التحذير <"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :540012
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الحادية عشرة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير

المقال
تفريغ الخطبة الحادية عشرة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير
3338 زائر
16/11/2013
أبو حازم القاهري السلفي

التحذير

من دين الخوارج

وخطر التكفير

(الخطبة الحادية عشرة)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فقد انتهينا إلى الكلام على مسائل الكفر، وبيَّنَّا أن التكفير حق الله وحده، لا يجوز الإقدام عليه إلا بإذن وبرهان من الله، وشرحنا ذلك -في إطار الكلام على أقسام الكفر وأنواعه-.

فهذا هو القطب الأول لهذه المسألة، وهو: أن التكفير لا يكون إلا بأمر دل الشرع على أنه كفر.

ويبقى القطب الثاني، وهو المتعلق بتنزيل أحكام التكفير على الأفراد المعيَّنين من المسلمين.

وقد ذكرنا أن هذا الأمر لا بد فيه من إقامة للحجة -باستيفاء للشروط، وانتفاء للموانع-، ولابد من الفرق بين الإطلاق والتعيين، فيقال: من اعتقد كذا، أو قال كذا، أو فعل كذا -من المكفرات-؛ فهو كافر؛ ولكن تنزيل هذا الحكم -وتوابعه من الأحكام التي عرفناها- لا بد فيه من نظر في حال هذا المعين، فالتكفير له شروط لا بد من وجودها، وله موانع لا بد من عدمها.

وهذا الأمر هو ما نُعْنَى ببيانه الآن -بحول الله وقوته-.

فأول شروط التكفير: التكليف، بأن يكون المرء مسلما، بالغا، عاقلا.

فأما الإسلام؛ فهذا أمر جلي؛ لأننا إنما نتكلم على تكفير المعين من المسلمين، فلا بد أن يكون المرء مسلما من الأساس، وأما الكافر الأصلي؛ فلا محل له في كلامنا؛ فإنه يُعامل بأحكام الكفر في هذه الدنيا -من غير إشكال-، سواء بلغته دعوة الإسلام أم لا، وأما في الآخرة؛ فإن كانت الدعوة قد بلغته؛ فهو معامَل بأحكام الكفر في الآخرة، وإن لم تكن الدعوة قد بلغته؛ فإنه يُمتحن في عرصات القيامة -كما دلت عليه الأحاديث-.

فلا بد من الإسلام، ولا بد من البلوغ، فلا ردة لصبي، ولا بد من العقل، فلا ردة لمجنون، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «رُفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ»، فهذه الأصناف لمَّا انعدم إدراكها وتمييزها؛ لم يجز إجراء شيء من الأحكام عليها -من جهة التأثيم-، فلو أن صبيا وقع في كفر، ولو أن مجنونا وقع في كفر؛ فلا يُحكم بكفرهما ولا ردتهما؛ لانعدام التكليف، والتأهيل الذي يؤهل المسلم لتلقي الخطاب الشرعي.

وأما الشرط الثاني من شروط التكفير؛ فهو العلم، ونعني بالعلم: ما هو مناف لأمرين: الجهل، والتأويل.

وسنتكلم اليوم -إن شاء الله تعالى- على قضية الجهل.

فالعلم الذي يُشترط في إيقاع التكفير هو: العلم بالحجة الشرعية والحكم الشرعي في المسألة المعينة، فالذي لا يعرف الحكم في المسألة؛ فهو امرؤ جاهل، لا يتنزل عليه الحكم بالتكفير -إن وقع في شيء منه-.

وقد تظاهرت النصوص بالدلالة على ذلك، وأنه لا مؤاخذة إلا بعد العلم وبلوغ الحق.

فالله -تبارك وتعالى- يقول: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19]، فجعل النذارة مبنية على البلاغ، فمن لم يبلغه الأمر إذن فليس بداخل في هذا الخطاب.

ويقول -تعالى-: ﴿ رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165]، فجعل الحجة مرتهنة بالرسل وبعثتهم، فمن لم يبعث إليه رسول؛ فلم تقم الحجة عليه، ومن لم يبلغه الحق في المسألة المعينة؛ فلم تقم الحجة الرسالية التي ذكرها الله.

