التحذير <"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :542327
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الرابعة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير

المقال
تفريغ الخطبة الرابعة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير
6629 زائر
28/09/2013
أبو حازم القاهري السلفي

التحذير

من دين الخوارج

وخطر التكفير

(الخطبة الرابعة)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فهذا أوان الكلام على أصل الخوارج الأعظم، ومعتقدهم الأصلي، وهو: تكفير المسلمين بغير حق.

ونحن نجعل مقامنا اليوم مقدمة، نتكلم فيها على خطورة التكفير وآثاره.

فاعلم -رحمك الله تعالى- أن تكفير المسلم بغير حق من أعظم الأمور إثما، وأشدها وزرا، وأخطرها أثرا؛ وقد تواردت النصوص الشرعية في الكتاب والسنة تنهى وتزجر عنه، وتأمر بالكفِّ والإعراض عنه.

يقول ربنا -سبحانه وتعالى- في محكم تنزيله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ الآية [النساء: 94]، وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنها نزلت في رجل كان في غُنَيْمة له، فأدركه المسلمون، فألقى إليهم السلام -أي: قال لهم: «السلام عليكم»، فقالوا: «إنما يسلم تعوُّذًا منا»، فقتلوه، فأنزل الله -تعالى- هذه الآية.

وهذه الواقعة شبيهة بواقعة أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-، في قتله للرجل الجهني بعدما قال: «لا إله إلا الله»؛ كما هو معلوم.

فنحن نجد في هذه الآية أن الله -تعالى- ينهى المؤمنين أن يقولوا لمن ألقى إليهم السلام: لست مؤمنا؛ نهى المؤمنين أن ينزعوا اسم الإسلام عمن تظاهر به، فهذا دليل بيِّنٌ على أن من ثبت إسلامه بيقين، لم يجز إخراجه عنه إلا بيقين مثله.

ويقول الله -تعالى- في كتابه أيضا: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ [الأحزاب: 58]، ينهى -سبحانه- عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، بغير ما ارتكبوا، بغير ما فعلوا، بغير ما اعتقدوا؛ فلا يجوز لأحد أن ينسب إلى مسلم شيئا لا يقوله، أو لا يعتقده، أو لا يفعله؛ وأعظم ذلك: نسبة الكفر إليه؛ لما يترتب على ذلك من عظيم الأثر -كما سنعرف-.

وفي السنة النبوية المطهرة أحاديث عدة تنهى عن تكفير المسلم بغير حق، وتزجر عنه أشد الزجر.

فأخرج الشيخان في «صحيحيهما» من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا قال الرجل لأخيه: «يا كافر»؛ فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه».

وأخرجا أيضا عن أبي ذر -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من دعا رجلا بالكفر، أو قال: «يا عدو الله»، وليس كذلك؛ إلا حار عليه».

وأخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قال لأخيه: «يا كافر»؛ فقد باء بها أحدهما».

وأخرج ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أكفر رجلٌ رجلًا؛ إلا باء أحدهما بها، إن كان كافرا، وإلا كفر بتكفيره».

وأخرج الشيخان من حديث ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال -في حديث طويل-: «لعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنا بكفر؛ فهو كقتله».

وأخرج البزار عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا قال الرجل لأخيه: «يا كافر»؛ فهو كقتله».

وليس المقصود هاهنا تفسير بعض ما ورد في هذه الأحاديث؛ فإنها مَسُوقَةٌ مساقَ الزجر.

فها أنت ترى أن الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- نَهَيَا وزَجَرَا عن تكفير المسلمين بغير حق، وبيَّنَا أن في ذلك وعيدا شديدا وإثما عظيما.

وإنما ذلك لأن التكفير يترتب عليه آثار خطيرة، فليس الأمر مقصورا على مجرد الاسم، على مجرد تسمية الرجل كافرا، وإنما يترتب على هذا الاسم أحكام وآثار في الدنيا والآخرة -على حد سواء-، فهناك ما يسمى في شرعنا بـ«أحكام المرتد» -الذي أسلم، ثم كفر-، فتكفيرُ من ثبت إسلامه: حكمٌ عليه بالردة والمروق عن الملة، وهذا تترتب عليه أحكام، بيَّنها الله -تعالى-، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن نذكر في مقامنا هذا جملة مختصرة منها.

