نظرية الكمال بين الخوارج والمرجئة وبين الحدادية والمميِّعة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فقد قال التابعي الجليل أبو العالية رُفَيْعٌ الرِّيَاحي –رحمه الله-: «تعلَّموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم؛ فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الصراط يمينا ولا شمالا، وعليكم بسنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، والذي عليها أصحابه؛ فإنا قد قرأنا القرآن من قبل أن يفعلوا الذي فعلوه -خمس عشرة سنة-، وإياكم وهذه الأهواء، التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء»(). وقال الإمام أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني –رحمه الله- بعدما ذكر جملا من اعتقاد السلف: «هذه مقالات وأفعال، اجتمع عليها الماضون الأولون من أئمة الهدى، وبتوفيق الله اعتصم بها التابعون قدوةً ورضى، وجانبوا التكلف فيما كُفُوا، فسُدِّدوا بعون الله ووُفِّقوا، لم يرغبوا عن الاتباع فيقصِّروا، ولم يجاوزوه تزيُّداً فيعتدوا»(). هاتان الكلمتان الطيبتان من أفضل ما قاله السلف –رحمهم الله- في الأمر بالاتباع، والنهي عن الابتداع. ومن أعظم فوائدهما: التنبيه على وسطية الإسلام، واستقامة صراطه، فلا تعدُّدَ ولا تعوُّجَ. وهذا الأمر هو الذي تقوم عليه قاعدة الاتباع، فلا اتباع إلا بمعرفة الصراط، وإدراك وحدته واستقامته، والثبات على ذلك والتمسك به. وضد ذلك هو الذي تقوم عليه قاعدة الابتداع، فما وقعت البدع إلا بالخروج عن وحدة الصراط أو استقامته، والعدول عن جادَّته إلى بُنَيَّات الإفراط أو التفريط. ومن شعب ذلك: نظرية الكمال في الدين؛ أي: الوصول إليه، والدوام عليه؛ فهل يشترط ذلك؟ وهل النقص عن الكمال مُخْرِجٌ عنه –بالكلية-؟ وهذه النظرية هي التي دارت عليها رَحَى البدع –من قديم-، ونصب فيها الشيطان فَخَّيْه: الإفراط والتفريط، فقامت عليها بدعتان عظيمتان، وهما: بدعة الخوارج –في طرف الإفراط-، وبدعة المرجئة –في طرف التفريط. فأما بدعة الخوارج؛ فقد قامت على اشتراط الكمال وطلبه والدوام عليه، ولم تتصور فيه نقصا ولا تقصيرا؛ بل كان ذلك مُخرجا عنه –جملة-: فإما الكمال، وإما الضياع. وتصوير ذلك في بدعة الخوارج له وجوه عدة، أظهرها –وهو المناسب لمقامنا-: اعتقادهم في الإيمان؛ فإنه قائم على أصل، يشاركهم فيه جميع المبتدعة، وهو: أن الإيمان شيء واحد لا يتبعَّض، فإذا زال بعضه؛ زال جميعه، وقد التزموا ذلك؛ فأخرجوا العاصي عن الإيمان –جملة-؛ لأنه نقص عن كماله، والنقص –ها هنا- خروج عن الشيء –جملة-. وأما بدعة المرجئة؛ فكانت –في تأثرها بهذه النظرية- على الضد من بدعة الخوارج، فإن المرجئة وافقوا الخوارج على أصلهم المذكور في الإيمان؛ ولكنهم أدركوا خطورة تطبيقه –كما يطبقه الخوارج-، فنظروا، فوجدوا أن النقص عن الكمال يظهر –خاصة- في أعمال الجوارح، فأخرجوها عن مسمى «الإيمان» وحقيقته، وجعلوا الإيمان مجرد ما في القلب –ومنهم: من ضم إليه قول اللسان، وهم فقهاؤهم-، وقالوا إنه –بناء على ذلك- لا يزيد ولا ينقص، وإن العاصي مستكمل الإيمان؛ كل هذا محافظةً منهم على الكمال، واعتقاداً منهم أن انتقاصه مُخْرج عنه –جملة-، فلا مجال –إذن- لإثبات النقص –عندهم-. وعليه؛ فالكمال –عندهم- لا يزول أبدا، ويمكن تصوره وإثباته -مع شتى صور النقص والتفريط-. فانظر –هداك الله- إلى ضلال الطائفتين، واعجب لتقابُله وتناقضه!! وأما أهل السنة والحق؛ فهم وسط بين الفرق –كما أن الإسلام وسط بين الملل-، وقد تجلَّت وسطيتهم في هذه النظرية وما انبنى عليها من مسألة الإيمان العظيمة. فأهل السنة تصوروا الإيمان، وتصوروا –أيضا- قابليَّتَه للتفاوت والتبعُّض، فلم يجعلوا النقص منه مخرجا عنه –جملة-، ولم ينفوا تأثيره عليه –جملة-؛ بل قسموا الإيمان إلى أصل وكمال، وقالوا: من انتقص شيئا من كمال إيمانه الواجب–بترك واجب أو فعل محرم-؛ فقد زال عنه هذا الكمال، وصار آثما مستحقا للوعيد، فلم يعُدْ على حالته التي كان عليها قبل التفريط –كما تقول المرجئة-، وفي نفس الوقت: ما زال محتفظا بأصل إيمانه، الذي يبقيه في دائرة الإسلام، ولا يخرجه إلى دائرة الكفر –كما تقول الخوارج-. فهذا هو تأثير نظرية الكمال على المبتدعة الأوائل في مسائل الإيمان والكفر، وهذا هو موقف أهل السنة في ذلك. ثم ظهرت هذه النظرية –كَرَّةً أخرى- في هذه الأيام، في مسائل أخرى، وهي: مسائل السنة والبدعة، وتأثر بها طائفتان جديدتان من طوائف المبتدعة، وهما: الحدادية –في طرف الإفراط-، والمميِّعة –في طرف التفريط-. فأما الحدادية؛ فهم مخانيث الخوارج، واعتبارهم بنظرية الكمال في السنة كاعتبار الخوارج بها في الإيمان، فالحدادية لا يتصورون السنيَّ إلا محققا لكل شاذَّة وفاذَّة من مسائل السنة، فإذا نقص الرجل عن ذلك؛ أخرجوه عن السنة، وعدُّوه مبتدعا، وإن كان خلافه في أمر خفيٍّ؛ لعذر عرض له؛ ولهذا كانت قاعدتهم –في هذا الشأن-: من وقع في بدعة؛ صار مبتدعا. ووقفت المميِّعة بإزائهم، وهم مخانيث المرجئة، وأَتْباعهم في نظرية الكمال؛ فإن وصف السنة –عندهم- لا يزول ولا يتخلف، مهما كان ابتداع صاحبه، ومهما بلغ إحداثه في الدين –وإن كان في أظهر ما يكون، وإن كان صاحبه من أفجر ما يكون-. وكما اشترك أسلاف الطائفتين –من الخوارج والمرجئة- في أصل واحد؛ فقد اشتركت الطائفتان –أيضا- في أصل واحد، وهو: عدم التفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية، وعدم الاعتبار باختلاف الزمان والمكان والأحوال، وعدم التمييز بين زلة العالم وبدعة المبتدع، ولا بين الكلام في المسائل والكلام في الأعيان. وأما أهل الحق والسنة؛ فهم أهل العلم والعدل، والتفصيل والتمييز؛ فليس عندهم إطلاقات ولا إجمالات، وليس عندهم جورٌ في الحكم على الناس؛ بل كل شيء عندهم محكم ومنضبط(). * فهم يفرقون بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية: فالظاهرة: هي التي وضح فيها الدليل، وانتشر العلم، وقامت الحجة. والخفية: ما كانت بخلاف ذلك. فمن خالف في مسألة ظاهرة –أو: وقع في بدعة ظاهرة-؛ بُدِّع –بعينه-، من غير اشتراط لإقامة الحجة؛ لأنها قائمة –بالفعل-؛ خلافا للمميعة. وأما من خالف في مسألة خفية –أو: وقع في بدعة خفية-؛ فلا يبدَّع حتى تقوم عليه الحجة؛ خلافا للحدادية. * وأهل السنة يعتبرون بالزمان والمكان والأحوال: فالظهور والخفاء أمر نسبي، فقد تكون المسألة ظاهرة في زمان خفية في غيره، وكذلك في المكان والأحوال؛ كالمعلوم من الدين بالضرورة، فالاعتبار بذلك واجب، وهو سمة أهل السنة من الجمع بين الشرع والواقع؛ خلافا للمميعة الذين يعتبرون الخفاء –دوما-، والحدادية الذين يعتبرون الظهور –دوما-. * وأهل السنة يميزون بين زلة العالم وبدعة المبتدع: فإذا كان عندهم عالم معروف بعلمه واستقامته وسلفيَّته، فزلت قدمه في مسألة خفية، لم يتبين له وجهها، ولم يتضح له خطؤه فيها؛ فإنهم يجرون عليه القاعدة المتفق عليها في زلات العلماء: فلا يخرجونه عن السنة، ولا يهدرون مكانته، ولا يشنعون عليه؛ وفي الوقت ذاته: يحذرون من زلته، ويبينون خطئه، ولا يتابعونه فيه –قط-. وها هنا –خاصة- يبرز قَرْنُ الحدادية، الذين لا يرقبون فيمن هذه صفته إلاًّ ولا ذمة؛ بل شعارهم التبديع، وسبيلهم التشنيع، لا يفرقون بين ابن خزيمة وواصل بن عطاء، ولا بين ابن تيمية وعمرو بن عبيد، ولا بين الذهبي والجهم بن صفوان؛ والبقية –عندهم- كثيرة، والله المستعان على ما يصفون. وأما من تخلف فيه شيء من القيود السابقة؛ لم يعامله أهل السنة بتلك المعاملة السالفة: فإن كان الرجل معروفا بجهله، أو مشهورا ببدعته، أو وقع في بدعة ظاهرة، أو نُصح فقامت عليه الحجة في البدعة الخفية؛ فإنه –في كل ذلك- لا يُنزَّل منزلة العلماء، ولا تعامَل ضلالاته معاملة زلاتهم؛ بل هو مبتدع ضال مائل عن الحق، ليس من السنة ولا من الهدى في شيء. وها هنا –أيضا- يبرز قرن المميعة، فيسوُّون بين العالمين والجاهلين، وبين السلفيين والمبتدعين، وبين المعذورين وغير المعذورين؛ فالجميع –عندهم- على خير، يشملهم اسم «السنة»، ويسعهم المنهج «الأفيح»؛ والله المستعان على ما يصفون. * وأهل السنة يميزون بين الكلام في المسائل والكلام في الأعيان: فقد يكون القول المعين أو العمل المعين بدعة منكرة، فيبينون ذلك قائلين: «قول كذا: بدعة»، أو: «عقيدة كذا: هي عقيدة المبتدعة»، أو نحو ذلك، ولا يكون من واقع شيئا من تلك البدع مبتدعا –بعينه-، وقد يطلقون المقولة التنفيريَّة التحذيريَّة المعروفة: «من قال كذا –أو: عمل كذا-؛ فهو مبتدع»، وهذا عموم لا يُنزَّل على الأعيان إلا بالتفصيلات السابقة، وقد تقدم خلاف الحدادية والمميعة لها. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، أهل الحديث وأَتْباع السلف: علم وحكمة، وعدل ورحمة، لا إفراط ولا تفريط، ولا تمييع ولا تشديد. فأسعد الناس من اتبعهم، وسار على دربهم؛ وأشقى الناس من خالفهم، وتنكَّب صراطهم. نسأل الله أن يهدينا سبيل الحق والنَّجاء، ويجنبنا سبل الباطل والشقاء؛ إنه سميع قريب مجيب للدعاء. وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه؛ وسلَّم. كتبه أبو حازم القاهري السلفي 16/رجب/1433
|