التحذير <"/>
الدرس الثاني والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الثالث والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الرابع والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الخامس والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس السادس والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس السابع والعشرون، وهو الأخير - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو حرمة أكل المال بالباطل - خطب عامة الحياء 1446 - خطب عامة لغة القرآن والحفاظ على الهوية - خطب عامة صناعة العقول بين الاستقامة والانحراف - خطب عامة
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :567265
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الثانية عشرة والأخيرة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير

المقال
تفريغ الخطبة الثانية عشرة والأخيرة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير
3714 زائر
23/11/2013
أبو حازم القاهري السلفي

التحذير

من دين الخوارج

وخطر التكفير

(الخطبة الثانية عشرة والأخيرة)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فنواصل -إخوة الإسلام- كلامنا على شروط التكفير وموانعه، وقد ذكرنا الشرط المتعلق بالعلم، وذكرنا أنه ينافي أمرين: الجهل والتأويل، وتكلمنا على قضية الجهل، وهذا أوان الكلام على قضية التأويل.

فالتأويل في نفسه -إخوة الإسلام- له معانٍ عدة، المناسب منها للمقام: التفسير، فتأويل الشيء تفسيره، يقال: تأويل الآية الفلانية، أي: تفسيرها، وتأويل الحديث الفلاني، أي: تفسيره، والمراد هنا -فيما يتعلق بالمانع من التكفير-: سوء الفهم، بأن يفسر المسلم شيئا على خلاف ما هو عليه، ويفهمه على خلاف ما هو عليه، فهذا هو المراد معنا بالتأويل -كمانع من التكفير-.

والدليل على كون التأويل مانعا -على ما وصفت-: أنه من جملة الخطأ، وقد عفا الله -تعالى- عن الخطأ، فقال -جل وعلا-: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، وفي الحديث الثابت عند مسلم أن الله -تبارك وتعالى- قال: «قد فعلت».

ويقول -جل وعلا- أيضا: ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [الأحزاب: 5].

ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله تجاوز لأمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه».

فهذه نصوص بينة في الإعذار بالخطأ، والتأويل من جملته، فهي دالة إذن على الإعذار بالتأويل.

والوقائع التي وقع فيها الإعذار بالتأويل كثيرة، منها:

ما ثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث خالد بن الوليد -رضي الله عنه- إلى بني جُذَيمة، فلما أتاهم، لم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، ففهم خالد -رضي الله عنه- أنهم باقون على كفرهم؛ لأن هذه الكلمة إنما كانت تطلق على البقاء على الكفر، فجعل -رضي الله عنه- يقتل فيهم ويأسر، فلما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك قال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد».

موطن الدلالة: أن خالدا -رضي الله تعالى عنه- استحل دماء المسلمين وأموالهم، واستحلال حرمة المسلم لا شك أنه كفر، ولكنه إنما استحل ذلك بتأويل، فعُذر به، ولم يحكم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بمقتضاه.

ومن الوقائع أيضا: ما ثبت على عهد عمر -رضي الله تعالى عنه- أن نفرا من الصحابة -قدامة ابن مظعون وغيره -رضي الله عنهم- شربوا الخمر مستحلين لها، ومتأولين قول الله -تعالى-: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ﴾ الآية [المائدة: 93]، فظنوا أن الخمر حلال لهم، وقد عرفنا أن استحلال المعصية كفر، ومع ذلك فقد عُذر أولئك الصحب -رضي الله عنهم- بتأويلهم، وأجمع الصحابة في عهد عمر -رضي الله عنه- على أنهم إن أقروا بالتحريم عوقبوا، وإن أصروا على الاستحلال كفروا، فلم يكفروهم بادي الرأي، لمكان تأويلهم الذي حصل لهم.