فمن هذه الأحكام، وهو أعظمها -على الإطلاق- في هذه الدنيا: إباحة الدم.

فالمرتد يباح دمه -بنص حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما ثبت في «الصحيحين» من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة»، وفي «صحيح البخاري» عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من بدل دينه؛ فاقتلوه».

فهذا أول حكم يترتب على الردة، وهو أعظمها وأخطرها في هذه الحياة الدنيا؛ ألا وهو: إباحة الدم.

ومن أحكام الردة كذلك: فسخ النكاح، فالمرتد عن الإسلام يُفسخ نكاحه، وتَبِينُ منه زوجته، ولا يجوز أن يكون وليا لامرأة مسلمة في عقد نكاح؛ إلى غير ذلك من التفريعات التي يذكرها الفقهاء.

وذلك أن الله -تعالى- حرم على المسلمين نكاح المشركات؛ إلا الكتابيات -من اليهوديات والنصرانيات-، فكل من ليست بيهودية أو نصرانية؛ فهي حرام على المسلم أن يتزوجها، والأمر في حق النساء أغلظ: فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تتزوج كافرا -وإن كان كتابيا: يهوديا أو نصرانيا-؛ لقول الله -تعالى-: ﴿لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10].

فلو أن الرجل المسلم ارتد عن دينه؛ فإن زوجته تبين منه فورا، ولا يجوز أن تستمر في عصمته.

ومن أحكام الردة: حرمة الذبيحة، فالمرتد إذا ذبح ذبيحة؛ لم يجز أكلها، ولا قربانها؛ لأن الله -تعالى- حرم ذبائح الكفار؛ إلا أهل الكتاب، والمرتد ليس بكتابي؛ وهذا أمر يحسن التفطن له: فرقٌ بين اليهودي والنصراني، وبين من أسلم ثم ارتد، فالثاني أخطر، وأحكامه أغلظ، لا تجري عليه أحكام أهل الكتاب.

ومن أحكام الردة: عدم توريث المرتد، فلو أن للمرتد قريبا مسلما قد مات؛ لم يجز أن يرثه.

ومن الأحكام: أن مال المرتد يصير فيئا للمسلمين، والفيء له مصارف معينة، بيَّنها الله -تعالى- في كتابه؛ كما في سورة الحشر: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الحشر: 7]، فمال المرتد يؤخذ، ويقسم بهذه القسمة التي ذكرها الله -تعالى- في كتابه.

ومن الأحكام أيضا: أنه إذا مات على كفره؛ لا يعامل بأحكام المسلمين الموتى، فلا يُغسَّل،
ولا يُكفَّن، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين؛ لأن هذه الأحكام خاصة بالمسلمين من الموتى، لا يجوز أن تتعدى لكافر.

ومن ذلك: أنه لا يجوز الترحم عليه، ولا الاستغفار له، ولا الدعاء له بخير؛ لقول الله -تعالى-: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ﴾ [التوبة: 113]، فالذي يموت على كفره أو ردته: لا يُستغفر له، ولا يُترحم عليه، ولا يُدعى له بخير.

ومن ذلك: أن عمله يحبط، فلا يُقبل له عند الله عمل؛ كما قال -تعالى-: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 5]، وقال -تعالى-: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 217]، فالمرتد -نسأل الله السلامة والعافية- بمجرد ردته وخروجه عن الإسلام- يبطل عمله كله، لا يُقبل له عند الله -تعالى- أي عمل من الأعمال الصالحة، التي كان قد أتى بها من قبل.

ومن الأحكام، وهو الأخير، وهو أشد الأحكام في الآخرة: الخلود في النار -والعياذ بالله-، فلو أن المرتد مات على ردته؛ فإنه يخلد في النار أبدا، لا يُغفر له كفره، ولا شركه، ولا ردته؛ لقول الله -تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾ [النساء: 48]، وقوله -تعالى-: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72]، فلا أمل له قط لا في المغفرة، ولا في الشفاعة، ولا في الخروج من النار، ولا في أي شيء آخر، وإنما هو خالد في جهنم، محكوم عليه بذلك إلى الأبد؛ نسأل الله السلامة والعافية.

فهذه أهم أحكام الردة، ومن خلالها تعرف أن الأمر ليس باليسير، وأن تكفير المسلم لا يتوقف عند مجرد نَعْتِه وتسميته بالكفر؛ بل إن الأمر تترتب عليه أحكام شديدة؛ لأجل هذا نهى الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أشد النهي عن تكفير المسلم بغير حق؛ لئلا تترتب هذه الأحكام، وتنزل في غير أهلها، وما ينطوي على ذلك من عظيم الخطر.

نسأل الله -تعالى- أن يثبتنا في الدنيا والآخرة، وأن يتوفانا على التوحيد وهو راض عنا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوة الإسلام عباد الله؛ نتوقف الآن عند أخطر حكم من أحكام الردة في الدنيا، وهو: إباحة الدم؛ فإن الحكم بتكفير المسلم -كما عرفت- يترتب عليه إباحة دمه، وهذا الأمر في غاية الخطورة؛ فإن تحريم الدماء من الأمور التي اتفقت عليها جميع الشرائع، فما بُعث نبي من الأنبياء إلا بتحريم القتل، وسفك الدماء، وإزهاق الأرواح؛ هذا أمر معلوم تحريمه بالاضطرار في كافة الشرائع والملل، لم يُبَح في شريعة قط، ولم يجز في ملة قط.

ومن تأمل في كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-؛ عرف هذا الأمر معرفة بيِّنة، وهو -بحمد الله تعالى- من المعروف لدى المسلمين جميعا؛ ولكننا نذكِّر في مقامنا هذا بجملة من الآيات والأحاديث؛ حتى نعرف خطورة الأمر.

يقول الله -تعالى- في بيان عقوبة قتل المؤمن: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ [النساء: 93].

هذه عقوبة لا تجدها في ذنب آخر؛ إلا الشرك؛ ولهذا كان القتل أعظم الذنوب -على الإطلاق- بعد الشرك؛ كما ثبت في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: أنه قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟»، قال: «أن تجعل لله نِدًّا، وهو خلقك»، قيل: «ثم أي؟»، قال: «أن تقتل ولدك؛ مخافة أن يطعم معك»، قيل: «ثم أي؟»، قال: «أن تُزَانِي حليلة جارك»؛ فجعل -صلى الله عليه وسلم- القتل أعظم الذنوب -بعد الشرك-؛ ولهذا كان إثمه مغلَّظا، وكانت عقوبته مشددة -كما عرفت-.

ويقول الله -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: 21].

ويقول -تعالى-: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾ [المائدة: 32].

ويقول الله -تعالى-: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 151]، في نظائر أخرى لهذه الآية في الكتاب.

وفي السنة هناك الكثير من الأحاديث، مما يدل على شدة اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الأمر.

فأخرج الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، فذكر منهن: «قتل النفس التي حرم الله -تعالى- إلا بالحق».

وأخرجا من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه؛ ما لم يصب دما حراما».

وأخرجا عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، عن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء».

وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم».

وأخرج ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالكعبة ويقول: «ما أطيبك، وما أطيب ريحك، وما أعظمك، وما أعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده؛ لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله ودمه».

وأخرج الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن؛ لأكبهم الله في النار».

وأخرج الطبراني عن جندب بن عبد الله -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم امرىء مسلم أن يهريقه -كما يذبح به دجاجة-، كلما تعرض لباب من أبواب الجنة؛ حال الله بينه وبينه».

وأخرج النسائي من حديث معاوية -رضي الله عنه-، عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل ذنب عسى الله أن يغفره؛ إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا».

وأخرج الطبراني في «الأوسط» عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يجيء المقتول آخذا قاتله -وأوداجه تشخُب دما- عند ذي العزة، فيقول: «يا رب، سَلْ هذا فيم قتلني»، فيقول: «فيم قتلتَه؟»، قال: «قتلتُه لتكون العزة لفلان»، قيل: «هي لله».

وأخرج ابن حبان عن أبي موسى -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا أصبح إبليس؛ بث جنوده، فيقول: «من أخذل اليوم مسلما؛ ألبستُه التاج»، قال: فيجيء هذا، فيقول: «لم أزل به حتى طلق امرأته»، فيقول: «يوشك أن يتزوج»، ويجيء لهذا فيقول: «لم أزل به حتى عَقَّ والديه»، فيقول: «يوشك أن يبَرَّهما»، ويجيء هذا فيقول: «لم أزل به حتى أشرك»، فيقول: «أنت أنت»، ويجيء هذا فيقول: «لم أزل به حتى قتل»، فيقول: «أنت أنت»، ويلبسه التاج».

وأخرج أبو داود عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قتل مؤمنا فاغتبط بقتله [أي: قتله بنفس راضية مطمئنة]؛ لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».

وأخرج أحمد عن أبي سعيد -رضي الله عنه-، عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «يخرج عنق من النار يتكلم، يقول: «وُكِّلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلها آخر، ومن قتل نفسا بغير حق»، فينطوي عليهم، فيقذفهم في حمراء جهنم»؛ نسأل الله السلامة والعافية.

هذا طرف من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تحريم الدماء وسفكها، وقتل الأنفس التي حرم الله -تعالى-؛ وأما الخارجي التكفيري؛ فيضرب بهذا كله عرض الحائط، ولا يلتفت إليه؛ لأن استباحته للدماء قائمة على أصل عنده، وهو التكفير -كما عرفت-، فلولا التكفير؛ لما أراق دما، ولما استباحه، ولما قتل نفسا؛ فالتكفير -إذن- خطير، لو لم يكن فيه إلا استباحة الدماء -بعدما عرفت من تحريمها في الشرع-؛ لكفى به خطرا وإثما ووزرا.

فهذه مقدمة في خطورة تكفير المسلمين بغير حق؛ حتى نعرف أن هذا المعتقد معتقد خطير، آثاره كبيرة عظيمة، لا ينبغي أن نتهاون فيه؛ بل يجب أن نعرف خطورته وأثره؛ حتى نحذره ونحذر أهله.

وفي الختام أقول:

إن التكفير الذي نذمه وننسبه إلى أهل البدع هو -كما ذكرت في كلامي مكرَّرا، وكما يذكر أهل العلم-: التكفير بغير حق.

فلا يفرحنَّ علماني خبيث، ولا ليبرالي بغيض؛ بأننا ننكر التكفير على أهل البدع، ونقول: إنهم يكفِّرون ويفعلون ويفعلون؛ لا يفهمن أحد من ذلك أننا ننكر التكفير جملة؛ كلا؛ بل هناك تكفير بحق؛ كما قلت آنفا: هناك ما يسمى بأحكام الردة، فهناك -إذن- ردة؛ أم أن الأحكام تُرتَّب على وهم لا حقيقة له؟!

فهناك في الإسلام أحكام، يقال لها: «أحكام الردة»، وهناك قواعد تضبط التكفير والإخراج عن ملة الإسلام؛ لأن التكفير -كما يقول أهل العلم-: حق الله -تعالى- وحده؛ لأن الدين دينه، ولأن الشريعة شريعته، فالدخول والخروج منها ليس لأحد من الناس، ليس لأحد من الناس أن يدخل في الإسلام من يشاء، ويخرج منه من يشاء؛ ولهذا كان باب التكفير توقيفيا محضا، لا يجوز فيه عقل، ولا قياس، ولا هوى، ولا نحو ذلك؛ بل لا بد فيه من النص.

التكفير -كما يقول العلماء- لا يجوز إلا بشرطين أساسين:

الشرط الأول: أن يأتي المسلم أمرا، دل الشرع على أنه كفر: أن يقول قولا، أو يعمل عملا، أو يعتقد عقيدة؛ دل شرعنا على أن هذه الأشياء كفر.

فلا يأتينَّ أحد من تلقاء نفسه، ويقول: القول الفلاني كفر، أو العمل الفلاني كفر، أو المعتقد الفلاني كفر؛ هذا ليس لأحد من الناس، والخوارج إنما أُتُوا من هذا؛ فإن تكفيرهم بغير حق يقوم على هذين الأصلين: على التكفير بغير مكفِّر، وعلى الخلل في الأمر الثاني، الذي هو: مراعاة الشروط والموانع -عند تكفير الأعيان-.

فقد يدل شرعنا على أن قولا من الأقوال كفر، أو أن عملا من الأعمال كفر، أو أن عقيدة من العقائد كفر؛ وليس كل من وقع في شيء من هذه الأشياء يكون كافرا، فهناك نظر إلى المسلم المعين الذي واقع شيئا من المكفرات: هل يخرج هذا الشخص بعينه عن الملة أم لا؟ هذا مقام آخر، لا بد من النظر فيه إلى شروط تُستَوفَى، وموانع تنتفي.

فالخوارج عندهم خلل في هذين الأمرين: يكفِّرون بغير مكفِّر، ولا يراعون الضوابط الشرعية -عند التكفير بالمكفِّر-، وهذا هو سنتناوله تفصيلا -إن شاء الله تعالى-.

وأما التكفير المنضبط، الذي يكون باستيفاء الشروط، وانتفاء الموانع، ومعرفة القواعد الشرعية؛ والذي يصدر من أهل العلم الراسخين؛ فهو حق، لا يجوز إنكاره، ولا رده، ولا تحريفه، ولا إبطاله، ولا يجوز إبطال أحكام الردة تحت أي مسمى؛ يقال: «حرية اعتقاد»: هذا مرفوض؛ يقال: «حرية أديان»: هذا مرفوض؛ يسوغ للمسلم أن يتهوَّد، أو يتنصَّر، أو يصير بهائيا أو قاديانيا، أو غير ذلك: هذا مرفوض؛ تحت أي مسمى، ولو كُتب في أي شيء؛ لا بد أن يُعرَف هذا جيدا.

فنحن ننكر الانحراف، ننكر الغلو في التكفير؛ ولكننا لا ننكر أصل التكفير، فهناك أناس كفار مشركون، لا يعبدون ربنا، ولا يؤمنون بنبينا ولا بديننا؛ فهؤلاء لهم أحكام، نتعامل بها معهم.

وهناك أناس من المسلمين يتركون دينهم -والعياذ بالله-: يتهوَّدون، أو يتنصَّرون، أو يتمجَّسون، أو ينتقلون إلى أية ملة أو أي دين؛ فهؤلاء لهم أحكام، ولا يجوز أن يُقَرُّوا على ذلك أبدا.

ليس هناك في ديننا ما يسمى بـ«حرية الاعتقاد»، فرقٌ بين حرية الاعتقاد، وبين «لا إكراه في الدين»؛ حتى لا يلبس عليك أهل الجهل، وسنفصل الكلام في هذا -إن شاء الله- عندما ننتقل إلى العلمانية الخبيثة؛ فتربصوا.

«لا إكراه في الدين»؛ أي: لا نكره غير المسلم على الدخول في الإسلام، من أراد أن يبقى يهوديا؛ فليبق يهوديا، ومن أراد أن يبقى نصرانيا؛ فليفعل، من أراد أن يبقى مجوسيا؛ فليفعل، لا نكرهه على الدخول في ديننا؛ ولكن من دخل في ديننا فله شأن آخر، لا يجوز لمن أسلم وصار من أهل هذه الملة أن نبيح له أن يتركها، لا يجوز لمسلم أن يرتد، ولا يجوز له أن يترك دينه، ولا يجوز له أن يصير يهوديا أو نصرانيا أو غير ذلك؛ ولو أنه فعل؛ فهناك أحكام نتعامل بها معه -كما سمعتم آنفا-.

فانتبهوا -إخوة الإسلام-، ولا تغتروا بالدعايات الباطلة، التي تشوه ديننا، وتضيع أحكامه ومبادئه؛ ونسأل الله -تعالى- أن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ علينا ديننا وعقيدتنا ومنهجنا؛ حتى نلقاه عليها -وهو راض عنا بمنه وكرمه-.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت