تهافت العلمانية
(الخطبة السادسة)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-،وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهذا أوان الشروع في الرد التفصيلي على دعاة العلمانية في مجال الحكم والتشريع، وقد ذكرنا أن هذا الرد سيكون في صورة الحديث عن محاسن الشريعة وفضائلها.
وكما نوَّهْنا به؛ فإن هذا الباب في غاية الجلالة، يستدعي بسط القول فيه دهورا طويلة، تفنى دونها الأعمار, ولا يُتوصل -مع ذلك- إلى جميع تفاصيل الحكمة الإلهية في الحكم والتشريع، فسيقتصر حديثنا -إن شاء الله تعالى- على جملة مختصرة جامعة، نطوف فيها في مختلف أبواب الشريعة ومسائلها، ونتعرف على مواطن جامعة للحكمة الإلهية فيها.
ونستهل حديثنا اليوم بتقديم وتمهيد، نذكر فيه بعض القواعد الجامعة، في اشتمال الشريعة على أتم صور الحكمة والسداد، والعدل والرشاد.
* القاعدة الأولى: في أن الشريعة حكيمة تامة، حكيمة: لا عبث فيها ولا ظلم ولا جور، تامة: لا نقص فيها ولا خلل.
وهذه قضية عقلية بدهية فطرية، لا يخالف فيها عاقل راشد، يؤمن بالله -تعالى- ربا وإلها؛ فإن الشريعة إنما جاءت من عند الله -عز وجل-، والله -تعالى- هو خالق الكون وفاطره وإلهه، والخالق البارئ لا بد أن يكون له كل كمال، ولا بد أن يمتنع عنه كل نقص، فالله -تعالى- متصف بالكمال في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله، لا يجوز عليه نقص في ذلك بوجه من الوجوه، ومن أفعاله -جل وعلا-: الحكم والتشريع، فلا بد أن يكون حكمه وتشريعه في غاية من الكمال، لا يجوز عليه شيء من النقص؛ هذه قضية لا يخالف فيها من ينتسب إلى هذا الدين العظيم.
فلا بد أن تكون الشريعة -إذن- كاملة تامة، ولا يُتصور فيها ولا يُعتقد -ابتداء- أنها تشتمل على شيء من العبث أو الظلم أو النقص.
وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- ذلك في مواطن من الكتاب، منها: قوله -عز وجل-: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 41-42]، فبين أن هذا الكتاب -الذي هو المرجع الأول في الحكم والتشريع- إنما هو منزل من عنده، وما كان منزلا من عنده كان لا بد أن يكون تاما كاملا، فقال: ﴿ لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ لا يأتيه الباطل، لا يأتيه العبث، لا يأتيه الجور، لا يأتيه النقص، لا يأتيه العيب في أية صورة من الصور؛ وكيف لا وهو ﴿ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾؟ ﴿ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ ﴾ يضع الشيء في موضعه، لا يجوز عليه عبث ولا لعب ولا ظلم ولا عيب، وهو مع ذلك ﴿ حَمِيدٍ ﴾ أي محمود على حكمه وتشريعه؛ لأنه يشتمل على غاية الحكمة والعدل، وما كان كذلك استحق أن يحمد عليه.
ويقول -جل وعلا-: ﴿ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ﴾ [المائدة: 3]، فبين أنه أكمل الدين، وأتم النعمة، فما أكمله لا يكون إلا تاما، وما أتمه لا يكون إلا كاملا، فلا يجوز أن يدعى فيه من بعد ذلك نقص أو خلل.
ويقول -جل وعلا-: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، ما ظنك بشيء تعهد الرب -جل وعلا- بنفسه بحفظه؟ أيكون ناقصا؟ أيكون معيبا؟ اللهم لا.
ويقول -سبحانه وتعالى-: ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: 49]، فأمر أن يحكم بما أنزل، ونهى عن اتباع الأهواء، فلا يحكم إلا بما أنزله -جل في علاه-؛ لأنه تام لا نقص فيه ولا عيب، وأما الأهواء فإنها معيبة ناقصة، لا يتحاكم إليها، ولا يحكم بها في صغير ولا كبير.
فهذا طرف مما يقرر الأمر، وهو -بحمد الله تعالى- من أظهر ما يكون، لا يجادل فيه مسلم -ولله الحمد-.
وعليه؛ فالذي يتصور ابتداء، أو يعتقد ابتداء، أو يروج ابتداء: أن الشريعة ناقصة أو معيبة؛ هو في حقيقة أمره لم يؤمن بالله -جل وعلا-، ولم يوحده على الحقيقة، فعليه أن يراجع إسلامه، عليه أن يراجع تدينه، عليه أن يراجع عقيدته؛ فإن اتهامه للشريعة اتهام للرب -جل وعلا-، ومن اتهم ربه، فانتقصه أو عابه؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وخرج من هذا الدين.
فالحذر الحذر؛ فإن الأمر خطير، ليس باليسير.
* القاعدة الثانية: في أن الشريعة موافقة للعقل والفطرة، لا يكون بينها تعارض وبين العقل الصريح والفطرة السوية.
وهذا مبني على كمالها وتمامها؛ فإن من كمالها وتمامها أن تكون موافقة لما فطر الله العباد عليه، وإنها لو جاءت بخلاف ذلك، لو جاءت بخلاف الفطرة، وبخلاف العقل الصريح؛ لردها الناس، ولما قبلوها، ولكان تكليفهم بها عبثا، ووضعا للشيء في غير موضعه، وقد عرفت أن الله منزه عن ذلك.
فمن كمال الرب -تبارك وتعالى- في حكمه وتشريعه: أنه جعل شريعته موافقة لما خلق العباد وفطرهم عليه.
وبناء على ذلك؛ فالشريعة لا تأمر إلا بما فيه مصلحة للخلق، ولا تنهى إلا عما فيه مفسدة للخلق، لا يمكن أن يُتصور فيها غير هذا، وإلا لكان نقصا فيها، وفي الرب -عز وجل-.
وقضية التحسين والتقبيح قضية جليلة، وقد تناولنا منها طرفا من قبل، وحاصل ما يعتقده أهل الحق: أن الله -تبارك وتعالى- لا يأمر إلا بما هو مستحسن في العقول والفِطَر، ولا ينهى إلا عما هو مستقبح في العقول والفِطَر، فلا يمكن أن تستحسن الفطرة شيئا فينهى الله عنه، ولا يمكن أن تستقبح شيئا فيأمر الله به.
وقد بيَّن الله -تعالى- ذلك -أيضا- فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾ [النحل: 90]، وقال -جل وعلا- في شأن رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157].
فتأمل -رحمك الله تعالى- كيف بين الله -عز وجل- أنه لا يأمر إلا بما هو حسن، ولا ينهى إلا عما هو قبيح، وبهذا بعث رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ولما ادعى الكفار أن الله -تعالى- يأمر بالفحشاء، فقالوا -كما حكى الله عنهم-: ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾، فرد عليهم قائلا: ﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 28]، فلا يأمر -جل وعلا- بأمر فاحش، لا يأمر بأمر قبيح، لا يأمر بأمر مرذول، لا تقبله الفطرة ولا يقبله العقل؛ فلا بد أن يعرف هذا -أيضا-، هذه قاعدة من أهم القواعد التي تبين كمال الشريعة وتمامها.
فمن ادعى أن شيئا من الشريعة يكون على خلاف المعقول الصريح والفطرة السوية؛ فقد تجنى عليها، ونسب النقص إلى الرب -تبارك وتعالى-.
* وينبني على هذه القاعدة -عباد الله -قاعدة أخرى، وقد أشرت إليها في ثنايا الكلام، وهي: أن الشريعة آتية لتحقيق مصالح الخلق.
لا يُتصور فيها إلا هذا، وهو من كمالها وتمامها، فالشريعة لا تأمر إلا بما فيه مصلحة للخلق، لا تأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا تنهى إلا عما فيه مفسدة للخلق، لا تنهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة.
فإذا أمر الله بشيء؛ فلا بد أن تكون فيه المصلحة، عرفت ذلك أو جهلته، عقلته أو لم تعقله.
وإذا نهى الله عن شيء؛ فلا بد أن تكون فيه المفسدة، عرفت ذلك أو جهلته، عقلته أو لم تعقله.
فعلى العبد المسلم أن يسلم لربه -تبارك وتعالى-، ويعتقد فيه الكمال والتمام، ولا يجوز له أن يتهم ربه في تشريعه، لا يجوز له إذا أمره ربه بشيء أن يقول: إن مفسدته أرجح، ولا يليق هذا ولا يصح، وكذلك بالعكس فيما نهى الله عنه.
فاتق الله -عبد الله-، واحذر أن تتجنى على ربك، وأنت قاصر العقل والتفكير، الله يعلم ونحن لا نعلم، عليك أن تسلم أمرك لله -تعالى-، وعليك أن تعتقد اعتقادا جازما أن الشريعة كاملة، وأن الرب حكيم، وأن المأمور به لا يكون إلا صلاحا، وأن المنهي عنه لا يكون إلا فسادا.
هذه قاعدة مطردة، وقد ذكرنا آنفا قول الله -تعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى﴾، أمصلحة هذه الأمور أم مفسدة؟ لا شك أنها مصلحة، ﴿ وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾، أمصلحة هذه الأمور أم مفسدة؟ لا شك أنها مفسدة.
وذكرنا قوله -تعالى-: ﴿ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ﴾ الذي هو المصلحة، ﴿ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ﴾ الذي هو المفسدة، ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾ التي هي المصلحة، ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ﴾ التي هي المفسدة.
واستمع إلى قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: «ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعرفه لهم، وأن يحذرها من شر ما يعرفه لهم».
كلام واضح فصل، ما هو بالخفي ولا الهزل؛ فإياك وأهل الهزل، الذين يعيبون الشريعة، وينتقصون الرب، ويتهمون الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
الشريعة ما جاءت إلا لتحقيق مصالح الخلق، ومنافعهم، وأمنهم، واستقرارهم، واستقامتهم؛ فمن نسب إليها خلاف هذا؛ فقد تجنى عليها، وعلى الرب -تبارك وتعالى-.
أسأل الله أن يقينا الفتن كلها، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
* الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله أحسن الخالقين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
* القاعدة الرابعة -إخوة الإسلام-: في أن الشريعة جاءت بإخراج العبد عن داعية الهوى؛ حتى يكون عبدا خالصا للرب -جل وعلا-.
الشريعة جاءت بعدم تحكيم الأهواء، وعدم الرجوع إليها، وعدم الاعتماد عليها، جاءت بإخراج العبد عن داعية هواه وشهوته؛ حتى تتمحض عبوديته لله -تبارك وتعالى-.
وهذا -أيضا- من كمالها وتمامها، وعدلها وإحسانها؛ فإن العبد مخلوق مربوب، وما خُلق أصلا إلا ليكون عبدا؛ كما قال -تعالى-: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فما خلقتَ -أيها الإنسان- إلا لتكون عبدا خادما مطيعا لرب قد خلقك وفطرك، فلا بد أن يكون تكليف الرب -إذن- خادما لهذه الغاية وموصلا لها، ولو كان الأمر بخلاف هذا؛ لتعارضت الأشياء، ولكان الرب متصفا بالعبث -وحاشاه-، كيف يطلب منك أن تكون عبدا، ثم يكلفك بما يخرجك عن مقتضى العبودية؟!
لا بد أن يكون التكليف موصلا إلى غاية العبودية، لا بد أن يكون التكليف جاعلا لك عبدا مربوبا مطيعا لله -سبحانه وتعالى-، وهذا لا يتم ولا يتحقق إلا أن تتخلى عن هواك؛ فإن لكل واحد فينا هوى، والهوى هو الميل والرغبة، وقد ركب الله -تعالى- فينا شهوة، تميل إلى كذا ولا تميل إلى كذا، ولا بد أن يكون التكليف منصبا على هذا؛ حتى يتحقق الابتلاء: يمنعك الله -تعالى- شيئا وأنت تريده؛ لأنه يضرك، ويأمرك بشيء وأنت تستثقله أو تكرهه؛ لأنه ينفعك، وهذه جملة سنتعرف عليها بالتفصيل -إن شاء الله تعالى-.
فلا بد أن تُمتحن، ولا بد أن تُبتلى؛ حتى يتحقق التمحيص، وحتى يتميز المؤمن من الكافر، والطائع من العاصي، وهذه قاعدة الثواب والعقاب والعطاء والمنع، إنها غاية الحكمة من الرب -جل وعلا-، وغاية العدل، فلا بد أن تنخلع من هواك، ولا بد أن تجاهد نفسك وشهوتك؛ حتى تتمحض عبوديتك لله -عز وجل-.
فالله -تعالى- أمرك أن تصلي، أو تصوم، أو تزكي، أو تحج، إلى غير ذلك من التكاليف، والتكليف لا بد أن يكون فيه مشقة على النفس، وسأشير إلى قضية المشقة بعد قليل، فالله -تعالى- يأمرك حتى يبتليك: أتتحمل هذا عبوديةً لربك -جل وعلا-؟ وهو ينفعك أنت، لا ينفع الرب، فالله -تعالى- لا ينتفع منا بشيء، ولا يستفيد منا بشيء، هو الغني عن عباده أجمعين، فهو يأمرك لينفعك، يأمرك ليثيبك، يأمرك ليعززك في جنته ودار كرامته، فأنت المستفيد، لا هو.
وكذلك في النهي: ينهاك عن الزنا، ينهاك عن الربا، ينهاك عن شرب الخمر، ينهاك عن كذا وعن كذا مما تميل نفسك إليه؛ ولكنه يمتحنك؛ لأن هذه الأشياء تضرك، وإن أحببتها وملت إليها، لكن ضررها أرجح، فالأمر في النهي كذلك سواء.
فلا بد أن تنخلع من هواك وشهوتك، ولا بد أن تجاهد نفسك؛ حتى تكون عبدا لله على الحقيقة.
ولهذا نهى الله -تعالى- كثيرا في القرآن عن اتباع الهوى، وقد ذكرنا هذا من قبل في افتتاحية هذه السلسلة، ذكرنا قوله -تعالى-: ﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26]، وذكرنا قوله -تعالى-: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾ [المؤمنون: 71]، نعم؛ لأن الله -تعالى- خلق أهواءنا متفاوتة متباينة، كل واحد يميل إلى شيء، يميل غيره إلى خلافه، والعكس صحيح، وعقولنا متفاوتة، وآراؤنا متباينة، فإلى أي شيء نحتكم؟! لو حكمنا أهواءنا؛ لفسدت حياتنا ولاضطربت.
ولعلكم تعايشون هذا واقعا ملموسا منذ بداية الفتن، فلا نحتاج إلى مزيد من الكلام، يجلس الناس حتى يتفقوا، فلا يتفقون!! لأن أهواءهم مختلفة، ولأن آراءهم متباينة، ولأن أهدافهم متضادة، فلا بد أن يحكم فينا قانون إلهي معصوم، لا يتطرق إليه خطأ ولا عيب؛ حتى يفصل بيننا النزاع.
فعلينا أن ننخلع من أهوائنا، وعلينا أن نحكم ديننا؛ حتى تتمحض العبودية لله -عز وجل-، وهي الغاية التي لأجلها خُلق الخلق.
* القاعدة الخامسة: في أن الشريعة لا تأتي بما فيه حرج للعباد، ولا عنت، ولا ضيق.
لا تأتي الشريعة إلا باليسر والسماحة والسهولة؛ كما قال -تعالى-: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، هذا نفي بليغ من الله -تبارك وتعالى- لكافة صور الحرج وأشكاله، فمهما كان من حرج فإنه منفي عن شريعة الله -تبارك وتعالى-.
وقال -جل وعلا-: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال -تعالى-: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ﴾ [النساء: 28]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الدين يسر»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين».
وهذه القاعدة -بارك الله فيكم- تدخل في مسائل وأبواب من الشريعة لا يحصيها إلا الله، ومن القواعد التي تنبني عليها: أن شرط التكليف القدرة والاستطاعة، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة، وأن المشقة تجلب التيسير؛ هذه قواعد في دين الله -تبارك وتعالى- ينبني عليها التشريع، ويعتمد عليها أهل العلم، وهي موجودة في كافة الأبواب والمسائل، وسنتعرف على الأمثلة -إن شاء الله-.
فلا يجوز لك -أيها المسلم- أن تتصور أن الله يحرجك أو يعنتك، مهما كان الأمر ثقيلا عليك، فإن التكليف لا بد فيه من ثقل حتى يتحقق الابتلاء؛ ولكنه ثقل محتمل.
الصلاة فيها ثقل، والله -تعالى- يقول: ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ﴾ [البقرة: 45]، ولكن ثقلها محتمل، تستطيع أن تقوم، تستطيع أن تصلي، والصلوات عددها محدود، وركعاتها محدودة، ولم يكلفك الله فيها إلا باليسير: قراءة يسيرة، دعاء يسير، ذكر يسير.
وإنما الحرج المنفي في الشريعة هو الحرج الذي لا تطيقه ولا تحتمله، بأن يكون خارجا عن احتمالك أصلا.
حتى في نفس الصلاة التي تستطيعها؛ هناك أحكام مخففة: صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب؛ تتوضأ للصلاة، فإن لم تستطع تيممت؛ وهكذا، فحتى هذه الأحكام -التي هي في نفسها مخففة-، قد لحقها التخفيف في مواطن أخرى، وفي حالات أخرى.
فليس في الشريعة -أبدا- حرج ولا عنت، وإياك وأهل العنت، الذين هم المتشددون على الحقيقة، والمتكلفون على الحقيقة، لا نحن، لا أهل الشريعة.
أهل الشريعة ليسوا متشددين، وليسوا متعنتين، وليسوا متطرفين، وإنما التطرف فيمن أساء فهم الشريعة، لا فيمن يدعو إليها على سماحتها ويسرها، وعلى حسب ما يريده الله، وعلى حسب ما بعث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ أما الذين يسيئون الفهم؛ فصنيعهم على أنفسهم، الذين لا يعرفون الشريعة صنيعهم على أنفسهم، لا يُنسَب إلى الشرع أبدا، ولا ينسب إلى أهل الاعتدال والوسطية، الذين يحققون قول الله -تعالى-: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ [البقرة: 143].
والوسطية هي الشرع، ليست الوسطية في الأهواء، ليست الوسطية فيما تريده أنت، فيما تحبه أنت، فيما تميل إليه أنت؛ لأن الشريعة آتية بالإخراج عن داعية الهوى، فالوسطية لا تكون إلا في نفس الشريعة، ما أمر الله -تعالى- به فهو الوسط، وهكذا في سائر التكليفات والتشريعات.
فليس في الشريعة حرج، إياك أن تستثقل الشريعة، إياك أن تتحرج من الشريعة، إياك أن يضيق صدرك بأن يحكم فيك شرع منزل من عند الله -تبارك وتعالى-؛ فإن هذا أمر خطير، نعوذ بالله -تعالى- منه، ونسأله أن يتوفانا على التوحيد والصدق -وهو راض عنا-.
* وإمعانًا في بيان مرونة الشريعة وسماحتها؛ نأتي بالقاعدة الأخيرة في مقامنا هذا، وهي التي تحقق صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان:
الشريعة تراعي اختلاف العوائد، وهناك قاعدة جليلة يقررها أهل العلم، وهي: اختلاف الفتيا باختلاف الزمان والمكان والأحوال.
فالأحكام ثابتة، الأحكام الشرعية ثابتة لا تغير فيها، ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ [الأنعام: 115]، ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ [يونس: 15]؛ هكذا قال الله.
فالأحكام الشرعية ثابتة، لا تغيُّر فيها؛ ولكن التغير في ظروف الناس، وأحوالهم، وعوائدهم يستدعي تغيرا في الإفتاء.
وهذا موجود في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء من بعده، والأمثلة كثيرة.
منها -بشأن الرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام-: أنه نهى في أول الأمر عن كتابة حديثه، وقال: «لا تكتبوا عني سوى القرآن، ومن كتب عني شيئا سوى القرآن فليمحه»، ثم إنه بعد ذلك رخص في الكتابة، وكتب في حياته -صلى الله عليه وسلم- غير واحد من الصحابة، وفي الحديث المعروف: «اكتبوا لأبي شاة»، لما خطب -عليه الصلاة والسلام- في مكة بعد الفتح، فطلب أحد الناس أن تكتب له خطبته، فقال: «اكتبوا لأبي شاة».
قال أهل العلم: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أولا عن كتابة الحديث؛ خشية أن يختلط بالقرآن ولا يتميز، فلما أُمنت هذه المفسدة، وعُرف القرآن وتميز؛ أمر -صلى الله عليه وسلم- بكتابة الحديث، فهذا اختلاف في أمره وفتواه -صلى الله عليه وسلم- على حسب اختلاف الظروف.
وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضا-: «إني نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي»، كان -صلى الله عليه وسلم- قد نهى أن تدخر لحوم الأضاحي، ثم إنه رخص في ذلك، فقال: «كلوا وتصدقوا وادخروا»، ثم بيَّن علة ذلك فقال: «إني كنت نهيتكم من أجل الدافَّة التي دفَّت»، والمقصود: أن أناسا من الفقراء كانوا قد نزلوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنهى عن ادخار لحوم الأضاحي حتى يأخذ هؤلاء نصيبهم.
فهذه أمثلة من السنة النبوية، وفي صنيع الخلفاء كثير، لاسيما الخليفة الراشد فاروق الأمة عمر ابن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-؛ فإنه كان آية من الآيات في هذا الباب، وكانت سياسته سياسة شرعية متبعة عند العلماء، انبنى عليها كثير من الأحكام، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- باتباع سنة الخلفاء.
فمما فعله -رضي الله تعالى عنه -مثلا-: أنه جمع المسلمين على إمام واحد في صلاة القيام في رمضان، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد صلى بأصحابه ليالي معدودات، ثم انقطع، وقال: «خشيت أن تُفرض عليكم»، واستمر الأمر على هذا في خلافة الصديق أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-، حتى مضى صدر من خلافة عمر -رضي الله تعالى عنه-، فرأى أن يجمع الناس على إمام واحد مرة أخرى؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «خشيت أن تُفرض عليكم»، وبوفاته -صلى الله عليه وسلم- أُمن هذا؛ فإن الدين قد كمل وتم، وصار معروفا أن صلاة القيام في رمضان سنة لا فرض، فرأى عمر -رضي الله تعالى عنه- أن يعيد الأمر كما كان؛ حتى يحصل المسلمون الفضيلة، وهو الأمر المعمول به حتى الآن، فكان هذا اختلافا في الفتوى باختلاف الزمان والمكان أو الظروف.
وكان طلاق الثلاث -من قال لامرأته: أنت طالق -ثلاثا- يقع على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- طلقة واحدة، فلما رأى عمر -رضي الله عنه- تسارُعَ الناس في ذلك، أراد أن يعاقبهم، قال: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم»، فجعلها ثلاثا، فكف الناس، فكان هذا اختلافا في الفتوى لاختلاف الظروف.
وهذه قاعدة مجمع عليها عند العلماء، لا خلاف فيها؛ ولكن الشأن كل الشأن في فهمها والعمل بها؛ فإن الجهال كثير، والمميعة كثير، والمتلاعبين بالشريعة وأحكامها كثير، فلا يعول على هؤلاء، وإنما يعول على الراسخين في العلم، الذين يفهمون هذه القاعدة ويطبقونها حق التطبيق، وهذا أمر لا أستطيع أن أتكلم فيه في مقامي هذا، فإنه إنما يوجه لطلبة العلم ودارسي علوم الشريعة.
فتعرف ابتداء -أيها المسلم- أن هذه القاعدة لها ضبط، ولها فقه، لا تطبق هكذا -كيفما اتفق-، بحيث يصير دين الله -تعالى- ألعوبة في أيدي الناس، ويصير خاضعا لأهواء الناس وشهواتهم، تحت مسمى تغير الزمان والمكان والأحوال.
لا بد أن تعرف أن الأحكام ثابتة لا تتغير، وأن منها ما لا يتصور فيه تغير أصلا، وإنما تتغير الفتاوى بحسب اختلاف ظروف المستفتي، بحسب ما هو فيه من مشقة أو ضرورة، بحسب انتفاء بعض الشروط، أو وجود بعض الموانع؛ هذا هو المقصود.
فهذا من مرونة الشريعة، ومن سماحتها، وهو راجع إلى ما تقدم من نفي الحرج عن الخلق، ومن أن التكليف شرطه القدرة، ومن أن المشقة تجلب التيسير، إلى غير ذلك.
فلا يكون أحد في ضرورة حقيقية إلا ويجد في الشريعة ما يفرج عليه، وهذا مثال لا بأس بإيضاحه؛ حتى نقرب المسألة: يأتي شخص يقول: أنا مضطر، أنا مضطر في عملي، مضطر في بيتي، مضطر في تعاملي؛ فهل يجوز لي أن أفعل شيئا حراما؟ إن كان مضطرا فعلا؛ فإنه يجوز؛ ولكن الخلل يأتي في تصور الضرورة، بأن يدعي أنه مضطر، وليس مضطرا، فعليه أن يعرض مشكلته على الراسخين في العلم، وهم الذين ينظرون في حاله، فإن تبين أنه مضطر حقا -على وفق الضرورة الشرعية-؛ فإن الضرورة تبيح المحظور، ويجوز له أن يرتكب بعض المحرمات؛ حتى يخرج من ضرورته هذه؛ هذا من سماحة الشريعة، ومن يسرها، وأما الذي يدعي لنفسه الضرورة، ويقول: أنا مضطر، وهو كاذب على الله، أو كاذب على مفتيه؛ فهو آثم، وصنيعه يعود على نفسه، وهو متلاعب بدين الله -تبارك وتعالى-، لا يجوز أن يوضع تحت مسمى تغير الفتوى أو ما أشبه ذلك.
فهذه قواعد جامعة -إخوة الإسلام-، تعرِّفنا -إجمالا- بعظمة الشريعة وسماحتها ويسرها، وأنها آتية بمصالح الخلق، ونافية للمفاسد عنهم، وهذا هو ما سنتعرف عليه تفصيلا من خلال الأمثلة في العقائد والعبادات والمعاملات، ونسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الفقه والفهم في دينه، وأن يتوفانا على ما يحبه ويرضاه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم اكشف عنا الفتن ما ظهر وما بطن، اللهم اكشف عنا الفتن ما ظهر وما بطن، اللهم اكشف عنا الفتن ما ظهر وما بطن، اللهم أحينا على الإسلام والسنة، وتوفنا على الإسلام والسنة، وأنت راض عنا بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا
|