تهافت الع"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :540080
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الخامسة من تهافت العلمانية

المقال
تفريغ الخطبة الخامسة من تهافت العلمانية
3501 زائر
25/01/2014
أبو حازم القاهري السلفي

تهافت العلمانية

(الخطبة الخامسة)

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-،وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عودة إلى رحلتنا مع العلمانية الردية، وكنا قد بدأناها بالتعرف على معنى العلمانية وحقيقتها، ثم التعرف على ظهورها ونشأتها، ثم التعرف على الأسباب والعوامل التي أدت إلى ظهورها وتقويتها.

ونظرا لبُعْد العهد، وطول فترة الانقطاع عن موضوعنا؛ فإنني أذكِّر بحاصل ما سبق بيانه؛ حتى يكون الكلام مترابطا في أذهان السامعين.

لقد تبين لنا أن حقيقة العلمانية: فصل الدين عن الحياة، وأن العلمانية قائمة على عقيدة وثنية يونانية، تفترض أن الآلهة -بزعمهم- لا يتدخلون في حياة البشر، وقد تلقفت النصرانية هذه العقيدة، وصاغتها في تلك المقولة الشهيرة، المنسوبة للمسيح -زورا-: «أعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر»، وقد تأكد هذا الأمر ورسخ في حياة الغرب من خلال طغيان القساوسة، وصدِّهم عن الدين، ثم قيام الثورة الفرنسية، التي كانت موجَّهة ضد الدين، وفرضت العلمانية بالقوة والسلطان، ثم خروج النظرية الدارونية، التي حققت السند العلمي للعلمانية، بالطعن في خلق الإنسان وأصله.

هذه هي حقيقة العلمانية، وهكذا نشأت وتطورت.

فإذا عُرف ذلك؛ فلننتقل إلى صلب القضية وجوهرها، وهو الكلام على أصول العلمانية ومجالاتها، ثم نقضها وبيان تهافتها -بحول الله وقوته-.

لقد ذكرنا وتبين لنا أن العلمانية تقوم على فصل الدين عن الحياة، فهي إذن تتسلط على مجالات الحياة ونواحيها المختلفة، تبث فيها سمومها وشرورها، بقصد فصل الدين وتنحيته عنها -مجالا تلو الآخر-، وهذا يتبين في مجال السياسة والحكم والتشريع، وفي مجال العلم والمعرفة، وفي مجال الأخلاق والمعاملات، وفي غير ذلك من مجالات الحياة.

ونحن نتعرض -إن شاء الله تعالى- لأهم هذه المجالات، ونبيِّن أصول العلمانية في كل مجال، ثم نقصد إلى نقضها -بحول الله تعالى وقوته-.

ونبدأ بمجال الحكم والتشريع؛ فإنه هو الذي تقوم به سياسة الناس، ويقوم به تنظيم حياتهم وشئونهم، وهو المجال الذي يتحقق به السلطان، وتأثيره في حياة البشر لا يخفى، فلا حياة للناس بدون حاكم وسلطان، وهو المعنى الذي رسَّخه السلف بقولهم: «لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بسمع وطاعة»، لا على ما يقرِّره أهل الأحزاب المبتدعة الضلال، ولكن على ما يقرره أهل الإسلام والسنة -في كل زمان ومكان-.

ثم إن مجال الحكم والتشريع هو الذي يتسلط به دعاة العلمانية على الشريعة أعظم التسلط، فيرمونها بالقصور، والخلل، وعدم مواكبة العصر، وعدم تحقيق مصالح الخلق؛ وهم -في دعوتهم ومذهبهم- إنما يقصدون الحكم والتشريع -بالأصالة-، فعندما يقولون بفصل الدين عن الحياة؛ إنما يريدون -بالأصالة- مجال الحكم والسياسة والتشريع؛ لئلا يصير الدين في صورة ملزمة، تتحكم في حياة الناس، وتفرض عليهم أمورا، وتمنع عنهم أمورا؛ فهم لا يريدون ذلك؛ بل يريدون أن تصير حياة الناس على وفق أهوائهم، وشهواتهم، وملذاتهم، وعاداتهم، وأعرافهم، لا على وفق شرع منزَّل من رب العزة -تبارك وتعالى-.

