طليعة
تهافت العلمانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-،وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن حقيقة العبودية والتدين هي أعظم الحقائق في حياة الإنسان، يقوم عليها وجوده، وتتوقف عليها دنياه، لا يستطيع لها إنكارا، ولا يجد منها فكاكا.
وذلك أنه ينشأ -أول ما ينشأ- على معرفة أن له ربا وإلها، فينظر في نفسه، وفي من حوله وما حوله من الكائنات المخلوقات، فيجد أنه لا بد للجميع من رب وإله؛ هذه حقيقة فطرية، لا يخالف فيها عاقل، ولا ينازع فيها إنسان.
ولهذا قالت الرسل لأقوامهم: ﴿ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [إبراهيم: 10]، فبيَّنوا أن حقيقة الربوبية والألوهية لا تقبل الشك، والدليل شاهد الحس؛ فإن الله -تعالى- هو فاطر السموات والأرض، وكل مخلوق فلا بد له من خالق، وكل محدَث فلا بد له من محدِث.
ولهذا قال -تعالى-: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ ﴾ [الطور: 35-36]، فهي احتمالات لا ريب فيها: إما أن يوجد الشيءُ نفسَه، وإما أن يوجد من غير شيء، وإما أن يوجده موجدٌ؛ فالاحتمالان الأولان لا ريب في بطلانهما، فإنه لا شيء يوجد نفسه، ولا شيء يوجد من غير موجد، فتعين أن تكون الأشياء مخلوقة مصنوعة مربوبة، لا بد لها من خالق وفاطر وإله.
ولما كان الأمر هكذا، ذكره الله -تعالى- كثيرا في كتابه، مقيما به الحجة على من عاند وأبى؛ فإن عناده وإباءه لا يقتصران على ما يعود إلى الشرع؛ بل هما عائدان إلى نفس الفطرة والعقل.
كثيرا ما يخاطب الله -تعالى- المشركين المعاندين في كتابه بأنهم مخلوقون مربوبون، وهم مُقِرُّون بذلك، لا يخالفون في شيء منه ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [الزخرف: 87]، ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 9]، ﴿ قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 84-89]، ﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ . أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ . أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ . نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ . عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ . أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ . أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ . لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ . إِنَّا لَمُغْرَمُونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ . أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ . أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ . لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ . أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ . أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ.نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 57-74].
هكذا -إخوة الإسلام- أقام الله -تعالى- الحجة على الخلق، والقرآن مملوء من هذا، وهو تأكيد للحقيقة التي لا يجادل فيها إنسان له أدنى حظ من فهم وإدراك.
وخالق الكون لا بد أن يكون واحدا، لا شريك له، ولا ند له، ولا منازع له في شيء من ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [الأنبياء: 22]، ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [المؤمنون: 91]؛ أترى شيئا من ذلك في الحس والواقع -أيها المسلم-؟ أترى أن هناك آلهة متنازعة، كل واحد منها يفرض سلطانه وقدرته على الآخر؟ أم ترى الكون في إحكام واستقرار ودقة لا تجد لها مثيلا، ولا تجد فيها شيئا من النقص أو العيب؟ ولا يكون هذا إلا إذا كان خالق الكون واحدا، لا يجوز أن يكون له شريك، ولا منازع، ولا ند، ولا سمي ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1-4].
فإذا عرفت ذلك؛ فلا بد أن تعرف أن هذا الخالق البارئ -جل وعلا- لا يستقيم في حكمته أن يكتفي بخلق الكون هكذا، وتركه -بما فيه ومن فيه- من دون أمر ونهي؛ بل لا بد من الأمر والنهي، ولا بد من الثواب والعقاب، ولا بد من إقامة حق هذا الخالق البارئ، وهو عبوديته وحده لا شريك له.
يقول -جل وعلا-: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص: 27]، ويقول -تعالى-: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ﴾ [الدخان: 38]، ويقول -تعالى-: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، ويقول -تعالى-: ﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]، فهذا لا يستقيم في حكمة الله -عز وجل-؛ بل هو محض العبث واللعب، والخالق البارئ لا بد أن يكون له كل كمال، ولا بد أن يُنزَّه عن كل نقص وعيب، وهذا أمر تشهد به الفطرة، ويقبله العقل.
فلا بد من الأمر والنهي، ولا بد من الثواب والعقاب، ولا بد أن يتوجه الإنسان إلى هذا الذي خلقه وأوجده وبرأه، لا بد أن يتوجه له بحق يقيمه له، وهو العبودية ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21-22]، ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56-58].
هكذا يجب أن تسير حياة الإنسان، لا يجوز أن يظن أنه قد تُرك -بعد خلقه- عبثا وسدى، لا يؤمر ولا يُنهى؛ بل لا بد أن يعرف أن عليه حقا يتوجه به لمن خلقه وفطره وبرأه، لا بد أن يقيم جادة العبودية، فيصرف عبادته لله وحده، لا شريك له، ولا بد أن ينظر في مراد خالقه منه: ماذا يريد منه؟ وماذا لا يريد منه؟ بماذا يأمره؟ وعن ماذا ينهاه؟ لا بد أن يستقيم على هذه الجادة، حتى تقوم جادة الثواب والعقاب، فمن استقام على الصراط، وعمل بما أراده منه ربه؛ فله الثواب، ومن خالف ذلك؛ فله العقاب؛ هكذا تقتضي حكمة الله -عز وجل-، وبغير ذلك يكون الأمر سدى وعبثا ولعبا، يتنزه عنه ملوك البشر؛ فكيف بملك الملوك -جل وعلا-؟
وقاعدة الأمر والنهي -أيها الإخوة- لابد أن تنبني على ما يجيء من عند الخالق الإله -جل وعلا-، فلا أمر ولا نهي إلا على وفق ما يجيء من عنده؛ لأنه هو الخالق الإله، فلا بد أن يكون هو الذي يحكم بين عباده، ولا بد أن يكون هو الذي يشرع لهم ويبين لهم كيف يتقربون إليه، وكيف ينظمون شؤونهم وحياتهم، وكيف يستقيمون على الجادة التي تحقق لهم المصالح، وتدرأ عنهم المفاسد.
وعليه؛ فلا عول على العقل، ولا الرأي، ولا الهوى؛ لأن الله -تعالى- خلق عباده مختلفة عقولهم، متباينة آراؤهم، متضاربة أفهامهم؛ فلو جاز أن يعتمدوا على شيء منها في دينهم أو دنياهم؛ لبطلت حياتهم، وفسدت معيشتهم، وصاروا في فساد لا يعلم كُنْهَه إلا الله.
ولهذا بيَّن ربنا -جل وعلا- أنه لا يجوز اتباع الهوى، وأن الاتباع لا يكون إلا لما يجيء من عنده، فقال -سبحانه وتعالى-: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الأعراف: 3]، وقال -جل وعلا-: ﴿ يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26]، وقال -سبحانه-: ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: 49]، وقال -جل وعلا-: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، وقال -سبحانه-: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ﴾ [القصص: 50]، وقال -سبحانه-: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 18]، وقال -جل وعلا-: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾ [المؤمنون: 71]، وقال -سبحانه-: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾ [الفرقان: 43]، وفي الآية الأخرى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23].
فالدين مردُّه إلى الله، والحكم مردُّه إلى الله، ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 10]،﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ [النساء: 59]، لا يُرَدُّ إلى الهوى، ولا الرأي، ولا القياس، ولا العقل، ولا الاستحسان؛ بل يُرَدُّ إلى المصدر الذي لا يتطرق إليه خطأ، وهذا هو مقتضى الفطرة، والعقل الصريح؛ فإن لكل واحد عقلا، ولو جاز أن نرد إلى العقول عند التنازع؛ لما ارتفع تنازع أصلا، ولبقي مستمرا، فكان لا بد أن نرد إلى مصدر لا يتطرق إليه خطأ؛ حتى يفصل النزاع.
وما أحسن قول شيخ الإسلام -رحمه الله-: «الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزَّل من السماء، وأما إذا رُدُّوا إلى عقولهم؛ فلكل واحد عقل».
وجاء رجل إلى الإمام مالك -رحمه الله-، فقال: «تعال حتى أخاصمك في الدين، فإن غلبتك اتبعتني، وإن غلبتني اتبعتك»، قال: «فإن جاءنا رجل ثالث فغلبنا؟» قال: «نتبعه»، قال: «سبحان الله! نترك ما جاء به جبريل إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- لرأي فلان أو فلان؟!»؛ هذا مما لا تقبله الفطرة، ولا يقبله العقل.
فهكذا حكمة ربنا -جل وعلا-: لا بد من حق نؤديه إليه، لا بد من أمر ونهي، لا بد من ثواب وعقاب، ولا بد أن يكون المَرَدُّ في كل هذا إلى ما يجيء من عنده، فلا عول على عقول، ولا أهواء، حتى تستقيم حياة الناس، ويرتفع ما بينهم من النزاع؛ نسأل الله الهداية والتوفيق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
* الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام عباد الله؛ إذا كان لا بد من أمر ونهي من قِبل الله، ولا بد من حكم وتشريع من عند الله؛ فكيف يعرف العباد ذلك؟ كيف نعرف مراد الله وحكمه وشرعه؟ وكيف يمكننا أن نعمل به؟
لقد اقتضت حكمة ربنا -جل وعلا- أن يصطفي من الناس رسلا، وينزل عليهم كتبا؛ حتى تتحقق الغاية التي ذكرتُ؛ فإذا أراد العباد أن يعرفوا مراد ربهم؛ فعليهم أن يتبعوا رسلهم وكتبهم، ويعملوا بما جاء فيها، فلم يكن ربنا -تبارك وتعالى- ليترك الناس هَمَلا من غير بيان، فاصطفى الله -عز وجل- الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأعلمهم بوحيه وتنزيله -جل وعلا-، وأنه يريد كذا، ولا يريد كذا، يأمر بكذا، وينهى عن كذا، يحكم بكذا، ولا يحكم بكذا؛ هكذا شريعة ربنا -جل وعلا-، وهكذا دينه.
يقول -جل وعلا-: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ [البقرة: 213]، ويقول -تعالى-: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25]، ويقول -تعالى-: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، ويقول -سبحانه-: ﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 24]، ويقول -جل وعلا-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناًّ قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، إلى أن قال -جل وعلا-: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: 48] إلى آخر الآيات من سورة المائدة.
فلا بد من بعثة الرسل، ولا بد من إنزال الكتب؛ حتى يعرف الناس مراد ربهم، وحكمه، ودينه، وحتى تستقيم شؤونهم، وتنتظم حياتهم.
هذا هو حاصل الأمر -إخوة الإسلام-، حاصل الأمر الذي تقوم حياتنا عليه:
لنا رب وإله، خلقنا، وفطرنا، وهو معبودنا، ليس لنا معبود سواه، وهذا الإله له أمر ونهي، وله حكم وتشريع، وله ثواب وعقاب، لا بد أن نتبعه -من خلال رسله وكتبه-؛ حتى تستقيم الأمور.
وهذا هو مقتضى الفطرة السوية، والعقل الصريح، كما قال -تعالى-: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، ويقول الرسول الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم-: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»، ويقول ربنا -جل وعلا- في الحديث الإلهي، الذي رواه عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فأتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما أنزل به سلطانا».
فكل إنسان مفطور على هذه الحقيقة، لا يستطيع أن ينكرها، ولا يستطيع أن يتهرب منها:
فالذي لا يقر بأن له ربا وإلها؛ هو معاند لفطرته، ومعاند لعقله الصريح.
والذي لا يقر أن الله -تعالى- له أمر ونهي، وأن حكمته تقتضي ذلك؛ لئلا يترك الخلق سدى؛ هو معاند لعقله وفطرته.
والذي يعتمد في حياته على عقله وهواه، من غير تقيد بشرع الله؛ هو معاند لعقله وفطرته.
والذي لا يؤمن بالرسل، ولا بالكتب، ولا يتقيد بما بُعثت به الرسل، وما أُنزلت به الكتب؛ هو معاند لعقله وفطرته.
فإلام الهروب؟! لماذا يهربون من عقلهم وفطرتهم؟! لماذا يهربون من حجة الله القائمة عليهم؟!
وصنيعهم هذا فيه تسفيه لملوك البشر؛ فإنه لا يجوز أن يُعتقد مثل هذا الأمر في حق ملك من ملوك الناس، ولو أنه قيل في شأنه؛ لأنزل بمن يقوله عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين.
كيف يقال في ملك من الملوك: إنه يترك رعيته سدى، لا يأمرهم ولا ينهاهم؟! وكيف يقال في ملك من الملوك: إنه لا يُتقيد بأمره؛ بل يعتمد الناس على أنفسهم؟!
لم نُفْطَر على ذلك، وحياتنا لا تقوم على ذلك؛ حياةُ البشر -بني آدم- لم تقم على ذلك، لا بد أن يكون للناس قانون، لا بد أن يكون للناس حاكم، لا بد أن يكون للناس مرشد؛ أليس هذا هو ما نتعامل به في حياتنا؟! ولولا ذلك؛ لصارت الأمور فوضى.
فكيف نُسند هذا الحق إلى الناس، ولا نُسنده لرب الناس؟! من الذي يحكم؟! ومن الذي يشرع؟! ومن الذي يأمر وينهى؟!
سبحان الله! يُظن برب العالمين -جل وعلا- أنه يترك خلقه هكذا -من غير أمر ولا نهي-، وإن كان ولا بد أمر ونهي؛ فليكن في أمور العبادات، ليكن في المساجد، ليكن في الصوامع، ليكن في البيوت؛ وأما في أمور الدولة فلا، وأما في أمور المجتمع فلا!!
أي عيب فوق هذا يُنسب إلى الله؟! لو نُسب شيء من ذلك إلى رب العالمين؛ لكان في حقه -جل وعلا- عيبا ونقصا؛ يقول الله -سبحانه- لعباده: اعبدوني على حسب ما أريد، وأما حياتكم وشؤونكم وقوانينكم؛ فسيروا فيها على حسب ما تريدون؟! ولو أن ملكا من ملوك الدنيا فعل هذا؛ أكان يوصف بالعبث أم لا؟ أكان يوصف بالعيب أم لا؟ ﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ . أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ . أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ . فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الصافات: 154-157].
هذه خلاصة الأمر -عباد الله-، نتقدم بها بين يدي «تهافت العلمانية»، التي لا تُبقي من الدين ولا تذر، وتريد للناس أن ينخلعوا من فطرتهم التي فطرهم الله عليها، وأن يصيروا في حياتهم كالبهائم، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، ولا يستقيمون على جادة ومصلحة حقيقية.
ووالله الذي لا إله غيره، لقد كان يكفينا ما ذكرتُه في مقامي هذا عن الاستفاضة في بيان شأنهم؛ فإن باطلهم صريح، وضلالهم واضح، لا ينخدع به مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، وإنما ينخدع به من رضع لَبان الغرب الرَّكِيس، فانتكست فطرته وارتكست، حتى صار لا يفرق بين بني آدم وبين الحيوان!!
هكذا شأنهم؛ ولن نكون كذلك أبدا، وسنظل ندعو إلى الحق، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر -مهما حدث-، لن يكون المسلمون أبدا كالبهائم: يأتي الرجل المرأة في الطريق، أو يعبث بها في الطريق!!
لن يحدث هذا -إن شاء الله تعالى-، نحن مسلمون، لنا دين، ولنا عقيدة، ولنا مبدأ، لا يمكن أن نتخلى عنه أبدا، ولا يمكن أن ننفتل عنه طرفة عين، ولن يستطيع أحد -إن شاء الله- أن يخرجنا عن هذه الفطرة السوية.
فقد كان يكفي ما ذكرته؛ ولكننا نستفيض معهم شيئا، ونتعرف عليهم شيئا؛ حتى نزيد في بيان باطلهم، ونبصر المسلمين بحقيقتهم؛ والله الموفق والهادي والعاصم، فنسأله -جل وعلا- أن يعصمنا من كل فتنة وضلالة.
اللهم اعصمنا من كل فتنة وضلالة، اللهم اعصمنا من كل فتنة وضلالة، اللهم قنا السوء وأهله يا رب العالمين، اللهم قنا الفتن وأهلها يا رب العالمين، اللهم لا تمكن لأعدائنا فينا أبدا يا أرحم الراحمين، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين في كل زمان ومكان يا رب العالمين، اللهم أحينا على الإسلام والسنة، وتوفنا على الإسلام والسنة، وارض عنا بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
أقول ما تسمعون ويغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا
|