التحذير
من دين الخوارج
وخطر التكفير
(الخطبة السابعة)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد؛ فإننا نمضي في معالجة الانحراف في التكفير، والكلام على التكفير بغير مكفر؛ وحديثُنا اليوم عن مسألة هامة في هذا الشأن، وهي مسألة استحلال المعصية.
وقد تقرر لدينا أن صاحب المعصية لا يكفر، ولا يفارق دين الإسلام، والمقصود من ذلك: نفس ارتكاب المعصية، فعندما نقول: إن العاصي لا يكفر، فإنما نريد بذلك: بمجرد معصيته، فنفس ارتكاب المعصية لا يكفِّر المسلم، ولا يخرجه عن دينه؛ وأما إذا وقع -حال معصيته- في أمر يضر اعتقاده؛ فهذا شأن آخر، وهو ما نعتني ببيانه اليوم -إن شاء الله-.
فالذي دل عليه الشرع، وقال به أهل الحق: أن من أتى معصية -على نحو مكفر-؛ فهو كافر، وقد ذكرنا -من قبل- أن للكفر ستة أقسام، فمن وقع في شيء منها -حال معصيته-؛ فهو واقع في كفر، ولا يصدق عليه ما تقدم تقريره في شأن العصاة؛ فمن زنا -مثلا-، وهو لا يعتقد تحريم الزنا، أو يستكبر عن قبول تحريمه؛ فهو واقع في كفر، ولا يسري عليه ما تقدم تقريره في شأن العصاة.
وسنتناول اليوم -إن شاء الله تعالى- مسألة استحلال المعصية، وأثرها على حال العاصي.
فاعلم -أولا- أن استحلال الشيء هو: اتخاذه حلالا، استحل الرجل شيئا أي: اتخذه حلالا مباحا، وهذا يكون بالاعتقاد، ويكون بالعمل.
فاستحلال العقيدة هو: اعتقاد الحِلِّ، بأن يعتقد المرء في قلبه حِلَّ شيء ما، وإباحته.
وأما استحلال العمل؛ فهو: ارتكاب الشيء وإتيانه، والاستباحة هنا راجعة إلى نفس الفعل، فمن فعل شيئا أو أتاه؛ فقد استباحه، واتخذه حلالا له، فيقال: إنه قد استحله -بفعله وعمله-.
فالاستحلال يكون بالعقيدة، ويكون بالعمل، والشرع يفرق بين الحالتين، فيبين أن استحلال العقيدة كفر ناقل عن الملة، فالذي يستحل شيئا مما حرمه الله -بقلبه وعقيدته-؛ فهو كافر؛ لأنه يناقض حكم الشرع، ويقع في كفر جحود أو تكذيب.
فالشرع دل -مثلا- على أن الزنا حرام، فمن اعتقد حله؛ فقد جحد حكم الشرع أو كذب به، ولأجل هذا يكون كافرا.
ولهذا اتفق العلماء على أن من استحل شيئا حراما في دين الله -تعالى-؛ فهو كافر، إذا كان هذا الحرام معلوما تحريمه بالاضطرار من الدين؛ كالمحرمات الظاهرة المعلومة لدى جميع المسلمين، وأما ما فيه اختلاف أو اشتباه؛ فلا يدخل في هذا الكلام، ولا يُعَدُّ مستحله كافرا، وإنما الكلام على من استحل محرما، قد عُلم تحريمه بالضرورة من الدين.
وأما استحلال العمل؛ فالعلماء متفقون على أنه غير مكفر، وهذا هو الذي تنسحب عليه أحكام العصاة السابق تقريرُها، فقد ذكرنا أن مرتكب المعصية لا يكفر، ومرتكب المعصية هو فاعلها وآتيها، وقد بيَّنتُ أن استحلال العمل هو فعله وإتيانه، فاستحلال المعصية إذن -من الناحية العملية- هو مجرد فعلها وإتيانها وارتكابها، فهذا الأمر ليس بكفر؛ إذ قد تقرر في شرعنا أن العاصي غير كافر.
ولهذا جمع علماؤنا الأمر، فقالوا: لا نكفِّر أحدا بذنب؛ ما لم يستحله.
«لا نكفر أحدا بذنب»، أي: بفعله وارتكابه، «ما لم يستحله»، أي: بقلبه واعتقاده.
ومن الأدلة على أن استحلال العمل لا يكفِّر: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما خرَّجه البخاري في «الصحيح»-: «ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف»، فجعلهم -صلى الله عليه وسلم- من أمته -مع كونهم يستحلون هذه الأشياء-.
قال أهل العلم: إنهم يستحلونها بأعمالهم، أي: يرتكبونها ويفعلونها؛ فهذا استحلال -من جهة العمل-، لم يكفِّر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يخرج فاعله عن كونه من أمته.
فلا بد أن نفرق بين الأمرين: الاستحلال المكفر هو: استحلال القلب والعقيدة، فمن اعتقد حِلَّ محرم، قد عُلم تحريمه بالضرورة؛ فهو كافر، كمن استحل القتل، أو الزنا، أو الخمر، أو الربا، أو عقوق الوالدين، أو نحو ذلك من المحرمات الظاهرات المعلومات؛ فهذا كافر خارج عن ملة الإسلام؛ لأنه يجحد حكم الشرع، أو يكذب به.
والذي عليه أهل العلم: أن هذا الاستحلال العقدي لا يُعلم إلا بالتصريح؛ لأنه أمر قلبي، والقاعدة في أمور القلب: أنه لا يمكن القطع بها إلا بالتصريح.
وفرقٌ بين الظن والقطع، وباب التكفير مبناه على القطع؛ لشدة خطورته -كما عرفتَ-، فهو باب توقيفي احتياطي قطعي؛ أعني بذلك: أنه لا يُكتفَى فيه بالظن، ولا الشك، ولا الأمارة، ولا الحَدْس؛ بل لا بد فيه من الأمور الظاهرة المقطوع بها، فلا يمكننا أن نتوصل إلى اعتقاد شيء بمجرد ظن أو حدس؛ بل لا بد من أمر قطعي لا يُشَكُّ فيه، وهذا الأمر هو التصريح.
ولهذا قال العلماء: لا يُعرف الاستحلال إلا بأن يصرح الشخص باستحلاله للشيء، بأن يقول: هو حلال؛ وأما النظر في بعض عمله، أو شأنه، أو القرائن التي تعتريه -كما سأنبه عليه-؛ فهذا كله لا يُكتفَى به في القطع بالاستحلال.
فهذا هو حاصل الأمر في شرعنا، وعند أهل الحق -أهل السنة والجماعة-: لا نكفِّر أحدا بذنب؛ ما لم يستحله، والاستحلال المكفِّر هو: استحلال القلب والعقيدة، ويكون في الأمور الظاهرة المعلومة التي لا يُمتَرَى فيها، ولا يُعرَف شيء منه إلا بالتصريح الواضح البيِّن، حتى تُرَتَّبَ عليه أحكام التكفير.
نسأل الله العافية من كل فتنة؛ أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
* الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام -رعاكم الله-! إن الخوارج -أهلَ التكفير- لا يتقيدون بقواعد الشرع وأحكامه في هذا الباب الخطير، وقد تعرفنا على شيء من صفتهم في تكفيرهم بالمعاصي والسيئات -أي بنفس ارتكابها-، وهذا هو المعلوم من شأنهم -من قديم-، وهو المسطَّر عنهم في كتب المقالات والفرق وغيرها.
وأما خوارج العصر، الذين يلبِّسون على المسلمين -عامتهم وخاصتهم-؛ فهم يتظاهرون بموافقة أهل الحق في نفس ارتكاب المعاصي، فيقولون -ظاهرا-: لا نكفر بمعصية ولا كبيرة، ولا نكفر بذنب -ما لم يُسْتَحَل-؛ فيغتر بهم الغَمْر، ويظنهم على شيء؛ ولكن الحقيقة بخلاف ذلك؛ فإن مفهومهم للاستحلال ليس موافقا للشرع، ولا موافقا لما عليه أهل العلم والسنة؛ فإن الاستحلال المكفِّر -كما عرفتَ- هو استحلال القلب، ولا يُتوصل إليه إلا بتصريح وبيان؛ وأما القرائن العملية؛ فلا يجوز التمسك بها في هذا الباب.
والقوم عندهم هذه القرائن، أي: يعتبرون بها، ويرتِّبون عليها الحكم بالتكفير؛ بزعم أنها تدل على الاستحلال.
فتنبه وافطن لموطن النزاع، فموطن النزاع معهم ليس في الشعار الذي يطلقونه، ويلبِّسون به على الناس: «لا نكفر أحدا بذنب؛ ما لم يستحله»؛ وإنما النزاع في فهم الاستحلال: ما ضابطه؟ وما حقيقته؟ وما المكفِّر فيه من غير المكفِّر؟ هذا هو موطن النزاع؛ فافهمه.
القوم يقولون: الاستحلال -عندنا- هو استحلال القلب والعقيدة؛ ولكننا نتوصل إليه بغير التصريح، نتوصل إليه ببعض القرائن العملية التي تدل عليه.
فإن قيل لهم: كمثل ماذا؟ قالوا: كمثل الإصرار على المعصية.
يفرِّقون بين من أتى معصية -من غير إصرار-، ومن أتى معصية -بإصرار-، فالإصرار -عندهم- قرينة ودليل على استحلال القلب؛ لأجل هذا يقولون: المُصِرُّ على المعصية كافر!!
وحتى نفهم الخلل في ذلك؛ لا بد أن نعرف أن الإصرار -في اللغة والشرع- يكون بالقلب، ويكون بالعمل.
فالإصرار القلبي هو: العزم على معاودة الشيء، فالذي يأتي ذنبا، وهو عازم على إتيانه -مرة أخرى-؛ يقال له: مُصِرٌّ -بقلبه-؛ ولهذا كان من شروط التوبة -في الشرع-: العزم على عدم العودة؛ حتى ينتفي الإصرار -بقسمَيْه-.
والإصرار يكون بالعمل -من خلال التكرار والمواظبة-، يأتي الذنب مرةً، تِلْوَ مرةٍ، تِلْوَ مرةٍ؛ فهذا إصرار بالعمل.
والإصرار -بقسمَيْه- في الشرع، وعند أهل الحق: لا يكفِّر؛ لما سبق ذكره من العمومات، التي تدل على عدم تكفير العصاة، فهي تشمل كل عاص، سواء أصر أو لم يصر؛ انظر في قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، أتجد فيه تمييزا بين إصرار وغير إصرار؟ الجواب: لا، وهكذا جميع العمومات التي سبق ذكرها.
بل عندنا نص خاص، وهو: ما أخرجه البخاري في «صحيحه»، في حديث الرجل الذي كان يُسمَّى «عبد الله»، ويُلقَّب «حمارا»، وكان يُضحك النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-؛ ولكنه كان يشرب الخمر، ويواظب على ذلك: يشربها، ثم يعود، ثم يعود؛ فهذا إصرار عملي بيِّن؛ فأُتي به مرة حتى يُقام عليه الحد، فقال أحد الصحابة: «اللهم العنه؛ ما أكثر ما يُؤتَى به!»، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تلعنوه؛ فإنه يحب الله ورسوله»، أي: معه أصل الإيمان -كما سبق بيانه؛ لئلا نعيد-؛ فهذا رجل وقع في إصرار عملي على معصية، ولم يكفِّره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وعلى هذا اتفاق أهل السنة والجماعة، لا يُعلم عن أحد منهم قط أنه كفَّر المصر على المعصية، سواء كان ذلك بقلب أم عمل.
فالقول بإكفار المُصِرِّين قول محدث، وله أصل في عقائد بعض الخوارج، فقد حُكي عن النَّجْدات -فيما أذكر-، وهي طائفة من الخوارج.
فالحاصل: أن هذا طَرْحٌ محدث، والذي يروج بين طلبة العلم -أو المسلمين عموما- أن المصر على المعصية كافر: هو تكفيري خارجي -شعر أم لم يشعر-، لا بد أن يُعلم أن قوله هذا قول باطل، لا سَنَد له في الشرع، ولا في معتقد أهل السنة والجماعة.
ومن القرائن عند خوارج العصر: المجاهرة بالمعصية؛ يقولون: من جاهر بمعصيته؛ فهو مستحل لها، فهو -إذن- كافر!!
لماذا -يا قوم-؟! قالوا: لأن المجاهرة قرينة على الاستحلال!!
فنقول: كلا؛ للعمومات التي سبق ذكرها؛ ولأنه لم يُعرف عن أحد من أهل السنة أنه كفَّر مجاهرا بمعصية.
والقوم أُتُوا من سوء فهمهم؛ فإنهم عمدوا إلى ما خرَّجه البخاري في «صحيحه»، من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كل أمتي معافىً؛ إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة: أن يعمل الرجل بالذنب، ثم يصبح يتحدث به، يهتك ستر الله عليه»؛ قالوا: يقول -صلى الله عليه وسلم-: «كل أمتي معافىً؛ إلا المجاهرين»، فالمجاهرون -إذن- ليسوا من أهل العافية.
فنقول: أَمَنْ لم يكن من أهل العافية كان كافرا؟! أي فهم هذا؟! كيف والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في صدر الحديث: «كل أمتي»، فجعل المجاهرين من أمته؛ كما تقول: «قام الطلاب إلا محمدا»، ومحمد منهم، لم يخرج عن كونه من الطلاب؛ فهذا نوع من أنواع الاستثناء في لغة العرب، فظاهر الحديث يدل على أن المجاهرين لم يخرجوا عن كونهم من أمة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وإنما تفسير قوله -صلى الله عليه وسلم-: «معافى» أي: هو أقرب إلى العافية، أقرب إلى التوبة، أقرب إلى ستر الله عليه، أقرب إلى مغفرة ذنبه؛ وهذا أمر معلوم، فلا شك أن الذي يجاهر بمعصيته عنده جرأة على الله، يتجرأ على محارم الله، ويبارز ربه بالمعصية؛ وهذا خطير، وإنما كلامنا في التكفير من عدمه؛ فمثل هذا تبعد التوبة في حقه، يقال فيه: «ليس بمعافى»، أي: ليس قريبا من التوبة، حاله هذه حال سيئة؛ وأما الذي يستتر بذنبه؛ فهو أقرب إلى التوبة، وهذا معلوم: تخاطبه في شأنه، فيعترف على نفسه بالخطأ، ويقر بالتقصير، ويشعر في قلبه بحياء العصاة وسوء صنيعهم، ويود أن لو تاب؛ ولكن شهوته تغلبه؛ فمثل هذا يكون أقرب إلى التوبة من الآخر.
هذا هو تفسير الحديث؛ وأما أن يُفهم منه التكفير؛ فلا.
ومن القرائن عند القوم -أيضا-: الدعوة إلى المعصية؛ فمن دعا مسلما إلى معصية؛ فقد كفر -عندهم-؛ لأن الدعوة قرينة على الاستحلال!!
فنقول: كلا؛ لما سبق من العمومات، وعندنا نصوص خاصة.
منها: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما عند مسلم-: «ومن دعا إلى ضلالة؛ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا»، فبين -صلى الله عليه وسلم- أن من دعا إلى ضلالة؛ فعليه من الإثم مثل آثام من اتبعه؛ فهل من اتبعه كفارٌ؟ الجواب: لا، وإنما هم عصاة، فكذلك الإثم الذي يعود عليه هو إثم العصاة، لا إثم الكفار.
وحديث آخر: وهو ما خرَّجه البخاري، من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من حلف فقال في حلفه: «واللات والعزى»؛ فليقل: «لا إله إلا الله»، ومن قال: «تعال أقامرك»؛ فليتصدق».
من قال لأخيه: «تعال أقامرك»، أي: نفعل شيئا فيه قمار -كما يحدث الآن للأسف-؛ ما كفارة هذا؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: «فليتصدق»، ولو كان كافرا؛ لما خوطب بالصدقة؛ لأن الصدقة لا يخاطَب بها إلا مسلم مكلَّف، ولو كان كافرا؛ لأُمر بالعودة إلى الإسلام، وجرت عليه أحكام الاستتابة والعودة إلى الملة، والصدقة ليست من ذلك.
فالذي يدعو غيره إلى المعصية لا يكفر بذلك، وإنما إثمه يتضاعف ويزيد، فعليه من الإثم مثل آثام من اتبعه؛ وأما أن يكفر ويخرج عن الملة؛ فلا.
ومن القرائن -وبه نكتفي-: توثيق المعصية؛ فالقوم يقولون: من وثَّق المعصية، أي: جعلها مقنَّنة أو منظَّمة أو مقعَّدة، في عقد أو ميثاق؛ فهو كافر؛ لأن التوثيق عندهم -والحال هكذا- قرينة -أيضا- على الاستحلال!!
فنقول: هذا -أيضا- ليس بصحيح؛ لما سبق ذكره من العمومات؛ ولما هو معلوم في معتقد أهل السنة والجماعة.
وعندنا من النصوص الخاصة: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله آكل الربا، ومُؤْكِله، وكاتبه، وشاهديه»؛ فهذا توثيق أم لا؟ ومعلوم أن عقود الربا تُوَثَّق -نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ به من كل معصية، ونبرأ إليه من كل ما لا يرضيه-؛ فهل يكفر آكل الربا، أو مؤكله، أو كاتبه، أو شاهداه؟ هذا لا يُعرَف عند أحد من أهل السنة.
وإنما أُتُوا من فهمهم لحديث، وهو حديث أبي بردة بن نِيَار -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه إلى رجل تزوج بامرأة أبيه، فأمره أن يضرب عنقه، ويخمِّس ماله.
قالوا: الرجل الذي تزوج بامرأة أبيه: قد عقد عليها، فهو -إذن- لم يَزْنِ بها -كشأن العصاة-، وإنما تزوج، أي: عقد، والعقد توثيق، فعامله النبي -صلى الله عليه وسلم- معاملة الكفار، والدليل: تخميس المال؛ فإن تخميس المال معناه: أن يصير فيئا لبيت مال المسلمين، ويقسَّم بخمسة أقسام -كما هو معلوم في أحكام الفيء-، وقد ذكرنا من قبل في أحكام الردة: أن المرتد يخمَّس ماله.
فنقول: أولا: لفظة التخميس في ثبوتها نظر، وهذا فيه بحث من الناحية الحديثية، يعرفه أهل الحديث؛ فعلى تقدير عدم ثبوتها، فالأمر ينتهي؛ لأن نص الحديث -عندئذ- سيصير مقصورا على القتل، والقتل لا يقتضي الكفر؛ فإن القتل يعد حدا وعقوبة لبعض المعاصي التي هي دون الكفر، فالقاتل يُقتَل -وليس بكافر-، والزاني المحصَن يُرجَم حتى يموت -وليس بكافر-.
ولهذا ذهب فريق من أهل العلم إلى أن من زنى بذات محرم له -سواء عقد عليها أم لا-؛ فإنه يُقتل -على كل حال-، سواء كان محصَنا أم لا؛ لأنهم جعلوا الزنا بذوات المحارم أعظم خطرا وجرما وإثما، واستدلوا بهذا الحديث على أنه لا فرق فيه بين محصَن وغيره، وأنه يُقتَل على كل حال، وليس -عندهم- بكافر.
ثم نقول: وعلى تقدير ثبوت التخميس، أي أن الرجل كان كافرا بالفعل؛ فمن الذي فهم من الحديث أن كفره كان لمجرد التوثيق؟
نرجع إلى كلام أهل العلم؛ قال أهل العلم في شرحهم لهذا الحديث: عامله النبي -صلى الله عليه وسلم- معاملة الكفار؛ لأنه علم منه الاستحلال، أي: تزوج بامرأة أبيه، وهو يعتقد في قلبه أن ذلك حلال -كما كان يصنعه أهل الجاهلية-، فإن أهل الجاهلية هكذا كانوا يفعلون، ولهذا قال -تعالى-: ﴿ وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [النساء: 22]، فالرجل لمَّا صنع ذلك كان معتقدا لحِلِّه، وكان غير متقبل لحكم الله -تعالى- ولا ملتزم له.
هكذا قال أهل العلم؛ فليست العلة -إذن- هي التوثيق؛ لأن العلة لا بد أن تكون مطردة، ولو جعلنا كفر ذلك الرجل لمجرد توثيقه للمعصية؛ للزم أن نكفِّر المرابي، ولم يقل بذلك أحد من أهل السنة، وللزم أن نكفر كل من تعاقد على معصية، وهذا أمر خطير؛ لأن كثيرا من العقود التي تقع الآن عقود مخالفة للشرع في كافة المؤسسات، لا نكاد نستثني شيئا، لا بد أن تجد مخالفة -دَقَّتْ أم جَلَّتْ-، فهل هذه التوثيقات تكفِّر أصحابها، وتخرجهم عن ملة الإسلام؟ الجواب: لا.
فالحاصل عندنا -إخوة الإسلام-: أن قضية الاستحلال لا شك أنها قضية مكفرة؛ ولكنها تنضبط -في شرعنا، وعند أهل الحق- باستحلال القلب، واستحلالُ القلب لا يعرف إلا بشيء ظاهر بيِّن واضح، لا يُكتفَى فيه بقرائن.
ومن هاهنا أُتِيَ القوم، فقد أعملوا عقلهم وقياسهم ورأيهم في هذا الباب الخطير، وقد عرفنا أنه لا مجال فيه لشيء من ذلك، فقادهم إعمال العقل والرأي إلى التكفير بغير مكفِّر، والنظر إلى هذه القرائن، التي دلت النصوص فيها -بعينها- على أنها لا تكفِّر، فجعلوها هم من المكفِّرات والمُخْرجات عن ملة الإسلام.
فانتبهوا لهذا النَّفَس الحادث، الذي يقول به غير واحد من أصحاب اللِّحَى والقُمُص القصيرة، الذين يظهرون على التلفاز!!
انتبهوا لهذا الكلام جيدا، ولا تغتروا بكل من يظهر أمامكم، ومن يرفع شعار السنة أمامكم؛ فإن الخطر كبير، والخلط كثير؛ نسأل الله -تعالى- أن يقينا كل فتنة ومكروه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا
|