ومن تتبع هذا في الأمة -كما قال العلماء- عرف أنه كثير، فكم من عالم من علماء الأمة قد استحل نوع محرم بتأويل، فمنهم من استحل نوعا من الربا، ومنهم من استحل المتعة، ومنهم من استحل نوعا من الأشربة المسكرة، ومنهم من استحل الدماء في قتال الفتن، وعُذروا جميعا بذلك؛ بل عُدُّوا من المجتهدين المخطئين الذين لهم أجر واحد، فانعقد إجماع الأمة في حق هؤلاء على أنهم لا يكفرون بمجرد استحلالهم لهذه المعاصي والمحرمات، فدل كل هذا على أن التأويل عذر يمنع من التكفير.

وكما ضبطنا قضية الجهل؛ فإننا نضبط قضية التأويل.

قال أهل العلم: شرط التأويل الذي يُعذر به المسلم: أن يكون لغير تقصير وتفريط في معرفة الحق، فمن بذل وسعه في معرفة الحق، وطلبه -صادقا فيه، وفي معرفته وتحصيله-، ثم تأول فأخطأه؛ فهذا هو الذي يُعذر، وأما المتأول المفرط، المقصر، المعرض عن الحق، صاحب الهوى؛ فهذا لا يُعذر بتأويله؛ كما أنه لا يُعذر بجهله.

ومن لوازم ذلك -كما نبه عليه العلماء-: أن المتأول الذي يستمر معه تأويله -بعد اتضاح الحجة له- لا يُعذر، وهكذا شأن عامة الكفار والمبتدعين، تجدهم يستمر معهم تأويلهم، ولا يرتفع عنهم، وبه يبقون متمسكين بضلالاتهم وانحرافاتهم، ولم يُعذروا بذلك، فنحن لا نعذر أحدا من الفرق الضالة، ولا نعذر أحدا من المبتدعين الظاهرين المعروفين، ولا نعذر أحدا من الكافرين الأصليين الذين بلغتهم دعوة الإسلام؛ مع وجود التأويل في حق هؤلاء جميعا.

قال أهل العلم: لأن تأويلهم هذا لا ينفعهم مع تقصيرهم في معرفة الحق وطلبهم له، ومع اتضاح المسائل والأصول لهم، فمن حصل له ذلك، واستمر معه تأويله؛ فإنه لا يُعذر به.

وقال أهل العلم -أيضا-: شرط التأويل: أن يكون له وجه في لغة العرب، فيخرج بذلك تأويلات الباطنية وفروعها، الذين يصرفون الشريعة عن ظاهرها، ويقولون: لها ظاهر وباطن، وهم في ذلك على غير سنن العربية، فيقولون: الصيام هو حفظ سر الطائفة، والزنا هو إفشاء سر الطائفة، إلى غير ذلك مما لعلنا قد ذكرناه من قبل؛ فهذا تأويل لا يثبت به العذر -باتفاق العلماء-؛ لأنه ليس له وجه في لغة العرب، فصاحبه ظاهرٌ ضلاله، واضحٌ خطؤه، بيِّنٌ تكلفه وتنطعه، ومثل هذا لا مجال له في الإعذار قط.

فهذا هو حاصل الكلام على قضية التأويل.

ومن شروط التكفير -أيضا-: القصد، ونعني به ما هو مناف للخطأ.

والدليل على ذلك ما ذكرته آنفا من النصوص في الإعذار بالخطأ، فإذا وقع المسلم في كفر عن غير قصد؛ فإنه يُعذر به.

ومن النصوص الدالة على ذلك: الحديث المعروف الثابت في الصحيحين: أن رجلا ضل راحلته في فلاة، حتى أيس من النجاة، ولما عثر عليها؛ قال من شدة الفرح: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك»، قال -صلى الله عليه وسلم-: «أخطأ من شدة الفرح»، ولم يكفر بذلك، مع أنه قال كلمة كفر، فدل هذا على أن القصد معتبر.

ولكن ما ضابط القصد؟

قال أهل العلم: هو قصد الشيء، لا قصد ما يترتب عليه.

فالقصد الذي يُعذر به المسلم هو قصد الشيء ابتداء، هو قصد القول أو الفعل ابتداء؛ كما وقع في هذا الحديث: رجل أراد أن يتكلم بكلمة، فسبق لسانه فأخطأ.

