آن لك أن تتوب؟!
يا من تدعو غير الله! يا من تحدث في دين الله! يا تارك الصلاة! يا تاركة الحجاب! يا شارب الخمر والدخان والمخدرات! يا من تنتهك الأعراض، وتسمع الفجور، وترى العورات! يا من تضيع حق أهلك! يا من تعق والديك! يا من تقطع أرحامك! يا من تسرق الناس، وتأكل أموالهم بالباطل! يا من تؤذيهم بلسانك ويدك! يا من تكذب، وتنافق، وتتكبر، وتحب الرياسة، وتعلو في الأرض!
يا هؤلاء! ويا غيرهم! أما آن لكم أن تتوبوا؟!
أما علمتم مغبة الذنوب؟! أما علمتم أنها توجب سخط الرب، وتحرم رضوانه، وتنزل العقوبة بالناس، وتمحق البركة؛ إلى غير ذلك من آثارها؟!
ألا فتوبوا -يا عباد الله-! وارجعوا إلى ربكم! وفِرُّوا إليه! فإنه لا ملجأ منه إلا إليه.
وأما التخويف؛ فانظر -رحمك الله- إلى ما نعانيه الآن:
جُرثومٌ لا يُرى! شيءٌ تافهٌ مهينٌ! لا يستطيع معه البشر شيئا! وهو يوقف حياتهم! ويعطل مصالحهم!
فيا لله! ويا لَقدرة الله! ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾.
انظر ما صنع الله بنا! انظر كيف ألجأنا إلى بيوتنا! انظر كيف تعطلت مصالحنا -في الدين والدنيا-!
ألا تشعر بالخوف؟!
ألم يأتك نبأ قوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب لئيكة، وقوم لوط، وفرعون؟!
ألا تخشى أن تصيبنا قارعة؟! أو يمسنا عذاب؟! ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ﴾.
أم أننا ممن حق فيهم قول الرب: ﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾؟!
وأما الامتحان؛ فإن الله -عز وجل- يبتلي ما صدرونا، ويمحص ما في قلوبنا؛ لينظر كيف نعمل.
وهنا الخطورة كلها على العبد؛ إذا أظهر لربه -عند الامتحان- ما لا يرضاه.
فسَلْ نفسك! وانظر في رد فعلك!
عندما جاء «الكورونا»؛ هل اتَّهمتَ نفسك، ورجعتَ عليها باللوم؛ أم اتَّهمتَ ربك، وكرهتَ قضاءه وقدره؟!
هل نظرتَ إلى مصيبة تعطيل المصالح، وكأن الأمر لا يعنيك؟!
هل خِفْتَ ربك؟!
هل بادرت بالدعاء والتضرع، وأظهرتَ لربك الندم والافتقار؟!
كيف تلقيتَ قرار تعطيل المساجد -خاصة-؟!
كلنا سمعنا وأطعنا، ولا شك في هذا؛ إنما أعني: هل شعرتَ بمرارة الأمر؟!
هل يستوي عندك عمارة المسجد وتعطيله؟!
هل تستوي عندك حِلَقُ العلم وقَعْدَةُ البيت؟!
أرأيتَ كيف أن الله غني عنا، وعن أعمالنا؟!
هل بكى قلبك على الحرمان من الخير والطاعة -إن لم تَبْكِ عيناك-؟!
هل دعوتَ ربك أن يردك إلى الجمعة، والجماعة، ومجالس العلم؟!
الإجابة جِدُّ هامة -يا إخوتاه-، فإن عليها مدار نجاحنا وفشلنا!
بل: مدار استعمالنا واستبدالنا!
نعم! لا تفزع! إنني أَعِي وأَعْنِي ما أقول! وستذكرون ما أقول!
فمن نجح في الامتحان؛ كانت عاقبته في البلاء خيرا!
وإن كانت الأخرى؛ فإن الله شديد العقاب، متين الكيد؛ لا تدري كيف تكون عقوبته!
فأدرك نفسك! وأحسن رَدَّ فعلك! وأظهر لربك ما ينفعك! فقد يكون هذا البلاء -في علم الله- قليل الأمد، ينظر الله تعالى فيه إلى أعمالنا، حتى تكون العاقبة مبنية عليها.
ليكنْ هذا البلاء فرصة للتوبة، وتصحيح المسار، وتغيير ما في القلوب.
لنظهرْ لربنا -عن صدق وإخلاص-:
مدى توبتنا!
مدى ندمنا!
مدى افتقارنا إليه!
مدى تعلقنا به!
مدى محبتنا لديننا، ودعوتنا، ومساجدنا؛ ومدى حزننا على البعد عنها!
لكي تكون العاقبة خيرا لنا، فلا يسخط علينا ربنا، ولا يضاعف علينا العقوبة، ولا يحرمنا أعز ما لنا في هذه الحياة: العبودية، والطاعة.
هذه نصيحة لنفسي الكاذبة الخاطئة، ولإخواني -عامة المسلمين، وخاصتهم-.
والله المسئول أن يفرج الهم، وينجي من الغم، ويكشف الكربة، ويصرف السوء؛ إنه أرحم الراحمين، وخير الغافرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
27/رجب/1441
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا.
|