ويقول -تعالى- أيضا-: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [الإسراء: 15]، ويقول -تعالى-: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [القصص: 59]، ويقول -تعالى-: ﴿ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 47]، ويقول -جل وعلا-: ﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ﴾ [طه: 134].

فهذه كلها آيات محكمات بينات، تدل على أنه لا بد من بلوغ الحق، والعلم به -في حق المعين-، وأنه إذا انتفى عنه ذلك؛ فليس مؤاخَذا، ولا معذَّبا.

وقد دلت السنة على هذا -أيضا-، وبيَّنت -في وقائع شتى- أن الحكم بالتكفير يتخلف -عند عدم بلوغ الحق واتضاحه-.

فمن ذلك: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤكِّدا ما سبق بيانه في الآيات السالفة الذكر-: «والذي نفسي بيده؛ لا يسمع بي أحد من هذه الأمة -يهودي ولا نصراني-، ثم لا يؤمن بالذي أُرسلت به؛ إلا كان من أصحاب النار»، فجعل -صلى الله عليه وسلم- هذا الحكم موقوفا على السماع به وبرسالته -صلى الله عليه وسلم-، فمن لم يسمع به، ولا برسالته؛ فليس داخلا في هذا الحكم.

ومن الوقائع التي بيَّن فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لا تكفير مع الجهل: الحديث الذي أخبر فيه رجل ممن كان قبلنا، أسرف على نفسه، حتى إذا حضره الموت؛ قال لبنيه: «إذا أنا مِتُّ؛ فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذرُّوني في الرياح؛ فوالله لئن قَدَر الله عليّ؛ ليعذبنِّي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين»، ففعلوا ذلك، فأمر الله -تعالى- كل ذرة رمل، وكل نقطة ماء، فاجتمع ما عليها من رفات الرجل وبقاياه، ثم قال له: كن، فكان؛ قال: «ما حملك على ما فعلتَ؟»، قال: «يا رب، خشيتك»، فغفر له.

قال أهل العلم: هذا رجل وقع في أمرين مكفِّرين:

أحدهما: الشك في قدرة الله -عز وجل-؛ قال: «لئن قدر الله عليّ».

الأمر الثاني: الشك في المعاد، أن الله -تعالى- يعيده كما كان؛ بل اعتقد أنه لا يعاد، واعتقد أن صنيعه ذلك يخرجه عن إعادته مرة أخرى كما كان.

ومعلوم أن من شك في قدرة الله -تعالى-؛ فهو كافر، وأن من اعتقد أن الله لا يعيده كما كان؛ فهو كافر، وقد دلت النصوص القطعية في الشريعة على أن من لقي الله -تعالى- بكفر؛ فلا مغفرة له، ومع ذلك قد غفر الله -تعالى- لذلك الرجل.

قال أهل العلم: لأنه كان جاهلا؛ عندما شك في قدرة الله، وعندما اعتقد أنه لا يعاد؛ كان جاهلا بذلك، فعذره الله -تعالى-، فغفر له.

ومن الأحاديث -أيضا-: حديث ذات أنواط، الذي رواه أبو واقد الليثي -رضي الله تعالى عنه-، قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، فمررنا بشجرة يعكف عليها المشركون، وينوطون بها أسلحتهم [أي: يعلقون عليها أسلحتهم]، يقال لها: ذات أنواط [والأنواط جمع نَوْط، وهو ما يعلق فيه الشيء]، قال: فمررنا بشجرة أخرى، فقلنا: «يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط -كما لهم ذات أنواط-»، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الله أكبر! إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿ اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138]، لتتبعن سنن من كان قبلكم».

فبيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الذي طُلب منه هو كالذي طلبته بنو إسرائيل من موسى -عليه السلام- عندما قالوا: ﴿ اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾، فهذه دلالة بينة على أن الذي طُلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من قبيل الشرك الأكبر، ومع ذلك فقد عذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أولئك الصحب؛ لحداثة عهدهم بالإسلام، وخفاء المسألة عليهم.

ومن الأدلة -أيضا-: حديث حذيفة -رضي الله عنه- في ذكره لأناس يكونون في آخر الزمان، قال في صفتهم: «يكون في آخر الزمان المرأة العجوز، والشيخ الكبير، يقولون: «لا إله إلا الله»، ولا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا حج؛ يقولون: «أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، فنحن نقولها»، قال أحد أصحابه -وهو صلة بن زُفَر-: «ما تغني عنهم «لا إله إلا الله»، وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا حج؟»، فأعرض عنه، ثم قال له: «يا صلة، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار».

قال العلماء: هؤلاء الناس الذين ذكر صفتَهم حذيفةُ -رضي الله عنه- اعتقدوا أنه لا تكليف في الإسلام، وأن الإسلام هو «لا إله إلا الله»، ومن اعتقد ذلك؛ فهو كافر، من اعتقد عدم وجوب الصلاة، أو الصيام، أو الحج، أو غير ذلك من تكاليف الإسلام المعروفة الظاهرة؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ومع ذلك عُذروا؛ لخفاء الأمر عليهم، وعدم وصول الحق إليهم في تلك الفترة المظلمة، التي تكون في آخر الزمان، وأثبت لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- النجاة من النار، والحديث له حكم الرفع.

ومن الأدلة أيضا -وبه نكتفي-: ما ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في عُرس، ومعلوم في شأن الأعراس أن النساء ينشدن الأناشيد المباحة، فسمع جارية تنشد وتقول: «وفينا نبي يعلم ما في غد»، فقال: «دعي قولك هذا، وقولي بما كنت تقولين».

فهذه امرأة أثبتت للنبي -صلى الله عليه وسلم- علم الغيب، وهذا الأمر كفر -كما شرحناه-، ومع ذلك عذرها النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لعدم علمها بهذه المسألة.

فهذه نصوص واضحة -في الكتاب والسنة- تثبت الإعذار بالجهل في مسائل التكفير، وأن المرء إذا وقع في كفر، وهو لا يعلم أنه مخالف للشريعة أصلا، ولم يبلغه الحق فيه من الأساس؛ فهو معذور، لا يُحكم بكفره، ولا ردته، ولا يُعامل بمعاملة الكافرين؛ نسأل الله -تعالى- أن يقينا الفتن كلها.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوة الإسلام -عباد الله-، إن قضية الجهل التي ذكرناها -كمانع من موانع التكفير- لا بد من ضبطها ببعض الضوابط؛ حتى تستوي المسألة وتُعرف، ولا يدخلها شيء من الخلل؛ فإنه ليس كل جهل يثبت به العذر، فهناك جهل لا يرفع المؤاخذة عن المسلم، ولا يرفع عنه الحكم الشرعي الذي ينطبق عليه إذا وقع في أية مخالفة -من كفر أو بدعة أو معصية-.

والمسألة من الدقائق، التي لا ينبغي الخوض فيها لغير المتأهلين، وخوضُ الجهلة فيها يؤدي إلى شر عظيم -إفراطا أو تفريطا-، فالجاهل الذي يخوض في هذه المسألة قد يعذر من ليس بمعذور، ومن ناحية أخرى: قد يؤاخذ من هو معذور؛ فلا بد من ضبط المسألة وتحريرها وتفصيل القول فيها، وقد اعتنى العلماء ببيان ذلك -والحمد لله-، فلم يتركوا مجالا لجاهل ولا مفتون.

فبيَّن أهل العلم أن الجهل على قسمين: جهل من جهة العلم، وجهل من جهة العمل.

فأما الجهل الذي هو من جهة العلم؛ فهو عدم المعرفة بالشيء، وعدم بلوغ الحق للمعين، بأن يقع المسلم في شيء -وهو لا يعرف الحكم فيه أصلا-؛ فهذا النوع من الجهل هو الذي يثبت به العذر، ويسري عليه ما ذكرناه من الكلام.

وأما الجهل الذي هو من جهة العمل؛ فهو الذي يكون مع حصول العلم، وبلوغ الحق إلى المعين؛ ولكنه يترك العمل به -على وجه التفريط والكسل-.

