فزَّاعة الفاشلين
(نصيحة هامة في الدعوة والتربية)
الحمد لله البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز العليم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الكريم؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله، أحسن صلاة، وأتم تسليم.
فلا يخفى ما في الدعوة والتربية من الأهمية والخطر، ولا يخفى ما على الداعية والمربِّي من عظيم المسئولية، وبالغ الأثر؛ وذلك لعموم تأثيره، وكثرة من يرتبط به؛ فإذا أحسن؛ عمت المصلحة؛ وإذا أساء؛ عمت المفسدة.
وقد يقع للداعية والمربِّي خطأ في دعوته، أو منهجه، أو توجيهه، أو سياسته؛ بحيث يتخذ قرارا عاما، أو منهجا عاما، ينشئ أتباعه ويربيهم عليه، وإذا بذلك القرار أو المنهج يتضح أنه خطأ -في نفسه-، وقد لا يعلم الداعية أو المربي بذلك في أول الأمر؛ لجهل، أو تأويل، أو نحو ذلك.
وليس ذلك بعيب، ولا منكر؛ إذ الخطأ لا يخلو منه إنسان -مهما كان-، ولا يستحيل صدوره -ولو في شأن عام-.
إنما العيب والمنكر في كيفية معاجلة الداعية أو المربي للموقف عندما يتبين له خطؤه، ويتضح له سوء تدبيره.
وهنا ينقسم الدعاة والمربُّون قسمين:
القسم الأول: الصادقون المخلصون:
وهم الذين زَكَتْ قلوبهم، وطهرت نفوسهم من أدران العصبية والكبر، وتحلَّوْا بالشجاعة، ولم يجبنوا عن المواجهة، وعرفوا قدر المسئولية، وحرصوا على مصلحة الدين وأهله، وحملوا هَمَّ الإسلام والأمة.
فهؤلاء يبادرون باستدراك خطئهم، وإصلاح زَلَلِهِم، ويتعاملون بالصدق والصراحة والأمانة، فيكاشفون أتباعهم ورعيَّتهم، ويبينون لهم أن الطريقة الفلانية التي اتُّبعت معهم: قد ظهر خطؤها، فلا محيص من الرجوع عنها، وسلوك الطريقة الأقوم سبيلا، والأحسن تأويلا.
وأضعف الإيمان: أن الرجوع والانتقال إلى الصواب يكون عمليا ملموسا، يراه كل أحد، ويلاحظه كل إنسان، بحيث يقول القائل: إن فلانا قد تغير، وسلك طريقا مختلفا؛ وإن كان لم يصرح بلسانه: أنني أخطأت، وأن الأمر كذا وكذا.
وهذه الطريقة قد يلجأ إليها الداعية أو المربي إذا ظهر له أن في سلوك الطريقة الأولى مفسدة راجحة، فيكون له -حينئذ- في هذه الطريقة الثانية متنفَّسٌ، والمطلوب -على كل حال- هو التغير الملموس، والرجوع الواضح عن الخطأ؛ فبأي وجه حصل؛ فقد حصل المطلوب؛ وقد كان النبي ﷺ -وهو سيد الدعاة والمربِّين- يبيِّن ويبلِّغ تارة بقوله، وتارة بفعله؛ بل قد تقرر لدى أهل العلم: أن البيان بالفعل قد يكون أبلغ -أحيانا- من البيان بالقول.
القسم الثاني: المتعصبون المتكبرون:
وهم الذين لا تسمح أنفسهم المريضة بالاعتراف بالخطأ، والإقرار بالفشل، مهما ظهر للعامي البليد، أو انتشر وفاحت رائحته في كل صعيد.
وهؤلاء يمضون في خللهم، ويستمرون في خبالهم؛ إمعانا في الكيد للأمة، وتدمير البلاد والعباد، وفتنة المسلمين وصدِّهم عن سبيل ربهم؛ شعروا بذلك، أم لم يشعروا.
ومن أعظم ما يسترون به فشلهم: ذلك الذي اخترتُ له عنوان المقالة: «الفَزَّاعة»!
والفَزَّاعة: هي الشيء المُفْزِع المخيف.
فهذه طريقة يشترك فيها الفاشلون -على مَرِّ التاريخ-، من الكفار، والمبتدعين، وأشكالهم: أنهم يلجئون إلى شيء يُرهبون به الناس، حتى يستروا به فشلهم، فلا ينتبه له الناس، أو لا يجرؤون على مواجهتهم به -لو انتبهوا له-.
وهذه الفزاعة لها صور عديدة، على حسب حال صاحبها:
فمنها: التهديد بالبطش: سواء كان حسيا -كالضرب، أو الحبس-، أو معنويا -كالتجريح-.
ولا يلزم أن يكون ذلك التهديد مباشرا صريحا، بل قد يكون بالتلميح والإشارة، كاستعراض القوة، وإظهار التمكين والنفوذ، وأن ذلك الشخص مكانه كذا، وقوته كذا؛ فهذا كقوله الصريح: من خطَّأني، أو غمزني، أو تكلم فيَّ؛ عاقبتُه!
ومن صور الفزاعة: التترُّس بولاة الأمر -من العلماء، والأمراء-: بأن يكون الخطأ قد صدر منهم، أو من غيرهم -بإقرارهم-؛ فإذا تبين، وقام عليه البرهان، وظهر سوء أثره، وتكلم الناس فيه؛ قيل: كيف تقولون: هو خطأ، وقد قال به فلان، أو أقره فلان؟!!
التعصب المقيت! والتقليد المنكر! في لبوس السنة والاتباع!!
ومن صور الفزاعة: الحيدة عن محل النزاع: بأن يذكر المخطئ أعمالا له أخرى، قد أصاب فيها وأصلح؛ ولكن لا علاقة لها بالخطأ الذي وقع فيه.
فيقول -مثلا-: لقد صنَّفتُ المصنفات! ورددتُ على أهل البدع! ولي جهود في الدعوة!
فما لهذا وما نحن فيه؟! وهل هذه هي الحسنة، التي لا تضر معها سيئة؟!
وتزداد الشناعة إن كانت هذه الصورة في صورة أخرى: اصطناع أمجاد زائفة، أو أعداء وهميين: بأن يكون كلامه ذلك مجرد دعاوى كاذبة، أو جهود مسروقة، أو يكون الأمر متعلقا بأهل بدع أو فساد تم القضاء عليهم بالفعل، ولم تعد لهم قائمة، أو يُخشى كَلَبُهم؛ أو يكون قد وقع في التعامل معهم ظلم أو كذب، أو يُبرر الخطأ بأي تبرير آخر وهمي، أو يقع التهويل في تصويره ووصفه.
فبهذه الصور، وغيرها: تُشهر الفزاعة؛ لكي تستر الأخطاء والقصور، وتشوش عليها، وتقضي على السبيل لإصلاحها.
شعور مهين بالكبر! وأنفة كاذبة خاطئة من الإقرار بالخطأ!
ولو كان هذا من ذلك التَّعِس في خاصة نفسه؛ لَهَانَ الأمر -على كِبَرِه-؛ ولكنها أخطاء تتعلق بالدين والدعوة والمسلمين، وتنشأ وتتربى عليها أجيال.
فالمقصود -رعاكم الله-: التنبيه على هذا المسلك الخبيث؛ لفائدتين:
الأولى: أننا لا نتأثر به، ولا يفتُّ في عضدنا، ولا يعمينا عن رؤية الأخطاء، وتصحيح المسار.
الثانية: أننا لا نسلكه -في خاصة أنفسنا-، ولا يدفعنا إليه الكبر، ولا الأنفة عن الاعتراف بالخطأ، ولا التشبه بأولئك الذين يسلكونه، مهما كان شأنهم.
وكلنا محتاج لذلك؛ فإننا لا نخلو من تربية أزواجنا وأولادنا -على الأقل-، ومسلك الفزاعة هذا قد يصادف هوىً في قلوبنا، فيعمينا عن رؤية الباطل، ويصرفنا عن اتباع الحق.
هذه نصيحة وتنبيه لنفسي وإخواني، ما أحوجنا إلى تدبُّرها، والعمل بها.
ونسأل الله التوفيق والهداية للجميع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الأحد 7/شوال/1443
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
|