التحذير
من دين الخوارج
وخطر التكفير
(الخطبة الثامنة)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد؛ فلا يزال حديثنا موصولا حول التكفير بغير مكفر، ونتوقف اليوم -إن شاء الله تعالى- عند مسألة عظيمة جليلة، تعد بذاتها أصلا من أصول هذا الباب، ألا وهي: مسألة الحكم بغير ما أنزل الله.
وهذه المسألة من أجل مسائل الدين وأعظمها وأخطرها، والقول فيها لا بد أن ينضبط بميزان الشرع وقواعده، من غير إفراط ولا تفريط؛ وهكذا القول في سائر مسائل الدين؛ ولكننا نخص بذلك مسألة الحكم؛ لشدة جلالتها وخطورتها، وعظيم ما يترتب عليها من الأثر.
والخوارج -قديمهم وحديثهم- يتخذون هذه المسألة أصلا عظيما لهم، وبابا أساسيا لانحرافهم في التكفير، ويكفيك أن تعرف -وقد عرفتَ- أن نشأتهم ما حصلت إلا بناء على هذه المسألة، لما خرجوا على عليّ -رضي الله عنه-، بزعم أنه حكَّم الرجال في أمر الله، وما الحكم إلا لله؛ فظنوا أنه أشرك بالله، ونازعه شيئا من خصائصه، فكفَّروه بذلك -وسائرَ أصحابه-.
وهكذا يفعلون -في كل زمان ومكان-، قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، ولا يقفون -في تكفيرهم- عند الحكام؛ بل يتعدون إلى المحكومين، فيكفرونهم -أيضا- بزعم رضائهم بالحكم بغير ما أنزل الله، ثم يعاملون الجميع معاملة الكفار، فيسلُّون السيف، ويستحلون الدماء، ويحدثون الفساد في الأرض.
فالأمر -إذن- خطير، ليس بالهزل ولا اليسير.
ولا شك أننا إذا أردنا أن نوفي هذه المسألة حقها؛ فإن هذا سيستغرق منا خطبا عددا، وقد صُنِّفت في هذه المسألة مصنفات، وبُحثت أبحاث، وقُرِّرت تقريرات، هي لطلبة العلم معروفة، فنجتزئ في مقامنا هذا اليوم بالتعرف على القول في هذه المسألة -عند أهل الحق-، ثم نتطرق في الجمعة المقبلة -إن شاء الله تعالى- إلى جامع شبهات المكفِّرين وأصولها؛ ومقامُنا هذا -أعني مقام الخطب- لا يحتمل ما هو أكثر من ذلك.
فاعلم -رحمك الله تعالى- أن الأصل في بحث هذه المسألة الجليلة هو في فهم قول الله -سبحانه- في كتابه: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44].
هكذا قال ربنا -جل وعلا-، فحكم على من لم يحكم بما أنزل بالكفر، ثم حكم عليه في آية تالية بالظلم، فقال: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ثم حكم في آية تالية بالفسق، فقال: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]، فسمى الله -تعالى- الحاكم بغير ما أنزل: كافرا، ظالما، فاسقا؛ ولا شك أنه كذلك؛ إذ لا معقِّب لحكم الله، ولا راد لخبره ولا قضائه؛ ولكن القضية كلها في الفهم، فأي كفر يلحق الحاكم بغير ما أنزل الله؟ وأي ظلم يلحقه؟ وأي فسق؟ من هاهنا يأتي الإشكال.
وما أُتي الخوارج -كما عرفنا- في مسائلهم التي عرفناها، ومسائلهم التي سنعرفها من بعد- إلا من سوء فهمهم، والقاعدة الجليلة في شرعنا: أن من أراد أن يفهم نصا في كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعليه أن يراجع بيان النصوص نفسها، وعليه أن يراجع -أيضا- بيان السلف من الصحابة -رضي الله عنهم- ومن تبعهم بإحسان؛ كما أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الأصل قد استفضنا في تقريره -والحمد لله-، وهو أصل الديانة والملة.