فكان مجال الحكم -بذلك- مجالا مهما خطيرا، لا بد أن يبيَّن شأن العلمانية فيه، ولا بد أن يُذَبَّ عن جناب الشريعة المطهرة، ببيان طرف من أحكامها وأسرارها، وتحقيقها لمصالح الخلق؛ بل لا قيام لهم إلا بها، ولا انتظام لحياتهم إلا بالسير على دربها؛ وكيف لا، وهي المنزَّلة من رب السموات والأرض، ﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].

فنبدأ مستعينين بالله -تبارك وتعالى- في الكلام على مجال الحكم، والعلمانية فيه -كما هو بيِّن- تدعو إلى فصل الدين عن الحكم جملة، فإذا أراد الناس أن يحكم بعضهم بعضا، وإذا أرادوا أن يسوس بعضهم بعضا؛ فإن ذلك لا يخضع لدين ولا شرع؛ بل يُرجَع فيه إلى نفس الناس، في أهوائهم وعاداتهم وما أشبه ذلك.

ودعوة العلمانية -في هذا الباب- قائمة على أصول، وهي -تحديدا- ثلاث نظريات:

النظرية الأولى: يقال لها: «النظرية الخيالية»، وهي -في الأصل- نظرية فلسفية، تفترض وجود المجتمعات الكاملة والمدن الفاضلة في هذه الحياة؛ فكيف توجد هذه المجتمعات والمدن -عندهم-؟

قالوا: إنما تقوم المجتمعات الكاملة والمدن الفاضلة على مصالح الناس، وأهوائهم، وشهواتهم؛ من غير أن يقوم ذلك على دين أو شرع!!

ولا عجب؛ فإن الفلسفة -في الأصل- لا تؤمن بدين ولا رسالة، والحياة -في تصور الفلاسفة- لا تستقيم إلا بالأخلاق والفضائل، والدين عندهم -إن كان ولا بد دين- يقوم على الأخلاق والفضائل فحسب؛ ولهذا كان المقصود من الشريعة -عندهم- مجرد تهذيب الأخلاق، وهذا أمر يعرفه من درس أحوالهم وعقائدهم، الشريعة -عندهم- مجرد تهذيب الأخلاق، ونفس الفلسفة -عندهم- هي التشبه بأخلاق الرب وفضائله -على حد قولهم-.

فلما كانوا في أنفسهم لا يعقلون من الدين إلا هذا، فقد كان تصورهم للمجتمعات والمدن البشرية لا يقوم إلا على هذا: المجتمعات البشرية والمدن الإنسانية لا تقوم إلا على ساق الأخلاق فحسب، فلا وجود -عندهم- لدين ولا شرع، ومن تصوَّر منهم الدين في المجتمعات والمدن؛ جعله دينا شخصيا، لا يتعدى صاحبه، ولا وجود له في الحياة العامة والمجتمع العام؛ فمن أراد -عندهم- أن يتدين؛ فليفعل: من أراد أن يكون مسلمًا؛ فليفعل، ومن أراد أن يكون يهوديا؛ فليفعل، ومن أراد أن يكون نصرانيا؛ فليفعل، ومن أراد أن يعبد شجرا أو بقرا أو حجرا؛ فليفعل؛ المهم: أن يكون ذلك في خاصة نفسه وضميره ومحرابه، لا يتعداه إلى حياة غيره من الناس.

وهذا هو ما يُسمَع الآن، فالآن يقول من يقول -وقد كانوا من قبل يقولون-: الدين في المساجد، والمحاريب، والصوامع!! يريدون بذلك: لا يتدخل الدين في حياة الناس: في مجتمعاتهم، واقتصادهم، وسياستهم، وعسكريتهم، وغير ذلك من نواحي حياتهم؛ لا وجود للدين -عند أمثال هؤلاء-.

فهذه هي النظرية الأولى.

والنظرية الثانية: هي التي يقال لها: «نظرية العقد الاجتماعي»، وهي أساس الديمقراطية، وقد تكلمنا عن هذا من قبل، وسنعيد الكَرَّة -إن شاء الله تعالى- في محلها.

نظرية العقد الاجتماعي معناها: أن الشعب يعقد عقدا فيما بينه وبين حكامه؛ لأن الناس لا بد لهم من حاكم وقائد وسلطان؛ فكيف تكون العلاقة إذن بين الحاكم والمحكوم؟

العلاقة -عند العلمانية وأهلها- في هذا العقد الاجتماعي، وهو عقد يكون بين الشعب وحكامه؛ حتى يحكم الحكام على حسب ما يريده الشعب، لا على حسب ما يريد الحكام، ومن باب أولى -عند العلمانية وأهلها-: لا على حسب ما يريده أحد غير الشعب، أيا كان، وإن كان رب الشعب!!

وهذه النظرية -كما سبق شرحه- راجعة إلى معتقد الفلاسفة -أيضا-: من أن الله -تعالى- لم يخلق العالم، فالعالم -عند الفلاسفة- قديم، أي: لم يُخلَق، لم يخلقه الله؛ والناس -عند الفلاسفة، وعند أهل هذه النظرية- إنما وُجدوا وخُلقوا في فوضى وهمجية، من غير تنظيم، ومن غير تدبير، ومن غير تصريف!!

وكيف هذا، وأبو البشر آدم -عليه السلام- إنما أُهبط من الجنة إلى الأرض بتشريع ودين وأحكام؟!

ولكنهم بهذا لا يؤمنون، ولا يعترفون؛ وليس لنا شأن بهم، ما دمنا أصحاب دين وعقيدة ومبدأ، وإنما يكون الشأن -عياذا بالله تعالى- عند المخنَّثين من المسلمين، الراضعين لَبان الغرب الرَّكيس، عندما يتنازلون عن دينهم وعقيدتهم ومبدأهم.

فالنظرية -وقانا الله الفتن وأهلها- قائمة على أن الشعب لا يُحكَم إلا بما يريد، فالحكم له، والأمر له، والحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه!!

وهذا هو ما يُسمَع الآن: الحكم للشعب، والإرادة للشعب، والأمر للشعب!!

أفلا قلتم: لله؟! حتى وإن وسَّدتم الأمر -عمليا- إلى الشعب، أفلا قلتم -ولو ظاهرا-: الحكم لله، والأمر لله، والتشريع لله؟! فالله المستعان على غربة الإسلام وأهله في هذا الزمان.

النظرية الثالثة -إخوة الإسلام- يقال لها: «نظرية الحق الإلهي»، وهذه النظرية -على عكس ما تقدم- تؤيد الحكم الديني؛ ولكن من منظور الغلو، الذي كان عليه القساوسة، فنفَّروا به عن الدين.

القساوسة -كما عرفنا، وكما هو معروف في دين النصارى- يعتقدون أنهم نُوَّاب للرب، فكل كلامهم، وكل أقوالهم، وكل أوامرهم وتشريعاتهم: من عند الرب؛ هذا هو منظور الغلو، الذي غلا به النصارى في دينهم، فنفَّروا الناس عنه، وأدَّى صنيعهم هذا إلى ما عرفناه من الثورة عليهم في بلاد الغرب.

فنظرية الحق الإلهي تفترض أن الحكام الذين يسوسون الناس إنما يفعلون ذلك بحق إلهي، فأوامرهم واجبة التنفيذ، لا يحل خلافها، ولا الاعتراض عليها، ولا مناقشتها؛ لأنها -عندهم- آتية من عند الله.

ولهذا تسمع من المتكلمين في هذا الباب من يأتي بمصطلح: «الدولة الثيوقراطية»، ويتكلمون عليها بالإنكار الشديد، والخوف الرهيب؛ لأنهم يقصدون بها هذا المفهوم الديني المتطرف -عند الغرب وأهله-.

ولا شك أننا لا ندعو إلى هذا؛ بل الإسلام يباينه، ويرفضه، ويدعو إلى خلافه، فليس الحاكم نائبا عن الله -تبارك وتعالى-، وليس أحد من الناس -أبدا- نائبا عن الله -عز وجل-، بمعنى أن أقواله تُسمع دائما، ولا يُعترض عليها، ولا يتطرق إليها الخطأ؛ هذا لا وجود له في دين الله -تبارك وتعالى-.

فهذه النظرية -إخوة الإسلام- أيَّدت هذا الأمر، فاشتركت في التنفير عنه عند الناس، واشتركت مع النظريات السابقة في تأكيد فصل الدين عن الدولة -في مجال الحكم والتشريع-.

هذه هي أصول العلمانية -في هذا الباب-:

نظرية تفترض وجود الحياة بالأخلاق فحسب -من غير دين-.

ونظرية تفترض أن الشعب لا يُحكَم إلا بإرادته، من غير تدخل من أحد.

ونظرية تؤكد أن الحاكم إذا حكم على غير ما يريده الشعب؛ فإنما يفعل ذلك إذا كان له حق إلهي.

فتأكد الأمر ورسخ عند القوم، وخافوا من كل ما فيه تعلق بالدين؛ لأنهم لم يفهموا إلا ما كان عليه الغرب، وما كان عليه القساوسة -في غلوهم وطغيانهم وصدِّهم عن سبيل ربهم-.

ولهذا تسمع الرعب الشديد والخوف الشديد من الدولة الدينية، ويقال: الدولة الدينية دولة كهنوتية، لا اعتراض فيها، ولا مناقشة، ولا كذا ولا كذا؛ لأنهم لم يعقلوا من النظام الإسلامي إلا ما هو موجود عند الغرب الكافر، وهذا غلط عظيم، لا بد من إيضاحه؛ حتى تنكشف الشبهة في هذا الباب.

فهذه أصول العلمانية في باب الحكم، وعليها قامت دعوتها من فصل الدين عن الحياة، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يقينا الشر كله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوة الإسلام عباد الله، إن نَقْضَنَا لأصول العلمانية -في باب الحكم والتشريع- سيكون -إن شاء الله تعالى- من خلال ثلاثة جوانب رئيسية:

الجانب الأول: جانب إجمالي، نرد فيه ردا إجماليا على ما ذكرناه من أصول العلمانية ومذهبها -في هذا الباب-.

والجانب الثاني: جانب تفصيلي، نتعرض فيه لما شاء الله -تعالى- من محاسن الشريعة الإسلامية، وبيان مواطن كمالها وتمامها، وبعض ما فيها من الأحكام البديعة والأسرار العظيمة، التي تتجلى فيها حكمة الرب -تبارك وتعالى- في تشريعه -على حسب ما يظهر لنا-، وكلامنا في هذا هو كلام علمائنا، ومهما تكلم العلماء أو غيرهم في هذا الباب؛ فإن الأمر كما قال الخضر لموسى -عليهما السلام- وقد وقف عصفور فنقر بمنقاره في البحر، قال الخضر: «ما علمي وعلمك من علم الله
-تعالى- إلا كما أخذ العصفور بمنقاره من هذا البحر».

فهذا باب جليل شريف: الكلام في مقاصد الشريعة وأحكامها وأسرارها؛ فنستعين بالله -تبارك وتعالى- في بيان ما تيسر من هذا الباب -في العقائد والعبادات والمعاملات-؛ حتى يتبين لنا ولغيرنا أن الشريعة كاملة، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وأن من اتهمها إنما يتهم الرب -سبحانه وتعالى-، ويطعن فيه وفي حكمته.

وهذا الباب باب عظيم جدا لزيادة الإيمان في القلب، ومحبة الله -تبارك وتعالى- وتعظيمه وخشيته؛ فإن الأمر -كما هو معلوم في النصوص الشرعية، وعند أهل الحق- أنه كلما زاد علمك بالله ودينه، كلما زاد إيمانك به، وكلما زادت محبتك له، وكلما زادت خشيتك منه، ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، فكلما زاد العلم بالله -تعالى- وأسمائه وصفاته، وكلما زاد العلم بأحكامه وتشريعاته؛ كلما زادت محبته، وزادت خشيته، وزاد الإيمان به.

الجانب الثالث -إن شاء الله تعالى-: في نقل شهادة القوم على أنفسهم بفشلهم في هذا الباب، عندما حاولوا أن يوجدوا البدائل للإسلام؛ إذا كانوا لا يريدون النظام الإسلامي، وإذا كانوا
لا يريدون الدين والشرع في حياتهم وسياستهم؛ فما بدائلهم إذن؟!

سنتعرض لطرف من ذلك، ونبيِّن مواطن الفشل فيه -بشهادة القوم على أنفسهم-؛ حتى تقوم الحجة على الخلق، وحتى يتحقق تصديق قول ربنا -جل وعلا-: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].

ونعجِّل في مقامنا هذا -إن شاء الله تعالى- بالجانب الإجمالي، لاسيما وأنه تذكير بما مضى.

لقد عقدنا خطبة -بحمد الله تعالى- منذ نحو العامين، تكلمنا فيها على العمل السياسي، ورددنا -بحول الله تعالى- على الذين يدعون إلى فصل الدين عن السياسة، وذكرنا أَوْجُهًا خمسة، أذكِّر بها في مقامي هذا -على عَجَل-؛ حتى يُعرف الرد الإجمالي -إن شاء الله تعالى-.

الوجه الأول -وهو ما افتتحنا به رحلتنا مع العلمانية-: الحاجة إلى الدين والشرع.

وذلك بمقتضى أن الناس مخلوقون مربوبون لله -سبحانه وتعالى-، لم يخلقوا أنفسهم، ولم يخلقهم أحد غير رب العزة -تبارك وتعالى-؛ فنحن مخلوقون موجودون في هذا الكون، والله -تعالى- هو الذي خلقنا وفطرنا من العدم، وخلق كل شيء تراه أمامك في هذا الكون.

والله -سبحانه وتعالى- لما خلق الخلق؛ اقتضت حكمته ألا يتركهم سدى -بلا أمر ولا نهي-، وألا يَكِلَهم إلى أنفسهم وأهوائهم؛ فإن الأمر لو كان كذلك؛ لكان حياتهم فوضى؛ فإن الناس تتباين أهواؤهم، وتختلف أفكارهم، فلو رُدُّوا إلى عقولهم؛ فلكل واحد عقل، ولن تستقيم حياتهم أبدا -والحال هكذا-.

فكان من حكمة ربنا -تبارك وتعالى- وهو خالقنا والعالم بنا: ألا يَكِلَنا إلى أهوائنا، فلا بد من الأمر والنهي، ولا بد من التكليف والتشريع، وعليه تقوم قاعدة الثواب والعقاب؛ فالله -تعالى- خلق الجنة والنار، وجعل الجنة لأوليائه، وجعل النار لأعدائه، فهناك ثواب وعقاب وجزاء، ولا بد أن يكون كل ذلك مبنيا على تكليف وشرع، فأنزل الله -تعالى- الكتب، وأرسل الرسل، حتى يبيِّن للناس مراده، وحتى يبيِّن لهم دينه وشريعته.

وهذا أمر عام في كل شيء، في كل نواحي الحياة، لا يقتصر على الجوانب العقدية أو التعبدية؛ بل لا بد أن يشمل أمور الحياة جميعا؛ وإلا لكان الرب متناقضا –وحاشاه-، ولو نُسب شيء من ذلك إلى ملوك الناس؛ لكان عيبا فيهم؛ فكيف بملك الملوك، ورب السموات والأرض؟!

فحاجتنا -إذن- إلى الدين والشرع حاجة ضرورية، لا جدل فيها ولا مرية، والفرار منها فرار من نفس الفطرة، ومن نفس العقل.

الوجه الثاني: بمقتضى ما سبق: أن الله -تعالى- أمرنا ونهانا؛ فقد أمرنا -جل وعلا- بطاعته، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتحكيم دينه وشريعته في الصغير والكبير.

فهذا أمر إلهي، وفرض رباني، لا خيار فيه ولا جدال، والآيات والأحاديث في هذا قد ذكرناها كثيرا، وهذا أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام.

فلا بد من طاعة الله والرسول، ولا بد من تحكيم الدين والشرع في كل شيء، لا نجد فرقا ولا تفصيلا بين حالة وأخرى، ولا نجد استثناء لحالة بعينها لا يُحكَّم فيها الشرع.

الوجه الثالث: بمقتضى ما سبق -أيضا-: أننا نجد بالضرورة أحكاما في شريعتنا تعود إلى دنيانا، نجد أحكاما تعود إلى طعامنا، وشرابنا، ولباسنا، وركوبنا، وتعاملنا مع الناس، وأمور السياسة والتشريع وتنظيم الأحوال؛ فكيف نفسر هذا؟! إذا كان هناك من يقول: لا يتدخل الدين في الحياة؛ فكيف يفسر هذا مع ذاك؟!

فهذه الأحكام البيِّنة الواضحة تدل دلالة قطعية على أن الدين يتدخل في حياة الناس، وينظِّمها، ويصرِّفها؛ ولولا ذلك؛ لكان الرب متصفا بالعبث -وحاشاه-.

الوجه الرابع: في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- العملية، وخلفائه الراشدين -رضي الله عنهم- من بعده.

هل نجد في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء من بعده فصلا بين دين ودولة؟! ألم يُقِم النبي -صلى الله عليه وسلم- دولة؟! ألم تكن له حكومة؟! ألم تكن له سياسة؟! أفكان يفرِّق فيها بين دين ودنيا، وبين شريعة وسياسة؟!

الجواب: لا، بل كان يتصرف دائما بمقتضى الوحي والأمر الإلهي، ولكم في قصة الحديبية عبرة، وهي قصة في باب السياسة -بالدرجة الأولى-، والتعامل مع الكفار بالصلح وغيره؛ فانظر كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصدر عن الدين والوحي، الذي يجيئه من عند ربه -جل وعلا-.

وإن قيل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- معصوم؛ فما يقال في خلفائه من بعده؟! أكان الخلفاء يفصلون بين دين وسياسة؟! أكان الخلفاء يقولون: لا دخل للأحكام الشرعية في السياسة الدنيوية؟! أم كان نفس الخلفاء علماء بالشريعة مجتهدين فيها؟! وهل كان الواحد منهم -عندما تعرض له النازلة- يجمع لها غير أهل الشريعة؟! لقد كانوا يجمعون العلماء بالشريعة، حتى يفتوا في النوازل السياسية، ما كان هناك فصل بين علماء بالشريعة، وعلماء بالاقتصاد، وعلماء بالصناعة، وعلماء بالزراعة؛ فإذا أتت النازلة الاقتصادية -مثلا-؛ فإنه لا دخل لأهل الشريعة فيها!!

هذا أمر لا وجود له في الإسلام أبدا، ما عرفه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا عرفه الخلفاء الراشدون، ولا أحد من ملوك الإسلام وخلفائه من بعد، وإنما أتانا هذا الأمر من الغرب.

الوجه الخامس -والأخير-: أن علماء الشريعة قد اعتنوا ببيان الأحكام السياسية، وصنفوا في ذلك المصنفات في السياسة الشرعية، والأحكام السلطانية، وغير ذلك، وهذا مُجمَع عليه عند العلماء، لا اختلاف فيه؛ فكيف يُفسَّر هذا؟! وأين نذهب به؟! أفكان صنيعهم عبثا؟! أفأجمعت الأمة على ضلالة؟! اللهم لا.

فبهذه الأوجه -إخوة الإسلام- يُعلم الرد الإجمالي على فصل الدين عن الدولة -في أمور الحكم والتشريع-، ثم إننا من بعد ذلك -إن شاء الله تعالى- نتعرض لما شاء الله من الكلام على محاسن الشريعة وكمالها وتمامها، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد بالإسلام وأهله سوءا فاقصم ظهره، واجعل تدبيره في تدميره، ولا تمكن له أبدا يا رب العالمين، ومن أراد بالإسلام وأهله خيرا فوفقه لكل خير، وأعنه على ما يريد، اللهم اكفنا الفتن وأهلها، اللهم عليك بأهل الفتن، اللهم عليك بأهل الفتن، اللهم عليك بأهل الفتن، اللهم قنا شرهم وفسادهم وضررهم يا رب العالمين، ولا تمكن لهم فينا أبدا يا أرحم الراحمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت