إن كان خيرا رضينا ! وإن كان شرا صبرنا ! (تعليقا على تولية الرئيس) الحمد لله مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلَّى الله عليه، وعلى آله وصحبه؛ وسلَّم تسليما كثيرا. أما بعد؛ فقد قال محمد بن المنكدر -رحمه الله-: بلغ ابنَ عمر أن يزيد بن معاوية بويع له، قال: «إن كان خيرا رضينا، وإن كان شرا صبرنا». هذه الكلمة العظيمة تمثل موقف السلف من بيعة الأمراء وتولِّيهم، وفيها من الفوائد: 1- الإقرار ببيعة الأمراء المستحوذين على الحكم؛ بررةً كانوا أم فجرة. 2- تفويض الأمر إلى الله في شأن التنازع على الملك، فقد يكون للمسلم هوىً أو ميلٌ لأحد المتنازعين، فإذا تغلب غيرُه؛ فلْيُقِرَّ بذلك، ولْيُفوِّضْ أمره إلى الله؛ فإنه لا يدري: لعل الخير يكون مع المتغلب. 3- الإقرار بالخير -إذا وقع من الأمير-، والحرص على نشره وزيادته، ومعاونتُه عليه -بحسب القدرة-. 4- الصبر على شر الأمير وجوره، من غير خروج عليه، أو نقض لبيعته. فتأمل في ذلك -رحمك الله-، واعقله، واعمل به، ولتكن تلك الكلمة العظيمة دينَك ودَيْدَنَك -كلما وُلِّي عليك والٍ، أو تأمَّر عليك أمير-. وإنني كنت قد ألقيت خطبة -في الجمعة الماضية-، ونشرتُ -على الموقع- نصَّها وتفريغَها، حَثَثْتُ فيها على القبول بنتيجة الانتخابات الرئاسية؛ امتثالا لنصوص الشرع، وتحقيقا لمصلحة الأمن والاستقرار، ودرءاً لمفسدة الفوضى والفتن والفساد. وقد تلقى الجميع على أرض الكنانة نبأ فوز المرشح الدكتور «محمد مرسي»، وإعلانه رئيسا منتخبا للبلاد. فهذا أوان العمل بما مضى تقريره: فلْنُقِرَّ بهذا الفوز، ولْنَرْضَ به، ولْنعملْ بموجَب النصوص الشرعية، ومنهج السلف الصالح -كما تقدم في كلام ابن عمر -رضي الله عنهما-. ولعل كثيرا من إخواني قد ساءهم فوز المرشح المذكور؛ لأجل انتمائه إلى حزب «الإخوان المسلمين»، وموقفنا منه معروف؛ فأقول -مذكِّرا ومبصِّرا-: إخوتاه! قد تقرر لديكم موجَبُ نصوص الشرع، ومنهج السلف: من الإقرار بالسمع والطاعة -في المعروف- لمن تأمَّر علينا، مهما كان شأنه، وإن كان عبدا حبشيا مجدَّع الأطراف؛ إلا أن نرى كفرا بواحا، عندنا فيه من الله برهان؛ فهل نجد في ذلك فرقا بين سني ومبتدع؟! أم كنا سنعمل به في حق «شفيق» دون «مرسي»؟!! إخوتاه! إن علينا أن نؤمن بقول الله -عز وجل-: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾، ولم يزل مَنْ قَبْلَنا يقولون: «أعمالكم عُمَّالكم»، «كما تكونوا يُوَلَّى عليكم»؛ فهذا الذي تولى علينا لابد أن يكون مناسبا لنا، ولابد أن تكون ولايته من جنس عملنا، وقد تعلمون ما نحن فيه -جميعا- من التفريط والتقصير والظلم؛ فلا يلومنَّ أحدٌ إلا نفسه! إخوتاه! لسنا أفضل من السلف والأئمة، الذين تولى عليهم شرار أهل البدع، وما نبأ خلفاء المحنة عنكم ببعيد! وقد تعلمون موقف إمام السنة أحمدَ بنِ حنبل -رحمه الله-. وإليكم هذا الكلامَ الجامعَ الرائقَ لشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ -رحمهما الله-؛ تبصرةً وذكرى لكل صاحب سنة: قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: «مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال إنه جهمي كَفَّره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم؛ بل صلى خلف الجهمية الذين دَعَوْا إلى قولهم، وامتحنوا الناس، وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة؛ لم يكفرهم أحمد وأمثاله؛ بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم: ما يراه لأمثالهم من الأئمة، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل، الذي هو كفر عظيم -وإن لم يعلموا هم أنه كفر-؛ وكان ينكره ويجاهدهم على رده -بحسب الإمكان[4]-؛ فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين، وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة -وإن كانوا جهالا مبتدعين، وظلمة فاسقين-» اهـ[5] . وقال العلامة عبد اللطيف-رحمه الله- بعد ما أنكر على الذين لا يرون طاعة المتغلب: «ولم يدر هؤلاء المفتونون أن أكثر ولاة أهل الإسلام، من عهد يزيد بن معاوية -حاشا عمر بن عبد العزيز، ومن شاء الله من بني أمية- قد وقع منهم ما وقع من الجراءة، والحوادث العظام، والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام؛ ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام، والسادة العظام معهم: معروفة مشهورة: لا ينزعون يداً من طاعة -فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام وواجبات الدين-. وأضرب لك مثلاً بالحجاج بن يوسف الثقفي، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والغشم، والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتل من قتل من سادات الأمة -كسعيد بن جبير-، وحاصر ابن الزبير -وقد عاذ بالحرم الشريف-، واستباح الحرمة، وقتل ابن الزبير -مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة-، وبايعه عامة أهل مكة والمدينة واليمن، وأكثر سواد العراق، والحجاج نائب عن مروان، ثم عن ولده عبد الملك، ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان، ولم يبايعه أهل الحل والعقد؛ ومع ذلك لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته والانقياد له -فيما تسوغ طاعته فيه من أركان الإسلام وواجباته-، وكان ابن عمر ومن أدرك الحجاج من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينازعونه، ولا يمتنعون من طاعته -فيما يقوم به الإسلام، ويكمل به الإيمان-. وكذلك من في زمنه من التابعين؛ كابن المسيب، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم التيمي، وأشباههم ونظرائهم من سادات الأمة، واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة، من سادات الأمة وأئمتها: يأمرون بطاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله مع كل إمام بر أو فاجر، كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد. وكذلك بنو العباس، استولوا على بلاد المسلمين قهراً بالسيف، لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين، وقتلوا خلقاً كثيراً وجماً غفيراً من بني أمية وأمرائهم ونوابهم، وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق، وقتلوا الخليفة مروان؛ حتى نُقل أن السفاح قتل في يوم واحد نحو الثمانين من بني أمية، ووضع الفرش على جثثهم، وجلس عليها، ودعا بالمطاعم والمشارب؛ ومع ذلك فسيرة الأئمة، كالأوزاعي، ومالك، والزهري، والليث بن سعد، وعطاء بن أبي رباح، مع هؤلاء الملوك، لا تخفى على من له مشاركة في العلم واطلاع. والطبقة الثانية من أهل العلم؛ كأحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن نصر، وإسحاق بن راهويه، وإخوانهم، وقع في عصرهم من الملوك ما وقع، من البدع العظام، وإنكار الصفات، ودعوا إلى ذلك، وامتحنوا فيه، وقُتل من قُتل -كأحمد بن نصر-؛ ومع ذلك فلا يُعلم أن أحداً منهم نزع يداً من طاعة، ولا رأى الخروج عليهم» اهـ. فالزموا -إخوتاه- نَهْجَ أئمتكم، واسلكوا سبيل سلفكم الصالح؛ فإنه يسعكم ما وسعهم، وارجعوا إلى ربكم بالتوبة والإنابة، واصبروا وصابروا ورابطوا؛ عسى أن يكون الأمر محنة لكم، ينظر الله كيف تعملون فيه؛ فالزموا الصراط المستقيم والجادة الواضحة؛ حتى تكونوا أهلا للاستعمال والتمكين -إن شاء الله-. وهذا -كله- شيء، وقضية تحكيم الشريعة شيء آخر؛ فإيماننا جازم راسخ بأن هذه القضية الجليلة لن تتحقق أبدا حتى نكون أهلا لها، فلابد من إصلاح النفس، وتغيير ما في القلب، وتحكيم الشريعة في معتقدات الأفراد وأعمالهم، والتوسل إلى إقامتها بموافقتها -لا بمخالفتها وتضييعها-؛ فمهما أتى علينا من الحكام، ومهما كان شأنهم وحرصهم على هذه القضية؛ فإنها لن تتحقق إلا بالشروط المذكورة؛ فافهم هذا، ولا تخلط بينه وبين الكلام السابق في لزوم طاعة الحكام. على أنني لم أَنْسَ -بفضل الله- أن الأمور السياسية لم تنته بعد، فما زال الدكتور «مرسي» منزوع السلطات -تقريبا-، وما زال الصراع محتدما حول ذلك «الإعلان الدستوري»، وغيره مما هو معروف، فالكلام السابق إنما هو مراعاة لظاهر الأمر -من حصول الدكتور على منصب الرياسة رسميا-، وما قد يؤول إليه من تسليمه سلطات الرئيس -كاملة-؛ فموقفنا -بحمد الله- ثابت مستمر، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾. نسأل الله -جلَّت قدرته- أن يوفق الدكتور «مرسي» لما فيه صلاح البلاد والعباد، وأن يقينا قادمَ الفتن، وأن يجعل بلدنا آمنا مطمئنا -وسائر بلاد المسلمين-. وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. كتبه أبو حازم القاهري السلفي الاثنين/5/شعبان/1433
|