تهافت العلمانية
(الخطبة الثانية)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-،وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد -عباد الله-؛ فقد تعرفنا على حقيقة العلمانية، وتبين لنا أنها تقوم على فصل الدين عن الحياة، وأنه لا ينبغي للناس في حياتهم أن يعتمدوا على دين ولا شرع، وهذا يتأكد في أمور الدولة -على وجه الخصوص-، ففي مجال الأحكام والقوانين والتشريعات: لا يجوز في دين العلمانية أن يُلتفت إلى شرع يجيء من عند الله؛ بل أمور الحياة كلها مبنية عندهم على ما يتعارفه الناس في دنياهم، من غير أن يتعلق ذلك بدين يجيء من عند الله -تعالى-.
واليوم -إن شاء الله تعالى- نتعرف على نشأة هذا المذهب: من أين جاء؟ وأين نشأ؟
والجواب: أن العلمانية -في أصلها- نشأت في بيئة وثنية، وحياة تقوم على الجاهليات والخرافات، وذلك أن اليونان والرومان -كما هو معلوم- كانوا من أهل الوثنية، يعتقدون في قوى غيبية يسمونها «آلهة»، ويؤمنون أنها تتحكم فيما يحدث في هذه الحياة من خير أو شر، وكانوا يشيِّدون لها الهياكل والمعابد، ويصوِّرون لها الصور والتماثيل، يعبدونها ويتقربون إليها؛ فنشأت العلمانية في هذه الحياة الوثنية -على نفس الصورة التي سبق عرضها من قبل-.
فكان اليونان والرومان يعتقدون أن آلهتهم لا دخل لها بأمور الحياة، وأن الأمر في حقهم يتوقف على مجرد المُثُل والحكم والمواعظ، التي يتحلى بها الناس في سلوكياتهم وأخلاقهم، من غير أن ينبني على ذلك دين وشرع.
وقد أُثر في ذلك كلام عن أحد فلاسفة اليونان، وهو إبيقور، قال: «إن الآلهة يعيشون بعيدا عن العوالم، ولا يهتمون إلا بشئونهم، فلا تعنيهم أمورنا، إنهم يعيشون حكماء سعداء، ويعظوننا بهذا المثال الذي يجب أن نسير على منواله، فلنعتبرهم كمُثُل عليا يقتدى بها، غير أنه يجب علينا ألا نشغل أنفسنا بما يريدونه منا، فإنهم لا يريدون منا شيئا، فهم لا يعيروننا بالا، فلنفعل نحوهم كما يفعلون نحونا».
فنلاحظ في هذا النقل -إخوة الإسلام- أن القوم متأثرون بفكرة الوثنية، لا يؤمنون برب واحد، ولا إله واحد، لا يعرفون الله، ولا يعرفون أنه ربهم وإلههم؛ بل يؤمنون -في زعمهم- بآلهة تتحكم في أمور الحياة، وما يحدث في الكون من تغييرات ونحوها، وهم -في عقيدتهم هذه- يؤمنون بأن هذه الآلهة لا تشرع شيئا، ولا تحكم بشيء، ولا تتدخل في أمور الحياة -على الإطلاق-، وإنما هي بالنسبة إلى الخلق مُثُل عليا يُقتدى بها، ويُتخلق بأخلاقها.
وهذه نظرة فلسفية معروفة، فالفلسفة -عند أهلها- هي التخلق بأخلاق الرب الذي يؤمنون به -في حد زعمهم-، والدين والاستقامة -عندهم- في مجرد التخلق بالأخلاق الحسنة، والسلوكيات الحميدة، والبُعْد عن ضدها من الأخلاق الرذيلة، والسلوكيات الخبيثة؛ وأما فيما سوى ذلك؛ فإنهم لا يؤمنون بأن هناك دينا وشرعا وحكما يجيء من عند الله -تبارك وتعالى-، ينظم كل شيء، ويتحكم في كل شيء.
فهذه عقيدة اليونان والرومان، وعليها أقاموا حياتهم.
والرومان في هذا الجانب -كما هو معلوم لدى من يدرس التاريخ ويعرفه- متقدِّمون على اليونان، فإنهم برعوا فيما يقال له: «الأمور الإدارية»، وهناك ما يسمى بالقانون الروماني، وهو معروف مشهور، ولا تزال تشريعات الغرب وقوانينه تنبني عليه حتى الآن.
فالطائفتان العظيمتان تشتركان في هذا المعتقد: أن الآلهة لا تأمر ولا تنهى، ولا تتدخل في أمور الحياة، ثم إن الرومان بَنَوْا على هذا المعتقد، فشرعوا لأنفسهم تشريعات، وقنَّنوا قوانين؛ لأنهم يعتقدون أن هذه الأمور مفوَّضة إليهم، لا تفوَّض إلى إله أصلا.
ثم استمرت حياة هذه الأمم على هذا المنوال، حتى جاءت المسيحية؛ وأنا أقول فيها: «المسيحية» تجوُّزًا، وإلا؛ فإن المسيح -عليه السلام- بريء من كل ما يُنسب إليه في هذه الديانة، وأعظمه: الشرك بالله، ودعوى أن المسيح ابن الله، أو أنه هو الله.
جاءت المسيحية، وحصل لأتباعها ابتلاء عظيم واضطهاد كبير -لسنين عددا-، كلما جاء امبراطور أو حاكم؛ أنزل بأهل هذه الديانة سوء العذاب، فتشتَّتوا، وتشرذموا، وضاع دينهم وتفرَّق، وكثر فيه التحريف -كما يؤمن به أهل الإسلام-؛ حتى جاء رجل يقال له: «قُسْطَنْطِين»، وهو ملك الروم وقيصرهم في زمنه، فآمن بالمسيحية واعتنقها، فكان في ذلك فتح عظيم لأهل هذه الملة، فرُفع بذلك عنهم ما يعانونه من البلاء والعذاب، وانتشر دينهم، وكثر المنتسبون إليه.
فحرص أهل هذه الديانة على هذا الملك، ورأوا فيه خلاصا من بلائهم وعذابهم، فلم يحاولوا أن يلزموه بأمر معين في هذه الملة؛ بل أرادوا أن يخلصهم مما هم فيه، وأن يمكن لدينهم في الأرض، ولو جاء ذلك على حساب ما يعتقدونه ويؤمنون به، فقدَّموا التنازلات والترخُّصات، واستسلموا لما يريده الملك؛ حتى يمكن للدين في الأرض.
مع أنهم -في خاصة أنفسهم- قد بدَّلوا وغيَّروا، فلم يعد لدينهم مكانة عندهم أصلا، والدين إذا هان على أهله؛ فإنهم لا يلتفتون لما يحدثه فيه أحد -من بعد-.
وقد ذكر الله -تعالى- عنهم ذلك في القرآن، فما أكثر الآيات التي تبيِّن تضييع أهل الكتاب لدينهم، وأنهم حرفوا فيه وبدلوا وغيروا، ومن ذلك: ما نحن بصدد بيانه الآن من أنهم ضيعوه وميَّعوه فوزًا بعرض من الدنيا، واشتراءً بآيات الله -تعالى- ثمنا قليلا؛ كما في قول الله -عز وجل-: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ﴾ [الأعراف: 169]، فأنكر الله -تعالى- عليهم أنهم اشتروا بآياته ثمنا قليلا، وحرصوا على ما في الدنيا من المتاع والزينة، فقادهم ذلك إلى تضييع دينهم وتبديله.
وهذا هو ما وقع، وما يذكره مؤرخوهم وعلماؤهم، وهذا الأمر من الشهرة عندهم بمكان لا يُدفع.
يقول أحد علمائهم ومؤرخيهم في القرن الماضي، وهو جون دريبر، لعله في كتابه «تاريخ التطور الفكري في أوروبا»؛ قال في قسطنطين: «إن هذا الامبراطور الذي كان عبدا للدنيا، والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئا؛ رأى -لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين: النصراني والوثني- أن يوحدهما ويؤلف بينهما، حتى أن النصارى الراسخين أيضا، لم ينكروا عليه هذه الخطة، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طُعِّمت ولُقِّحت بالعقائد الوثنية القديمة، وسيخلِّص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها».
ويقول هِرْبَرْت فيشر، وهو من علمائهم في القرن قبل الماضي، في كتابه «تاريخ أوروبا في العصور الوسطى»: «إن حكمة الكنيسة المسيحية هدت آباءها الأولين إلى قبول ما لم يستطيعوا له منعاً من قديم العادات والتقاليد والمعتقدات؛ بدليل استقبال الكنيسة لمبدأ تعدد الآلهة الراسخ بين شعوب البحر الأبيض المتوسط، وتطويع ذلك المبدأ لما تقتضيه عقائدها».
هذه شهادتهم على أنفسهم، وشهد شاهد من أهلها، فلسنا نفتري عليهم، ولم يفتر ربنا -تبارك وتعالى- عليهم، حاشا لله من ذلك.
وهكذا تصنع السياسة بأهل الدين -إذا تدخلوا فيها-، فالذين يضيِّعون دينهم ويميِّعونه، ويبدِّلونه ويغيِّرونه؛ هم متبعون لسنن أهل الكتاب من قبلهم، فصدق فيهم قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»، قيل: «يا رسول الله، آليهود والنصارى؟»، قال: «فمن؟».
فانظر إلى شأن النصارى من قبل: أرادوا أن يمكنوا لدينهم، ويرفعوا ما هم فيه من البلاء والعذاب، وينشروا دعوتهم في ربوع الأرض؛ فقادهم ذلك إلى التنازل عن نفس دينهم، وتضييع نفس عقيدتهم ومبدأهم، فلا هم حافظوا عليها، ولا هم حققوا ما يريدون؛ وهكذا تتكرر السنن، ولا تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا؛ فعلينا أن نقف عند هذا الموقف، ونتعظ منه، ونتدبر ما فيه من العبرة.
فانظر -بارك الله فيك، وعصمك من الفتن- كيف استقبل أهل النصرانية قديما فكرة الوثنية، وقبلوها، ولم يجدوا بها غضاضة، مع أنها تتعارض مع أصل دينهم؛ ولكنهم تنازلوا وبدَّلوا وغيَّروا، إرضاء للملك الذي أراد ذلك بدافع سياسي.
ومن هاهنا لبست العلمانية ثوبا دينيا، وقد كانت من قبل مرتبطة بفكر وثني، وعقيدة وثنية؛ فلما قَبِل أهل النصرانية هذه الفكرة؛ قبلوا العلمانية معها؛ كما سنتعرف عليه بعد قليل- إن شاء الله-، ونسأل الله أن يعصمنا من الفتن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
* الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد تبين لنا -إخوة الإسلام- أن العلمانية مرتبطة في نشأتها بعقيدة وثنية خرافية، وتبين لنا أن المسيحية عندما جاءت؛ تقبَّل أهلها هذه العقيدة -بما ذكرته من الدافع-، فنشأ من ذلك تقبُّلهم لنفس فكرة العلمانية، وإلباسُهم إياها ثوب الدين.
وليس هذا بغريب منهم؛ فإنهم أهل تبديل وتحريف -كما نعلم، وكما أخبرنا ربنا عنهم-، وقد تولى كِبْرَ ذلك محرِّفُ دينهم ومبدِّلُه، الذي هو بولس.
ومعلوم -في تاريخ هذه الملة- أن هذا الرجل هو الذي بدَّل دين المسيح وغيَّره، وهدم قواعده ومبادئه، وهو الذي أَرْسَى فكرة الشرك والتثليث في الأمة النصرانية، فكان له دور -حتى في مجالنا الذي نتكلم فيه الآن-، فأفتى -على حد زعمه- بأن الإغريق والمصريين والرومان الذين يقبلون المسيحية: في حِلٍّ من الختان، وفي حِلٍّ من التقيُّد بحرفية القانون.
والختان من شعائر المسيحية، وهو -في الأصل- من شعائر الحنيفية، وقد اختتن الخليل إبراهيم -عليه السلام- وهو ابن ثمانين سنة -كما صح بذلك الحديث في «صحيح البخاري»-؛ فاعجب لقوم ينكرونه الآن، ويقولون: ليس من الإسلام!! وليس هذا موضع الكلام معهم.
فالختان كان من شعائر المسيحية، وكانت هناك أحكام وتعاليم يجب الالتزام بها؛ فماذا فعل بولس المبدِّل حتى يروِّج الدين، ويكثِّر من أتباعه؟
قال: إن الإغريق والرومان الذين يقبلون هذا الدين: في حِلٍّ من الالتزام بتعاليمه وأحكامه، ليس عليهم ختان، وليس عليهم كذا، وليس عليهم كذا.
فأصَّلَ هذا اللعين بذلك لقضية الفصل بين الدين والدولة، وبين الدين والحياة، وترسَّخ عند القوم -من حينئذ- أنه يمكن التفريط في شيء من الدين، ويمكن عدم الالتزام بأحكامه؛ انتظارا لمصلحة ما، أو منفعة ما.
وبمرور الزمن: أصبح هذا الانحراف الذي قرَّره بولس منهجا مقرَّرا عند أهل النصرانية، اعتمدته الكنيسة بعد مجمع نيقية، وهذا المجمع مشهور جدا، وله خبر عظيم عند أهل هذه الملة، فإنه هو الذي انبني عليه -في حياة قسطنطين- تنظير مذهبهم وتقعيد عقيدتهم، بما فيها من التحريف والتبديل؛ وليس هذا موضع الخوض في ذلك.
فصلت الكنيسة -في هذا المجمع- بين العقيدة والشريعة، وبين الدين والدولة، وقسمت الحياة البشرية إلى دائرتين -وانتبه هنا-:
الدائرة الأولى: دينية، من اختصاص الله، ويقتصر محتواها على نظام الإكليروس، والرَّهْبنة، والمواعظ، وتشريعات طفيفة لا تتعدى الأحوال الشخصية.
والدائرة الأخرى: دنيوية، من اختصاص قيصر وقانونه، ويحوي محيطها التنظيمات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعلاقات الدولية, ونظم الحياة العامة.
ماذا ترى في هذا التقسيم؟ ترى أن هناك ما هو لله، وهناك ما هو لقيصر.
هكذا انتهى النصارى في مجمع نيقية، ثم لم يكتفوا بذلك حتى نسبوه إلى المسيح -زورا-، فتجد من مشهور كلامهم، ومما هو موجود في أناجيلهم -منسوبا إلى المسيح- أنه قال: «أَعْطِ ما لله لله، وما لقيصر لقيصر»!!
فما هو الذي لله؟! وما هو الذي لقيصر؟!
فأما الذي لله؛ فهو: أمور الدين، يتمثل في الوعظ، والترغيب والترهيب، وما يكون في داخل الكنائس والصوامع، لا يتعداها.
وأما الذي لقيصر؛ فهو أمور الحياة، والمجتمع، والسياسة، والاقتصاد، وما أشبه ذلك.
فيجب الفصل بين الدائرتين، ولا يجوز لإحداهما أن تدخل في الأخرى؛ وعلى هذا استقرت حياة الغرب حتى الآن، وقامت معيشتهم على هذا الفصل الخبيث، الذي عرفنا منشأه وأصله، وهو العقائد الوثنية الخرافية، التي لا يعترف بها النصارى أنفسهم، ولا يعترف بها المسلمون.
فهذه هي نشأة العلمانية -عباد الله-، نشأة وثنية خرافية، تقبَّلها من فرط في دينه من النصارى، وألبسها ثوب الدين؛ حتى يروِّجها للناس، وحتى يقبلوها ويعلموا بها.
وهذا كله إنما يليق -كما نبَّهْنا كثيرا- بمن لا يعتقد في رب ولا إله، وأما الذي يعتقد أن له ربا وإلها، ويعتقد -كما بيَّنَّا- أن حكمة هذا الرب الإله تأبى أن يترك الناس سدى -بلا أمر ولا نهي-؛ فإنه لا يجوز له أن يعتقد هذا.
لا يجوز لك -أيها المسلم- أن تعتقد هذا الفصل الخبيث بين الدين والحياة، ودَعْكَ من تطبيق هذا في القوانين؛ فمهما بُدِّلت القوانين وغُيِّرت، ومهما وُضعت الدساتير على خلاف الشرع؛ فإنه لا يجوز لك أن تعمل بما فيها في حياتك ودنياك؛ عليك أن تحكِّم شرعك، ودينك، وما يجيئك من عند ربك ونبيك -صلى الله عليه وسلم-؛ إياك أن تعتقد أن دينك لا يتدخل في حياتك الشخصية، أو حياتك العملية، أو أمور دنياك -مما يكون في سياسة أو اقتصاد أو اجتماع أو ما أشبه ذلك-؛ هذا الأمر لا وجود له في دين الإسلام، وإنما هو لائق بأهل الوثنية الخرافية، الذين لا يعرفون الله، ولا يؤمنون برسله، ولا يلتزمون بأحكامه.
وفي الختام أذكر تنبيها، ما كان أغناني عنه؛ لولا طبيعة شعبنا -هداه الله-!
فأقول:
إن كلامنا هذا في العلمانية إنما هو تبصير للمسلمين، ونصيحة لهم، وبيان لحكم الدين فيها؛ حتى تُحفظ عقيدة المسلمين، ويُحفظ دينهم؛ فكلامنا في العلمانية ككلامنا في غيرها من المذاهب والعقائد، التي تضر المسلمين ودينَهم.
فليس المقصود -إذن- أمرا سياسيا، ولم نتعمد أن نتكلم في هذه المسألة في هذه الأيام تحديدا، وبعدما حدث من الواقع في بلادنا -في الأيام الأخيرة-، وإنما هكذا وقع بقدر الله -عز وجل-؛ فلا يفهمنَّ أحد -أيها الإخوة- أننا نرمي إلى أمر سياسي، ولا يجوز لأحد أن يستغل كلامنا استغلالا سياسيا، في إطار ما يحدث الآن من صنع الدستور، والاستفتاء عليه، وما أشبه ذلك، والصراع بين الحزب العلماني، والحزب الإسلامي، وما أشبه ذلك.
وكلامنا -والحمد لله- في هذا كله معروف، لا حاجة لتكراره؛ ومنذ أن قيل: إن هناك دستورا إسلاميا، وهناك كذا، وهناك كذا؛ ونحن -والحمد لله- موقفنا ثابت لا يتغير.
فأرجو ألا يستغل أحد كلامنا استغلالا سياسيا، وألا يروِّج له ترويجا سياسيا، لا بد أن يوضع كلامنا في إطاره، وفي سياقه، لا يجوز لأحد أن يتعداه، ولا نبيح لأحد أن يتعداه؛ ونسأل الله -تعالى- أن يقينا الفتن كلها -صغيرها وكبيرها-.
اللهم قنا الفتن ما ظهر وما بطن، اللهم قنا الفتن ما ظهر وما بطن، اللهم اهدنا للحق وإلى طريق مستقيم، اللهم اهدنا للحق وإلى طريق مستقيم، وتوفنا على الإسلام والسنة وأنت راض عنا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا
|