ويُدخل العلماء في هذا قضية الإغلاق، والإغلاق هو انغلاق القصد والإدراك على المكلف، فقد يصل إلى حالة معينة -من غضب أو انفعال- لا يدري معها ما يقول، فيخرج منه كلام لا يعقله، ولا يقصده، حتى إذا عرف بعد ذلك أن قال كذا؛ تعجب، وقال: كيف قلته؟! فهذه حالة الإغلاق التي يتنزل عليها هذا الحديث، وهو ما نريده.

وأما حالة الإدراك والوعي؛ فلا يثبت معها العذر في كافة الأبواب -اعتقادا وعملا-، وهذا يكثر الكلام عليه في مسائل الطلاق، فتجد الرجل يقول لمن يسأله من أهل العلم: طلقت امرأتي وأنا غضبان، فنقول له: وهل يطلق الرجل امرأته وهو سعيد؟! لا بد أن يطلقها وهو غضبان، فليس المعتبر عندنا نفس الغضب، وإنما المعتبر الحالة التي يصل إليها الغضب: أكنتَ تعقل ما تقول، أم كنت لا تعقله؟ فإذا كان يدرك ويعي ما يقول؛ فليس بمعذور -مهما اشتد غضبه-، وأما إذا انغلق عليه قصده بالكلية، فسبق لسانه إلى ألفاظ -من غير قصد أصلا، ومن غير إرادة أصلا، ومن غير إدراك ولا وعي أصلا-؛ فهذا هو الذي يُعذر به في كافة أبواب الشريعة.

هذا هو المراد -إخوة الإسلام- عندما يقال: القصد شرط من شروط التكفير، والخطأ مانع من موانعه؛ فلا بد أن يُفهم في هذا الإطار.

وأما قصد ما يترتب على الشيء؛ فلا يُعذر به العبد -وفاقا-.

فمثلا: لو أنه قال كلمة كفر، واعيا لها، مدركا متصورا لها، ثم قال من بعد ذلك: لم أقصد الكفر؛ فهذا هو قصد ما يترتب على الشيء، أو قصد حكم الشيء؛ فنقول له: لست بمعذور، كما لم يعذر من كان قبلك ممن استهزءوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ . لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65-66].

ومن هنا بيَّن أهل العلم أن الهزل ليس بعذر، وأن اللعب ليس بعذر؛ شخص يقول كلمة كفر، أو يفعل فعل كفر، ثم يقول: أنا هازل لاعب!! أي شيء هذا؟! أتهزل في دينك؟ أتهزل مع ربك؟! أتهزل مع نبيك؟! فالأمر خطير، ليس باليسير.

فالقصد المعتبر -إخوة الإسلام- هو قصد الشيء ابتداء، وأما قصد ما يترتب عليه، أو قصد حكمه؛ فهذا لا يُلتفت إليه، ولا يُنظر فيه، ولا يثبت به شيء من العذر.

نسأل الله -تعالى- أن يقيل عثراتنا، وأن يقينا الفتن كلها -صغيرها وكبيرها-.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

من شروط التكفير -إخوة الإسلام-: التذكر المنافي للنسيان، فالنسيان مانع من موانع التكفير.

وقد دل على ذلك ما ذكرناه آنفا من النصوص التي فيها ذكر النسيان -كعذر ومانع من ترتب العقوبة-، ونظائره في الشريعة كثيرة جدا في جميع الأبواب، سواء كان ذلك في اعتقاد أو عمل.

ثم نختم الكلام بالكلام على آخر شرط من شروط التكفير، وهو الاختيار، ونعني به ما هو مناف للإكراه.

فيُشترط للتكفير الاختيار، ويمنع من التكفير الإكراه؛ كما ذكرنا آنفا من نصوص الشريعة، وكما قال ربنا -جل وعلا-: ﴿ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، فبيَّن -سبحانه وتعالى- أن الإكراه عذر ومانع من التكفير، وأن الذي ينشرح صدره بالكفر -والعياذ بالله- يخرج عن دينه، ولا يعود من أهله، ولا يثبت له شيء من الإعذار.

والإكراه له شروط، يذكرها العلماء ويؤكدون عليها، جامعها:

أولا: أن يكون الفاعل قادرا، الفاعل الذي يوقع الإكراه والتهديد لا بد أن يكون قادرا على إيقاع ما يُكره عليه أو يهدد به، وأما إن كان عاجزا، أو كان يغلب على الظن أن تهديده لا يقع؛ فإن الأمر عندئذ يخرج عن دائرة ما نتكلم فيه.

ثانيا: أن يكون الأذى معتبرا في الشريعة، فمن أُكره على محرم -بشكل عام-، من غير أن يكون الأذى في ذلك معتبرا، يُضرب ضربا يسيرا، أو يُحبس حبسا يسيرا، أو يُشتم، أو يُسب، أو يُهان؛ فهذا كله ليس بأذى معتبر، ولا يجوز أن يُترك لأجله شيء من الواجبات، أو يُفعل شيء من المحرمات؛ فكيف بالكفر برب البريات؟! فلا بد أن يكون الأذى معتبرا في الشريعة، ولا بد أن تكون المشقة الحاصلة به مشقة معتبرة، وهذا له ضوابط يعرفها العلماء وأهل الأصول.

ثالثا: أن يكون المفعول به معدوم الحيلة، لا يستطيع أن يتخلص من هذا الإكراه الحاصل به، لا يستطيع الهرب -مثلا-، لا يستطيع التخلص -بأية صورة من الصور-، فمتى قدر على التخلص؛ فلا إكراه، كيف يُتصور أنه مكرَه، وهو قادر على الخلاص والهرب، أو تجنب ما يمكن أن يقع به من الضرر والشر؟!

رابعا -وهو نص الآية-: أن تكون الموافقة ظاهرة لا باطنة ﴿ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، فالمكره إذا أُكره على شيء من الكفر؛ فإنه يوافق ظاهرا بقوله أو عمله على الصحيح -فإن بعض العلماء فرَّق بين القول والعمل، والصحيح أن الإكراه يُتصور على الأمرين-، فمن أُكره على كلمة كفر أو عمل كفر؛ فله أن يوافق ظاهرا، مع اطمئنان قلبه بالإيمان؛ كما حدث لعمار بن ياسر -رضي الله تعالى عنه-، عذبه المشركون، وبالغوا في ذلك، حتى وافقهم في بعض ما يريدون بلسانه، فذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «كيف تجد قلبك؟» قال: «مطمئنا بالإيمان»، قال: «إن عادوا؛ فعُد».

وهذا هو معنى التقاة التي ذكرها الله -تعالى- بقوله: ﴿ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ [آل عمران: 28]، وقد شرحنا هذا في الكلام على تقية الرافضة.

فلا بد أن تكون الموافقة ظاهرة، وعليه؛ فلا إكراه في العقيدة، لا يُتصور أن يُكره إنسان على اعتقاد أمر ما بباطنه؛ لأن الباطن أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوصل إليه، ولا يستطيع أن يتعامل معه، فكيف يُلحق به شيئا من الضرر أو الشر؟! ولو أنه قال له بلسانه: أنا أعتقد كذا، فيمكنه أن يضمر في قلبه ما هو بخلاف ذلك.

والعلماء هنا يفرقون بين الإكراه والخوف، فتجد في كلامهم: أنه لا يُعذر من كان خائفا، وفرقٌ بين الأمرين؛ لأن الخوف لا يستلزم الإكراه، قد يخاف العبد من ضرر يحيق به وليس ضررا معتبرا، وقد يخاف من ضرر يتصور أنه يحيق به ولن يقع به أصلا، وإنما هو توهم؛ فهذا لا يدفعه إلى اقتراف شيء من المحرمات؛ فكيف بالكفر بالله -عز وجل-؟! فلا بد أن نفرق بين الخوف والإكراه، الإكراه حالة مخصوصة، لها شروط بيِّنة، لا يجوز أن يُخلط بين الأمرين.

نختم الكلام -إخوة الإسلام- بالتنبيه على أمرين -بالنسبة لإقامة الحجة في مسائل الدين عموما-، ونحن نحتاج إلى معرفة هذا، لاسيما طلبة العلم؛ فإن الأمر بالنسبة إليهم يتأكد؛ لعظم ما يلابسونه من الفتن والمشكلات.

فأما الأمر الأول؛ فهو صفة قيام الحجة: متى يصدق على العبد أنه قد قامت عليه الحجة -في أية مسألة من مسائل الدين-؟

قال أهل العلم: تقوم الحجة على العبد إذا بلغته، فلم يعد لديه ما يدفعها به.

فلا بد أولا من البلاغ -كما تكلمنا عليه في قضية العلم-، ولا بد -بالنسبة للتأويل الذي أشرنا إليه- ألا يكون معه ما يدفع به هذه الحجة.

وهذا يتحقق بأحد أمرين: إما السكوت والانقطاع، بأنه لا يجيب أصلا، ولا ينبس ببنت شفة، تُذكر له الحجة والدليل، فينقطع لا يتكلم.

إما هذا، وإما الاستمرار في التأويل الفاسد، بأن يستمر في الجدل، والمراء، والخصومة، وعينُ ما ذكرتَه له قد أجبتَه عليه، وانتهت القضية؛ وقد عرفنا أن استمرار التأويل لا يثبت العذر؛ بل ينفيه.

فالذي يقع له هذا الأمر: إذا بلغه الحق، فلم يكن لديه ما يدفعه به؛ فقد قامت عليه الحجة، ولابد أن يعرف هذا جيدا، فإنه مسئول بين يدي الله -عز وجل-، يُسأل عن اعتقاده وعمله، يُسأل عن دينه ومنهاجه، ولن يغني عنه إنسان من الله -تعالى- شيئا؛ فلا يتعلقنَّ أحد بشخص، ولا يرتبطنَّ بمخلوق، ولا يعظمنَّ أحدا دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد تكلمنا في هذا بما فيه الكفاية -وزيادة-.

وأما الأمر الثاني؛ فهو صفة من يقيم الحجة: من الذي يقيمها؟ وهل يصلح لذلك كل أحد؟ وهل يصلح هذا في جميع المسائل؟

الجواب فيه تفصيل -كما بين أهل العلم-، فلا يُطلق القول في جميع مسائل الدين، وفي جميع الأحوال التي تعرض للعبد: أنه لا بد من شخص بعينه يقيم عليه الحجة.

والعلماء عندما يطلقون أن الحجة لا يقيمها إلا العلماء؛ فمرادهم بذلك من حيث الأغلب، وإطلاقاتهم تُرَدُّ إلى تفصيلاتهم، وهذه هي القاعدة في التعامل مع كلام أهل العلم.

فقد نكون في حالة معينة في مسألة معينة، يصلح لإقامة الحجة فيها أصغر المسلمين؛ لا أقول: طالب علم، بل يصلح لإقامة الحجة فيها طفل، صبي، لم يبلغ الحلم.

وهذا له وقائع عند السلف كثيرة، وكم من موقف أقام فيه الحجة على مبتدع طفل صغير؛ كما يُذكر أن نفرا دخلوا على عمرو بن عبيد -رأس المعتزلة-، فكان يتكلم في قضية الوعيد، وقد عرفنا -في اعتقاد الخوارج والمعتزلة- أنهم يوجبون الوعيد، فمن أتى عندهم ذنبا؛ كان لا بد أن يعاقب، وكان لا بد أن يخلد في نار جهنم أبدا؛ فكان عمرو -بزعمه- يستدل على ذلك، وسلك في ذلك طريقة فجة قبيحة، فقال: «يؤتى بي يوم القيامة، فأقف بين يدي الله -تعالى-، فيقول لي: لم حكمتَ بكفر القاتل؟ فأقول له: أنت الذي حكمت [انظر! المبتدعة أجرأ الناس على الله]، قال: فأقول: أنت الذي حكمت ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ﴾ الآية [النساء: 93]»، فقام له أصغر القوم، أُراه قريش بن أنس -رحمه الله-، فقال له: «فما تقول إن قال لك -يعني الرب سبحانه وتعالى-: قد قلتُ في كتابي: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]؟!»، فانقطع ولم يجب!

أفيُقال في هذه الحالة: لا بد من عالم حتى يقيم عليه الحجة؟

فكل أمر بحسبه، وكل مسألة بحسبها، ولا بد من النظر في حال المعين، وما عنده من التأويلات والشبهات والتلبيسات، ولا بد من إعطاء كل مسألة حقها، فقد نكون في حالة معينة يكفي فيها لإقامة الحجة طفل صغير، أو طالب علم، لا يكون فيها من الأعذار والتأويلات والشبهات ما يستلزم عالما، حتى تحصل مناظرة أو مناقشة أو نحو ذلك.

فلا بد أن نفرق بين الأمور -بارك الله فيكم-، ولا يسوغ أن يُعترض على كل من أقام حجة الله -تعالى- في الأرض بأنه ليس عالما، وأنه لا بد أن يؤتى بعالم حتى يرد الخطأ، ويحذر من الباطل!! هذه مقولة ما أفسدها في دين الله -عز وجل-، الذي يقول: لا يرد على الخطأ إلا العلماء؛ إنما هو رجل ضال مضل، مفسد في الأرض وفي دين الله -عز وجل، لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ويريد للدين أن يصير كلأ مباحا لكل من هب ودب.

فدعوا أهل الحق يأمرون وينهون، ودعوهم يقيمون حجة الله -تعالى- على خلقه، ولا تكونوا من المخذِّلين الملبسين.

وفي الختام -وهذا تمام رحلتنا مع الخوارج-: نحذر من التكفير بغير حق.

احذروا تكفير المسلمين، احذروا إراقة دماء المسلمين، احذروا هذه الأفكار الضالة والمذاهب المنحرفة، مهما تاجر أصحابها بالدين، ومهما تكلموا بـ: قال الله، قال الرسول، ومهما رأيت لحاهم قد بلغت الأرض، أو قُمُصَهم قد بلغت ركبهم!

لا تنخدعوا بهم؛ فإنهم لن يكونوا أفضل من الخوارج الأُوَل، الذين قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، وعمله إلى عملهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».

فلا تنخدعوا، إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فتِّشوا في جميع من يتكلم أمامكم: أهو على الحق أم لا؟ ليس كل من كلمك بدين الله -تعالى- كان على الحق، وليس كل من أفتاك في الدين كان على الحق، وليس كل من خاطبك بالقرآن والسنة كان على الحق.

نحن في محنة شديدة، نحتاج فيها إلى استعانة بالله -عز وجل-، ولجوء إليه، ودعاء، وصبر؛ حتى يبصرنا بالحق، ويميزه لنا عن الباطل والضلال.

هذا آخر وصيتي إليكم؛ فإننا سننتقل إلى معسكر آخر تماما، معسكر بني علمان، الذين يرفضون الدين، ويدعون إلى نبذه وهدمه؛ فأرجو ألا أضطر إلى العودة إلى المعسكر الأول.

نرجو -إن شاء الله تعالى- أن تؤتي النصيحة ثمرتها، وأن نستوعب الدرس الذي مر بنا -وهو درس قاس-، في هذه التجربة التي مرت بها بلادنا وبلاد الإسلام؛ لا بد أن نستوعب الدرس، ولابد أن نفهمه ونستفيد منه؛ لئلا نكرر الأخطاء، وندفع المزيد من الدماء والأعراض والفتن.

فدعوكم من هؤلاء، وعليكم بأهل الحق، الذين يتكلمون بالحجج والأدلة الموافقة للحق والصواب، والذين ظهر تصديق كلامهم في الفتن، فكانوا أعلم الناس.

نسأل الله تعالى أن يقينا الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، وقنا الضلال كله وأهله يا رب العالمين، وتوفنا على التوحيد والسنة وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين.

أقول ما تسمعون ويغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت