قاصمة لأهل التمييع من كلام الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى الحمد لله حمدا يليق بكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين؛ صلَّى عليه وعلى آله وسلَّم. أما بعد؛ فقد قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كلام له على تكفير المعين: ((على أن الذي نعتقده، ونَدين الله به، ونرجو أن يثبتا عليه: أنه لو غلط هو -أو أجل منه- في هذه المسألة، وهي مسألة: المسلم إذا أشرك -بعد بلوغ الحجة-، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين، أو يزعم أنه على حق، وغير ذلك من الكفر الصريح الظاهر، الذي بيَّنه الله ورسوله، وبيَّنه علماء الأمة: أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله -من تكفيره-، ولو غلط من غلط، فكيف -والحمد لله- ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة، وإنما يلجأ من شاقَّ فيها إلى حجة فرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى}، أو حجة قريش: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَة} الآية)) اهـ. قلت: وفي هذا الكلام الجليل فوائد: 1- إظهارُ صاحبِ الحق معتقدَه، وتمسكه به، وسؤاله اللهَ أن يثبته عليه. 2- عدم الالتفات إلى مخالفة المخالفين، مهما بلغ شأنهم أو عظم قدرهم؛ فإن الحق أعظم وأجلُّ منهم، ولا تُلتَمَس مرضاة الخلق بسخط الخالق. 3- تكفير المعين من المسلمين لا يكون إلا بعد بلوغ الحجة. 4- لا يقتصر الذم على من لم يكفر من كفره الله ورسوله؛ بل يتعداه إلى من شك في كفره، أو صحح مذهبه، أو فضله على الموحدين. 5- تكفير من تقدمت صفته لا خلاف فيه بين أهل العلم. 6- لا يُتخلَّف عن هذا الواجب بزعم أنه أمر جديد، لم يكن عليه الناس، أو لم نسمع به فيهم، أو أنه يستلزم تكفير أناس -هم في الحقيقة ليسوا أهلا للتكفير-. فمن تأمل في هذا الكلام وفوائده؛ سهل عليه أن يرد على خلوف المميِّعة، أتباع الرجل الذي رد عليه الشيخ بكلامه السابق. فإن التكفير والتبديع والتفسيق من أجلِّ مسائل الدين، وهي التي يقال لها: ((مسائل الأسماء والأحكام))، ولها شروط واضحة، وقواعد منضبطة؛ فإذا تم استيفاؤها، وقام الدليل البيَّن على الحكم على المعين؛ لزم القيام بموجَبه -تكفيرا أو تبديعا أو تفسيقا-، وتركُ ذلك تورعٌ بارد، وتضييع لأحكام الدين، وإسقاط لفريضة الولاء والبراء. ولم يزل أئمة المسلمين -سلفا وخلفا- يستعملون ذلك، ويحكمون على المعيَّنين بأقوالهم وأفعالهم، فلم يُعرف عن أحد منهم -قط- إغلاقُ هذا الباب، ولا التساهل فيه. ولم يقتصروا على هذا؛ بل استخدموا قاعدة ((الإلحاق)) -التي وردت في كلام الشيخ محمد السابق-، فكانوا يلحقون بأهل البدع من تولاهم؛ بل من شك في ضلالهم. فقال الصحابي الفقيه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: ((اعتبروا الناس بأَخْدَانهم؛ فإن المرء لا يُخادِنُ إلا من يعجبه)). ولما قدم الإمام سفيان الثوري -رحمه الله- البصرة؛ سأل عن مذهب الربيع بن صبيح، فقالوا: ((ما مذهبه إلا السنة))، قال: ((من بطانته ؟))، قالوا: ((أهل القدر))، فقال : ((هو قدري)). وقال الإمام سفيان بن عيينة -رحمه الله-: ((القرآن كلام الله -عز وجل-، من قال: مخلوق؛ فهو كافر، ومن شك في كفره؛ فهو كافر)). وقال الإمام أبو داود السجستاني للإمام أحمد -رحمهما الله-: ((أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة، أترك كلامه؟))، فقال: ((لا، أو تُعْلِمُه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة، فإن ترك كلامه، وإلا؛ فألحقه به؛ قال ابن مسعود: ((المرء بخِدْنه))[9]. وقيل للإمام أحمد أيضا: إن قوما يختلفون إلى الحارث -أي: المحاسبي-، فقال: ((نتقدم إليهم، لعلهم لا يعرفون بدعته، فإن قبلوا؛ وإلا هُجروا))[10]. وقال الإمام البخاري -رحمه الله- في الجهمية: ((نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وإني لَأَسْتَجْهِلُ من لا يكفرهم؛ إلا من لا يعرف كفرهم))[11]. وسئل الإمام عبد الوهاب بن عبد الحكم الورَّاق -رحمه الله- عمن لا يكفر الجهمية؛ يصلَّى خلفه؟ فقال: ((لا يصلي خلفه، هذا ضال مضل متهم على الإسلام))[12]. وسئل أيضا: ((يُجالَس من لا يكفر الجهمية؟))، فقال: ((لا يُجالَسون ولا يُكلَّمون، المرء على دين خليله))[13]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ((أما من اقترن بسبه دعوى أن عليّاً إله، أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبريل في الرسالة؛ فهذا لاشك في كفره؛ بل لاشك في كفر من توقف في تكفيره... وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا، أو أنهم فسقوا –عامتهم-؛ فهذا لا ريب أيضا في كفره؛ فإنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى عنهم، والثناء عليهم؛ بل من يشك في كفر مثل هذا؛ فإن كفره متعين)) اهـ مختصرا[14]. قلت: وتتبع ذلك يطول، وفيما ذُكر كفاية. ثم يأتي -اليوم- من يزعم أن هذا ((منهج جديد))!! لم يكن عليه الأئمة!! وأن العبد لا يجب عليه تبديع المبتدع، ولن يُسئل عن ذلك!! ويقولون فيمن يطبقه -بحق-: إنهم فرقة ((الإسقاط)) (!!) و((الإقصاء)) (!!)، ونحو ذلك من الأوصاف الذميمة!! فلا نجد لجوابهم -بجانب ما تقدم من كلام الأئمة- أظهر من كلام الإمام محمد -رحمه الله-، الذي صدَّرت به المقال، ولعل الله يهيئ الفرصة لتتبع شبهاتهم، ونقض أصولهم، والله المستعان على ما يصفون. كتبه أبو حازم القاهري السلفي الثلاثاء/6/شعبان/1433
|