وقد عرفنا أن الأصل الأعظم للخوارج في الاستدلال هو الاعتماد على ظواهر النصوص، من غير نظر فيما يفسرها من نصوص أخرى، أو كلام للسلف، أو إجماع لأهل الحق؛ فمن هاهنا أُتوا، وهذا يتبين جليا في مسألتنا هذه.
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ أي كفر هذا؟ وقد عرفنا أن الكفر كفران: كفر ينقل عن الملة، وكفر لا ينقل؛ فعلى أيهما نحمل الكفر الذي ورد في هذه الآية؟
نرجع إلى كلام السلف: إلى كلام الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، والأئمة الكرام المتبوعين؛ نرجع إلى كلامهم، وما نقلوه من فهم أهل الحق ومذهبهم؛ حتى يتضح لنا الأمر، فإذا اتضح لنا؛ فلنتمسك به، ولا يجوز لنا أن نعدل عنه أبدا، ولا نخالفه؛ وهذا أمر ملزم لكل مسلم، لا سيما من ينتسب إلى ما يقال له: «الاتجاه الإسلامي»، ويدعو إلى تطبيق الشريعة وتحكيمها؛ عملا بنفس هذه الآية.
نرجع إلى كلام سلفنا وعلمائنا؛ ولأن مقامنا مقام اختصار؛ فإنما نجتزئ ببعضه، وإلا فاستيعابه يقودنا إلى أقوال كثيرة، ونقول وفيرة.
ونبتدئ بترجمان القرآن عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، الذي دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفقه في الدين والعلم بالتأويل، وهو أعلم الصحابة بكتاب الله -تعالى- وفاقا.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-:«هي به كفر، وليس كفرًا بالله وملائكته وكتبه ورسله»، وفي لفظ: «ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه»، وفي ثالث: «من جحد الحكم بما أنزل الله؛ فقد كفر، ومن أقرَّ به، ولم يحكم به؛ فهو ظالم فاسق».
وهذا أثر صحيح، ولا عبرة بمن طعن في ثبوته من أهل الأهواء، وقد تبعه في ذلك عامة أهل العلم -من الصحابة وغيرهم-.
وإذا انتقلنا إلى طبقة التابعين؛ فقد قال التابعي الجليل طاووس بن كيسان -رحمه الله-: «ليس بكفرٍ ينقل عن الملّة».
وقال التابعي الفقيه عطاء بن أبي رباح -رحمه الله-: «كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم».
وقال التابعي الجليل عبد الله بن طاووس -رحمهما الله- مفسِّرا لقول ابن عباس -الذي ذكرناه: «هي به كفر»- قال ابن طاووس: «وليس كمن كفر بالله وملائكته ورسله».
وإذا انتقلنا إلى طبقة الأئمة المتبوعين؛ فقد سُئل الإمام المبجل أبو عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل -رحمه الله- عن المُصِرِّ على الكبائر، يطلبها بجهده؛ إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم؛ هل يكون مصرا من كانت هذه حاله؟
فقال: «هو مصرٌّ، مثل قوله: «لا يزني حين يزني وهو مؤمن»، يخرج من الإيمان، ويقع في الإسلام، ومن نحو قوله: «لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن»،ومن نحو قول ابن عباس في قوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾».
قال السائل: «ما هذا الكفر؟».
قال: «كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر؛ حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه».
فبيَّن -رحمه الله تعالى- أن الكفر المذكور في هذه الآية كفر لا ينقل عن الملة؛ اتباعا لكلام أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبيَّن أن الكفر يتفاوت كالإيمان -وقد شرحنا هذا من قبل-، ثم قال كلمة مهمة: «حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه»، فدل على أن الكفر الذي ذُكر في الآية هو كفر مُجْمَعٌ على كونه لا يخرج عن الملة، يريد أن يقول: لا نستطيع أن نخرج مسلما عن دينه إلا بأمر لا يختلف فيه، والحكم بغير ما أنزل الله ليس كذلك.
فهذا نقلٌ لإجماع، ليس مجرد قول للإمام -رحمه الله-، وإنما هو نقل لإجماع أهل السنة على تفسير الكفر الوارد في هذه الآية، وهو من أعلى النقولات للإجماع في هذه المسألة.
وإذا انتقلنا إلى طبقة تالية؛ فقد قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر -رحمه الله-، وهو من أكابر علماء المالكية: «وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر -لمن تعمد ذلك عالما به-، رُويت في ذلك آثار شديدة عن السلف، وقال الله -عز وجل-: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾، نزلت في أهل الكتاب -قاله حذيفة وابن عباس-، وهي عامة فينا، قالوا: ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة؛ حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، رُوي هذا المعنى عن جماعة من العلماء بتأويل القرآن، منهم: ابن عباس وطاوس وعطاء، وقال الله -۵-: ﴿وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ [الجن: 15]، والقاسط: الظالم الجائر» انتهى كلامه -رحمه الله-، وفيه نقل للإجماع كذلك.
ونختم بقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وإذا كان من قول السلف: إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق؛ فكذلك في قولهم: إنه يكون فيه إيمان وكفر ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة؛ كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله -تعالى-: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾، قالوا: كفروا كفرا لا ينقل عن الملة، وقد اتبعهم على ذلك أحمد بن حنبل، وغيره من أئمة السنة» هذا آخر كلامه -رحمه الله-.
فتبين لنا -أيها المسلمون- أن مذهب أهل الحق، وفهم الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن تبعهم بإحسان: أن الحكم بغير ما أنزل الله كبيرة من الكبائر، ليس من المكفِّرات التي سنتكلم عليها فيما بعد، ليس كالذبح لغير الله، أو النذر لغيره، أو السجود لغيره؛ ليس كسَبِّ الله، أو الاستهزاء به، أو بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو نحو ذلك من المكفرات القولية أو العملية أو العقدية؛ وإنما هو من قبيل الذنوب والكبائر.
وهذا سر المسألة: أن نفهم حقيقة هذه المعصية: أهي معصية مكفِّرة، أم معصية غير مكفِّرة؟ لأنها لو كانت معصية غير مكفرة، فالقول فيها -إذن- كالقول فيما سبق: أنه لا يكفر من يأتيها إلا إذا أتاها على نحو مكفِّر -كما ذكرنا في الجمعة الماضية-.
وعليه؛ قال أهل العلم: من حكم بغير ما أنزل الله مستحلا لذلك -وقد عرفنا حقيقة الاستحلال، فلا نعيد-، أو جاحدا لحكم الله، أو مكذِّبا به، أو مستهزئا به، أو مستكبرا عنه، أو مفضِّلا لحكم غير الله على حكم الله، أو مسوِّيا لحكم غير الله بحكم الله، أو نحو ذلك؛ فهذا كله كفر لا يُختَلَف فيه؛ وأما من حكم بغير ما أنزل الله لغير استحلال، أو جحود، أو تكذيب، أو غير ذلك مما أشرنا إليه؛ فهو عاص مذنب، مرتكب لكبيرة من الكبائر؛ ولكنه لا يخرج عن دينه، لا فرق في ذلك بين مسألة وأخرى، ولا قضية وأخرى، ولا حكم جزئي وقانون عام؛ لا فرق بين هذا كله أبدا، وإنما القول في هذه المسألة واحد لا يُختلف فيه.
وعليه؛ فقول الله -تعالى-: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ هو -كما فهم العلماء- كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سباب المسلم وقتاله كفر»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «كفر بالله تبرؤ من نسب -وإن دق-»، ونحو ذلك مما ذكرناه من قبل، وذكرنا أن هذا الكفر هو الذي يقال له: «الكفر الأصغر»، الذي لا يخرج عن ملة الإسلام.
فهذا هو حاصل القول في هذه المسألة -بدلالة النصوص، وما عليه أهل العلم-؛ نسأل الله الهداية والتوفيق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
* الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين -كالمبتدعة والمشركين-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام عباد الله؛ حتى نؤكد لكم ما ذكرنا آنفا من فهم أهل العلم لآية الحكم؛ فإننا نبيِّن لكم أنه لم يفهم الآية على ظاهرها إلا الخوارج، وهذا باتفاق أهل العلم: ينسبون إلى الخوارج أنهم يحتجون بظاهر الآية، ويأخذون بإطلاقها، فيفسرون الكفر الوارد فيها على الكفر الناقل عن الملة مطلقا، في كل الأحوال، ومع جميع الأشخاص، وفي جميع المسائل، ولهم في ذلك بلايا وطوام مسطَّرة في كتب الفرق والمقالات، لا نطوِّل بذكرها ولا نعرِّج عليه.
وإنما المقصود هنا أن نبين أن العلماء نصوا على أن ظاهر هذه الآية لا يأخذ به إلا الخوارج، وهذا -أيضا- من الأهمية بمكان، لا بد أن يُعرف في بحث هذه المسألة وتقريرها؛ لئلا يأتي من يأتي اليوم -وهو معروفون كُثُر-، فيقول: الكفر إذا أُطلق؛ أُريد به كذا، والألف واللام تدل على الحقيقة، وليس هناك صارف، وأين الصارف؟! وأين الدليل؟!
نقول: يا هذا؛ ألا يكفيك كلام أهل العلم؟ ألا يكفيك إجماعهم؟ ألا يكفيك قول الصحابة -رضي الله عنهم- ومن تبعهم بإحسان؟ وقد ذكرنا لك طرفا منه، ونحن نذكر لك الآن أن كلامك هذا هو كلام الخوارج -بشهادة العلماء، لا بشهادتنا نحن-.
قال التابعي الجليل المفسر سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-:«أما المتشابهات؛ فهن آيٌ في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرءوهن؛ من أجل ذلك يضل من ضل ممن ادعى هذه الكلمة، كل فرقة يقرءون آيات من القرآن، ويزعمون أنها لهم أصابوا بها الهدى، ومما تتبع الحرورية من المتشابه: قول الله -تعالى-: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾، ويقرءون معها: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 1]، فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق؛ قالوا: قد كفر، ومن كفر؛ عدل بربه، فقد أشرك، فهؤلاء الأئمة مشركون، فيخرجون، فيفعلون ما رأيت؛ لأنهم يتأولون هذه الآية».
انظر إلى هذا التحليل والتفسير من عالم جليل من أجلاء التابعين، وهو تلميذ ابن عباس -رضي الله عنهما-، يحلِّل لك شأن هؤلاء، وهو المعروف في كل زمان ومكان، وقد ذكرت لكم هذا آنفا، من أن جميع ما ترونه من صور الإفساد في الأرض مبني على الفهم الخاطئ لهذه الآية وأشباهها من النصوص.
يقولون: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾، والكفر هنا كفر ناقل عن الملة -عندهم-، فإذا رأوا الإمام حكم بغير ما أنزل الله لغير نحو مكفر مما ذكرناه؛ قالوا: قد كفر، أي: خرج عن الملة -بناء على تأويلهم للآية-، ثم يأتون بقول الله -تعالى-: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾، ومن عدل بربه، أي: ترك ربه -سبحانه وتعالى-، وذهب إلى معبود آخر؛ فلا شك أنه مشرك، فمن لم يحكم بما أنزل الله؛ قد كفر، ومن كفر؛ عدل بربه، ومن عدل بربه؛ فقد أشرك، فالنتيجة -إذن-: أن من حكم بغير ما أنزل الله؛ فهو كافر مطلقا، مشرك مطلقا، عادل بربه مطلقا؛ وبالتالي تنطبق عليه أحكام الكفار التي ذكرناها لكم من قبل، وأعظمها -كما بيَّنَّا-: استحلال الدماء.
فكل ما ترونه الآن لم يأت من فراغ، وإنما هو مبني على فكر، وعقيدة، ومنهج؛ فلا بد أن يُعرف هذا.
وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: «وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب، فاحتجوا بهذه الآثار ومثلها في تكفير المذنبين، واحتجوا من كتاب الله بآيات ليست على ظاهرها، مثل قوله -عز وجل-: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾، وقوله: ﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2]، وقوله: ﴿إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَناًّ وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: 32]، وقوله: ﴿إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 116]، وقوله: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ [الكهف: 104]، ونحو هذا.
وروي عن ابن عباس في قول الله -عز وجل-: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ قال: «ليس بكفر ينقل عن الملة؛ ولكنه كفر دون كفر» انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وبكلامه نكتفي- في الجواب عن إحدى شبهات الرافضة -كما في «منهاج السنة النبوية»-؛ قال: «الثالث: أن يقال: هذا معارَض بمن يقول: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم النواصب -كالخوارج وغيرهم-، ويقولون: إن من تولاه فهو كافر مرتد، فلا يدخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويحتجون على ذلك بقوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾، قالوا: ومن حكَّم الرجال في دين الله؛ فقد حكم بغير ما أنزل الله، فيكون كافرا» انتهى كلامه.
فها أنت ترى -أراك الله الخير والهدى- أن العلماء ينصُّون ويبيِّنون أنه لا يأخذ بظاهر هذه الآية إلا الخوارج؛ هذا كلام أهل العلم، ليس كلام شخص جاهل، أو مغرض، أو صاحب هوى، أو عميل، أو غير ذلك من التهم الجاهزة، التي تُلقَى على عواهنها في هذه الأيام.
فمن هاهنا -أيها الإخوة- يتضح لنا المذهب الحق -بكافة ملامحه وأموره-:
الحكم بغير ما أنزل الله: كبيرة من الكبائر، ليس بكفر ينقل عن الملة، هو معصية كسائر المعاصي التي تكلمنا فيها، لا يكفر من أتاه إلا إذا فعله على نحو مكفر -كسائر الذنوب والمعاصي-؛ هذا هو سر المسألة، لا بد أن نعرفه، ونفهمه جيدا؛ حتى نستطيع التمييز بينه وبين مذهب المخالفين المنحرفين فيها.
وفي الختام أقول: لا نُحِلُّ لأحد أن ينسب إلينا -أهلَ السنة والجماعة- أننا نهوِّن من شأن الحكم بما أنزل الله، أو لا ندعو إلى تطبيق الشريعة وتحكيمها؛ من قال هذا علينا؛ فهو كذاب مفتر، لا نجعله في حِلٍّ، ونحن خصماؤه بين يدي ربنا -يوم يقوم الأشهاد-، وإنما كلامنا في بيان منزلة المسألة، والقول فيها -من جهة الكفر وعدمه-.
فكما شرحنا لكم: فرقٌ بين كون الشيء معصية وجريمة وإثما وذنبا، وبين كونه مخرجا عن ملة الإسلام؛ لأن الإخراج عن ملة الإسلام ليس بالأمر اليسير، وليس مجرد اسم -كما أوضحناه لكم-، وإنما تترتب عليه أحكام في الدنيا والآخرة، فالقول فيه -إذن- خطير، وقد تكلمنا في شأن المعاصي عموما، وبيَّنَّا أن من أتاها لا يكفر؛ أفيقول عاقل: إننا نهوِّن من شأن المعاصي؟! أو ندعو إلى مقارفتها؟! لا يقول هذا من وجد للعقل رائحة؛ فضلا عن العلم.
وسيعرف الجميع قدر الشريعة عندنا عندما نتكلم مع بني علمان -مع العلمانيين-، سيعرف الجميع قدر الشريعة عندنا، وتعظيمنا لنا، ودفاعنا عنها، وسيعرف الجميع الفرق بين النائحة المستأجرة والنائحة الثَّكْلى، فليس رد أهل السنة على العلمانيين كرد التكفيريين عليهم، فلا تعجلوا، وانتظروا؛ إنا معكم منتظرون.
ونسأل الله -تعالى- أن يكشف عنا الفتن -ما ظهر منها وما بطن-، وأن يتوفانا على الإسلام والسنة -وهو راض عنا-؛ إنه ولينا ومولانا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
لتحميل الخطبة مفرغة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا
|