وصورة ذلك: أن يعلم المسلم الحق في مسألة معينة، ويبلغه الصواب فيها، ثم لا يعمل بمقتضى ذلك؛ ركونًا إلى إلف العادة، أو اتباعا للآباء والأجداد، أو استجابة لعلماء السوء؛ فمثل هذا لا يرفع عنه المؤاخذة، فالعبرة ببيان الحق، وبلوغه للشخص، فمتى بلغه الحق؛ فقد ارتفع عنه الجهل، ولا يصدق عليه أنه جاهل -من جهة المنافاة للعلم-، وإنما يسمى جاهلا من جهة عدم العمل بالعلم، وهذا جهل لا يثبت العذر؛ بل ينفيه.

والله -تبارك وتعالى- سمى المشركين كثيرا في كتابه بأنهم جاهلون، وأنهم لا يعلمون، وأنهم لا يفقهون؛ فوجهُ ذلك -عند العلماء- ليس ما يعود إلى العلم، وإنما هو ما يعود إلى العمل، فقد أتاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبُعث إليهم بالهدى والحق، وبلغهم دين الله -عز وجل-، وقامت عليهم حجته؛ ولكنهم تركوا الانقياد والاتباع؛ ركونا إلى إلف العادة، واتباعا لسنة الآباء والأجداد، وتقليدا لهم، فلم يعذرهم الله -تعالى- بذلك، وحكم عليهم بالكفر، وسماهم جهلة -من هذا الوجه الذي بيَّناه-.

وعلى هذا الوجه يتنزل ما بيَّنه العلماء من حال المشركين قبل البعثة، فقد ثبت في بعض النصوص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المشركين قبل بعثته لم يكونوا في زمن فترة تُرفع عنهم فيه المؤاخذة، فثبت في «صحيح مسلم» أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «يا رسول الله، أين أبي؟»، فقال: «في النار»، ثم ولى -أي: الرجل-، فدعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له: «إن أبي وأباك في النار»؛ وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أيضا أنه قال: «استأذنت ربي أن أزور قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها، فلم يأذن لي»؛ فهذا دليل بيِّن على أن المشركين قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكونوا معذورين.

قال العلماء في بيان ذلك: لأن ملة إبراهيم -عليه السلام- كانت موجودة فيهم معروفة، وكانوا يعرفون أنهم يخالفونها، ويعدلون عن سننها؛ ركونا إلى عادة الآباء ونحو ذلك.

والدليل على هذا: أنه وُجد غير واحد من العرب في الجاهلية كانوا على سنة الحنفاء والمسلمين الموحدين؛ ولهذا قيل فيهم «الحنفاء»، منهم: أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه-، وعمرو بن عَبَسة -رضي الله عنه-، وزيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهم؛ فهؤلاء -مع وجودهم في تلك الفترة الجاهلية- إلا أنهم كانوا على سنة الحنفاء، لم يأتوا الشرك، ولم يفعلوه، ولم يتلبسوا به؛ بل كانوا على جادة التوحيد؛ فمن أين عرفوا ذلك؟ هل بُعثوا قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟! أم أتاهم وحي قبل أن يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم-؟! الجواب: لا، وإنما هي ملة إبراهيم -عليه السلام- كانت معروفة شائعة في العرب.

ومن هاهنا، ومما ذكرته آنفا: بيَّن العلماء -بكل وضوح- أن المفرِّط في طلب الحق ومعرفته -بعد بلوغه إليه- ليس بمعذور، وأن المفرط في العمل به وتطبيقه -بعد بلوغه إليه- ليس بمعذور، وعليه؛ فمن بلغه كلامنا في مسائل الكفر، ومسائل التوحيد والشرك، فضرب به عرض الحائط، ولم يلتفت إليه، وقال: إنا وجدنا آباءنا على أمة، فأنا أفعل مثلهم؛ فهذا غير معذور -بالنص والإجماع-، ولا يُعذر مثل هذا بالجهل، وإنما الذي يُعذر بالجهل هو الذي لم يبلغه الحق أصلا، ولم يعرف الحكم من الأساس؛ فهذا أمر في غاية الأهمية، لا بد أن يُعرف، وبه تنضبط المسألة.

ومن الضوابط أيضا -وهو راجع إلى ما تقدم-: أن العلماء يفرقون بين المسائل الظاهرة، والمسائل الخفية.

فالمسائل الظاهرة: هي التي ينتشر العلم بها عند الكافة، يعرفها الصغير والكبير، والقاصي والداني؛ كالعلم بوجوب الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وتحريم الزنا، والخمر، وقتل الأنفس، ونحو ذلك؛ فهذا علم منتشر بين المسلمين، فيقال في هذه المسائل: مسائل ظاهرة واضحة بينة.

وأما المسائل الخفية؛ فهي التي تخفى على العبد، لا يعرف وجهها، ولا يعرف الحكم فيها؛ لما فيها من الغموض والالتباس.

فالعلماء يقولون: المسائل الظاهرة لا عذر فيها؛ لأنها ظاهرة، ونحن: يثبت العذر بالجهل من جهة عدم العلم، فإذا كان العلم موجودا من الأساس؛ فأي عذر يثبت؟!

فالمسائل الظاهرة هكذا شأنها، فلو أن رجلا ممن يعيش بيننا قال: ليست الصلاة بواجبة، وليس عليَّ أن أصلي؛ فإنه لا يُعذر، ولو أنه ادعى الجهل في ذلك؛ فإنه لا يُسلَّم له؛ لأن المسألة معروفة بينة، لا يمكن أن تخفى عليه.

فالمسائل الظاهرة -من هذه الحيثية- لا يثبت فيها العذر أبدا، ومن خالفها؛ فهو مؤاخَذ -على حسب نوع مخالفته-.

وأما المسائل الخفية؛ فهي كما نقول فيها: خفية، أي: ملتبسة، مشكلة، غير بينة؛ فهذه هي التي يثبت بها العذر.

وضابط ذلك -من الناحية العملية-: أن الظهور والخفاء يختلف باختلاف الأحوال، فالمسألة قد تكون ظاهرة في حال، وخفية في حال، المسألة الواحدة المعينة قد يعتريها الظهور والخفاء بحسب اختلاف الحال.

انظر فيما ذكرنا آنفا من شأن الذين يكونون في آخر الزمان، ولا يعتقدون وجوب التكاليف؛ فهذه المسألة -في نفسها- من أظهر ما يكون، وقد ذكرتُ أن الذي يقع فيها الآن لا يعذر، ومع ذلك فقد اعتراها الخفاء في زمن ما، وفي حق أناس ما، فعُذروا بذلك.

فالمسألة تكون من الأمور الواضحة الجلية في دين الله -عز وجل-؛ ولكن يعتريها الخفاء في حال ما؛ لغربة الحق، وعدم انتشاره ووضوحه -في هذا الحال المعين-.

فهذا أمر في غاية الأهمية -أيضا-، ليس العالم كالجاهل، وليس البصير كغير البصير، وليس العارف كغير العارف، ولا يمكننا أن ننزل مخالفة طلبة العلم -مثلا- كمخالفة العوام من المسلمين؛ فهذا الأمر مما ينضبط به الظهور والخفاء في هذه المسألة.

هذا هو جامع القول -بما يستدعيه المقام-، وقد أفردتُ لذلك محاضرة -والحمد لله-، فمن شاء التفصيل؛ فليرجع إليها.

فحاصل الكلام -أيها الإخوة-: أن العلم شرط من شروط التكفير، وأن الجهل مانع من موانعه، ولا بد أن يفرق بين العلم الذي هو شرط من شروط التكفير، وبين العلم الذي لا يشترط في شأن التكفير، لا بد من ضبط هذه الضوابط، واستحضارها، والتمييز بينها، والقول في ذلك مرجعه إلى أهل العلم -كما سبق أن بيَّنَّا-.

وتبقى قضية التأويل، نتناولها -إن شاء الله تعالى- مع بقية الموانع في الخطبة المقبلة، ونسأل الله -تعالى- الإعانة والتوفيق.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

أقول ما تسمعون، ويغفر الله لي ولكم؛ وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت