الصبر على المخالف بين الإفراط والتفريط الحمد لله أبلغ حمد وأزكاه ، وأشهد أن لا إله حقٌّ سواه ، وأشهد أن محمدا نبيه ومصطفاه ؛ صلَّى الله وسلَّم عليه ، وعلى من اتبع هداه . أما بعد ؛ فإن قضية الصبر على المخالف من مهمات القضايا ، التي شغلت حيزا كبيرا من الاهتمام في الساحة العلمية الدعوية – لاسيما في هذه الأيام - ، وكثر فيها المتكلمون : كلٌّ يدلي بدلوه ، وينزع ذنائب() من قريحته ، فمستقل ومستكثر . وقد تأملت في مواقف الناس من هذه القضية – بحسب ما بلغني - ، فوجدتهم فريقين : * فريق يرى أنه لا وجود في الشرع لما يُسمَّى بـ«الصبر على المخالف» - أصلا - ، فلابد من الرد على كل مخالف بمخالفته، وأخذه بظلمه وجريرته، من غير تسويف ولا إبطاء، ولابد – أيضا – من الحكم عليه بمقتضى مخالفته حكما قضائيا معجَّلا ، لا يقبل التردد ، فضلا عن التعقيب . * وفريق يرى أن الصبر على المخالف من واجبات الدين ، ومظاهر سماحة الشريعة ، فما كان كذلك لم يجز إلغاؤه ولا تحجيره ؛ بل لابد من فتح أبوابه على مصارعها ، وترك أحبال أموره على غاربها ؛ بل إنه يسعنا – بناء على ذلك – أن نسكت حتى عن رد المخالفات وإبطالها – من حيث هي - ؛ سيرا على جادة الصبر والمصابرة . وقد حشد كل فريق ما لديه من حجج ، وجرت بينهما المناظرة التالية : * قال الفريق الأول : أعظم ما نحتج به : النصوص العامة في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والنصيحة ؛ فإن عمومها محفوظ، ومدلولها - من الوجوب - فوري، والصبر فيه من التراخي ما ينافي ذلك . وقد تأيد ذلك بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- العملية ، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يرد– فورا - على كل مخالف بمخالفته ، ولنا أبلغ عبرة في هجره -صلى الله عليه وسلم- كعبا وصاحبيه -رضي الله عنهم- ، من غير تراخ ولا تهاون . وهذا هو ما مشى عليه السلف الصالح، في ردودهم على المخالفات، وإنكارهم للمنكرات، وموقفهم من أهل البدع والضلالات ؛ كل ذلك يصدع بالفورية والحزم . فقيل للحبر ابن عباس -رضي الله عنهما- : «إن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر»، فقال: «دلوني عليه»، وهو يومئذ أعمى، فقالوا: «وما تصنع به؟»، قال: «والذي نفسي بيده، لئن استمكنت منه؛ لأَعُضَّنَّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي لأَدُقَّنَّها»() . وقدم الإمام سفيان الثوري -رحمه الله- البصرة ، فسأل عن مذهب الربيع بن صبيح ، فقالوا : «ما مذهبه إلا السنة» ، قال : «من بطانته ؟» ، قالوا : «أهل القدر» ، فقال : «هو قدري»() . وقال الإمام أحمد -رحمه الله- في يعقوب بن شيبة – بسبب الوقف في القرآن - : «مبتدع صاحب هوى»() . وقال في الكرابيسي – بسبب مسألة اللفظ - : « إياك إياك وهذا الكرابيسي، لا تكلمه، ولا تكلم من يكلمه»() ، وقال فيه – أيضا - : «مبتدع»() . وقال في داود الظاهري : «هذا قد كتب إلىَّ محمد بن يحيى النيسابوري في أمره: أنه زعم أن القرآن محدث، فلا يقربني»(). وقال في الحارث المحاسبي : «لا يغرك خشوعه ولينه، ولا تغتر بتنكيس رأسه؛ فإنه رجل سوء، ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره، لا تكلمه، ولا كرامة له؛ كل من حدث بأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان مبتدعا تجلس إليه؟! لا، ولا كرامة، ولا نعمى عين»() . وقال في كتبه الإمام أبو زرعة الرازي -رحمه الله- : «إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر؛ فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب»() . وقال الإمامان أبو حاتم وأبو زرعة – رحمهما الله - : «ومن وقف في القرآن جاهلا؛ عُلِّم، وبُدِّع، ولم يُكَفَّر»(). فهل ترون– أيا أولي الألباب – في شيء من ذلك صبرا أو تهاونا ؟! * قال الفريق الثاني : لقد أخذتم ببعض الأدلة دون بعض ، فما حققتم ، وما أنصفتم ؛ فاسمعوا – الآن – ما يبطل دعواكم : أما النصوص العامة في النصيحة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ؛ فهي مقيدة بأمثالها – إن لم يكن بأضعافها – من النصوص العامة في مراعاة المصالح والمفاسد ، لاسيما ما يتعلق بتغيير المنكر بما هو أنكر منه ، فلا يخفاكم أنه لا يجوز النهي عن منكر – كالرد على مخالف – بما يؤدي إلى ما هو أنكر منه ، وأنه لا يجوز التذرع إلى ذلك بعمومات النهي عن المنكر . وأما ما ذكرتموه من السنة العملية ؛ فليس مطردا في كل الأحوال ؛ إذ قد ترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- قتل المنافقين، وغيرهم – كذي الخويصرة - ، وترك بناء الكعبة على قواعد أبيه إبراهيم -عليه السلام- ، واعتبروا – أيضا – بحاله -صلى الله عليه وسلم- في العهد المكي الأول، وفي صلح الحديبية ؛ أفليس في كل ذلك دلالة على ترك تغيير المنكرات ؛ مراعاة لما يؤدي إليه من المفاسد العظيمة ؟ وأما ما ذكرتموه من شأن السلف ؛ فليس مطردا – أيضا – في كل الأحوال : فهذا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قد كف يده عن الخوارج ، حتى ناظرهم ابن عباس -رضي الله عنهما- ، وكان من شأنهم ما كان من الإفساد من الأرض . وقال حماد بن زيد -رحمه الله- : كان رجل قد لزم أيوب، وسمع منه، ففقده أيوب، فقالوا: «يا أبا بكر، إنه قد لزم عمرو بن عبيد»، فبينا أنا يوما مع أيوب، وقد بكرنا إلى السوق، فاستقبله الرجل، فسلم عليه أيوب، وسأله، ثم قال له: «بلغنى أنك لزمت ذاك الرجل» -يعنى: عمرا-، قال: «نعم يا أبا بكر؛ إنه يجيئنا بأشياء غرائب»، فقال: «إنما نفرُّ أو نفرق من تلك الغرائب»() . وقال أيوب -رحمه الله- : قال لي سعيد بن جبير: «ألم أرك مع طلق ؟»، قلت: «بلى، فما له ؟»، قال: «لا تجالسه؛ فإنه مرجئ»، قال أيوب: «وما شاورته في ذلك، ويحق للمسلم -إذا رأى من أخيه ما يكره- أن يأمره وينهاه»(). وقال الإمام أبو داود -رحمه الله- : قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: «أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة، أترك كلامه؟»، قال: «لا، أو تُعْلِمه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة؛ فإن ترك كلامه؛ فكلِّمه، وإلا؛ فألحقه به، قال ابن مسعود: «المرء بخدنه»() . وقيل للإمام أحمد -رحمه الله- أيضا : «رجل محدِّث، يُكتَب عنه الحديث، قال: من شهد أن العشرة في الجنة؛ فهو مبتدع»، فاستعظم الإمام ذلك، وقال: «لعله جاهل لا يدري، يقال له»(). وقال الإمام أبو زرعة -رحمه الله- في خبر داود الظاهري وما أحدثه : «فكتمت ذلك ؛ لما خفت عواقبه»() . فهذه المواقف من الصراحة في الصبر على المخالف بمكان لا يخفى . وهذا التفصيل – في مراعاة المصالح والمفاسد – هو الذي قرره العلماء المتأخرون ، الذين هم أعلم الناس وأقعدهم بمنهج السلف ، وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- خاصة في ذلك كثير معلوم ، لاسيما ما هو مُودَع في الجزء الثامن والعشرين من «المجموع» . واعتبروا – أخيرا – بحال الحدادية ، الذين صار من أبرز أصولهم وعلاماتهم : التعجل في الرد على المخالف ، والحكم عليه بالتبديع ، دونما نظر في المصالح والمفاسد ، وقد عانت الدعوة كثيرا من هؤلاء المُبِيرين ، والله المستعان على ما يصفون . ** قال أبو حازم – غفر الله له - : وفصل النزاع بين الطائفتين يحصل بتفصيل المسألة ، وتمييز مباحثها ؛ فإن التفصيل والتمييز هما – دوما – مفتاح الإصابة ، وبيان ذلك هنا من وجوه : * أحدها : التفريق بين الرد على الخطأ ، والحكم على صاحبه : أما الرد ؛ فهو حتم لازم ؛ لما ذكره الفريق الأول من عموم النصوص ، الآمرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ ولما في ترك الخطأ من إيهام إقراره ، ونسبته إلى الشريعة ، والتلبيس على الناس ، ولا عبرة بما يُدَّعَى في هذا المقام من مفسدة الفرقة والفتنة ؛ فإن هذه المفسدة مطروحة – جزما – في الشريعة ، فلا يجوز اعتبارها بما يؤدي إلى ترك التنبيه على الأخطاء ؛ لأن مفسدة الترك أعظم – عند التأمل والتحقيق - ، وفي هذا يقول الشاطبي -رحمه الله- : «فمثل هؤلاء [ يعني : أهل البدع ] لابد من ذكرهم، والتشريد بهم، لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم -إذا تُركوا- أعظم من الضــرر الحــاصل بذكرهــم والتنفيــر عنهم- إذا كان سبب تــرك التعيين: الخــوف من التــفرق والعدواة -، ولا شك أن التفريق بين المسلمين، وبين الداعين للبدعة وحدهم - إذا أقيم عليهم-: أسهل من التفرق بين المسلمين، وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم، وإذا تعارض الضرران؛ يرتكب أخفهما وأسهلهما، وبعض الشر أهون من جميعه، كقطع اليد المتآكلة، إتلافها أسهل من إتلاف النفس، وهذا شأن الشرع أبدًا: يطرح حكم الأخف وقاية من الأثقل»() . وأما الحكم على المخطئ ؛ فهو المُرْتَقَى الصعب ، الذي يقبل النظر في المصالح والمفاسد – بعد النظر في القواعد الشرعية التي تضبطه - ، ومن تأمل فيه ؛ علم أنه من باب العقوبات ، لاسيما ما يترتب عليه من أحكام – كالهجر ونحوه - ، وقد تقرر أن باب العقوبات مرتهن بالنظر في المصالح والمفاسد ، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : «وإذا عُرف أن هذا هو من باب العقوبات الشرعية؛ علم أنه يختلف باختلاف الأحوال: من قلة البدعة وكثرتها، وظهور السنة وخفائها، وأن المشروع قد يكون هو التأليف -تارة-،والهجران-أخرى-؛كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتألف أقواما من المشركين، ممن هو حديث عهد بالإسلام،ومن يخاف عليه الفتنة، فيعطى المؤلفة قلوبهم مالا يعطى غيرهم»() . * والثاني : التفريق بين المبتدع الأصلي ، والسني الذي وقع في البدعة : فأما الأول؛ فحكمه ظاهر، فتُرد بدعته، ويعامل معاملة أهلها – بحسب الإمكان كما تقدم-، وإنما يأتي الإشكال في الثاني ، وحلُّه يحصل بالتفصيل بين البدعة الظاهرة ، والبدعة الخفية : فأما الظاهرة ؛ فهي الواضحة المعروفة ، التي قامت فيها الحجة على كل أحد – أو : على من وقع فيها- ، فلا يكون المقام فيها مشكلا متشابها، يحتاج إلى بحث وتحرير؛ فمن وقع فيها ؛ بُدِّع بعينه ، وعلى هذا يتنزل ما ذكره الفريق الأول من مواقف السلف . وأما الخفية ؛ فعلى الضد من ذلك ، فمن وقع فيها ؛ لم يُبدَّع حتى تقوم عليه الحجة ، ثم يصر من بعد ذلك ، وعلى هذا يتنزل ما ذكره الفريق الثاني من مواقف السلف . * والثالث : التفصيل في المعاملة – بحسب ما تقدم - : ففي جميع الصور السابقة : لابد من رد الأخطاء والمنكرات والبدع ، وبيان زيفها ووهائها للناس ، فلا يمكن التسامح في ترك ذلك – بحال - . فإن كان الواقع في شيء من ذلك سنيا سلفيا ؛ فليكن ردُّ ما وقع فيه برفق ولين ، من غير تشنيع ولا تشغيب ؛ فإن هذا يحقق مصلحة النصيحة ، ويدرأ مفسدة التنفير – في آن واحد - . فإن اقتضى شيء مما وقع فيه أن يُبدَّع لأجله ؛ فهذا هو الذي يقبل مراعاة المصالح والمفاسد ، فمتى ظهر للناقد البصير أن التبديع يأتي بمفسدة أرجح ؛ فليمسك عنه ؛ فإن له في ذلك سعة ، ولا يُعلم أن أحدا من أهل العلم اشترط التصريح بالتبديع – في مثل هذا المقام - ، وإنما يُعلم هذا عن مخانيث الخوارج ، من الحدادية وأشكالهم . فإن قيل : لكن ما ذكرتموه من مراعاة المصالح والمفاسد باب واسع فضفاض ، يكثر فيه الزلل من جراء تحكيم العقول، وكلٌّ يقول: المصلحة كذا ، والمفسدة كذا ؛ أفلا يحسن – إذن – أن يُغلق هذا الباب ، وتُسد هذه الذريعة ؟ قلت : كلا ؛ لأمرين : * أحدهما : أن أصل النظر في المصالح والمفاسد واجب شرعي ، وأصل مِلِّي ، بينته النصوص المتكاثرة ، وتقريرات العلماء المتضافرة ؛ بل هو أساس وعصب لعلم مستقل من علوم الدين ، وهو : علم مقاصد الشريعة ، وقد شرعه من علم اختلاف عقول عباده ، وتفاوت آرائهم، وتباين اجتهاداتهم، فمعارضته بمثل هذه الأشياء من ضرب الأمثال ، والتمحل بالباطل ، ومعلوم أن هذه الأشياء محققة في تعرض العباد لكافة النصوص والقواعد الشرعية؛ فما القول ؟! وإنما الحق الذي لا محيص عنه : أن من أخطأ في تقديره للمصالح والمفاسد ؛ بُيِّن خطؤه بالحجة والسلطان ، من غير أن يدفعنا هذا إلى غلق هذا الباب العظيم – جملة - ، كما أن من أخطأ في فهم نص شرعي ؛ بُيِّن خطؤه – كذلك - ، من غير إلغاء لهذا النص . * والثاني : أننا لم نقل بمراعاة المصالح والمفاسد إلا في باب الحكم على الرجال وتوابعه ، دون باب النصيحة والبيان ، ولا شك أن هذا الثاني هو الأهم والآكد ، والأول فرع عليه ، فالخطب يسير – على كل تقدير - . وليس في هذا تهوين من شأن الحكم وتوابعه ، كيف وقد تضافرت على ذلك النصوص ، وجرى عليه عمل العلماء من السلف والخلف()؟ وإنما المقصود بيان منزلته من رد الأخطاء نفسها ، والتحذير منها ، وأن أصل النصيحة يحصل بهذا . نعم ؛ قد يتصور مجال لمراعاة المصالح والمفاسد في نفس الرد على الأخطاء ؛ كمبتدع ذي سطوة نشر بدعته ، فلو أنكرناها ؛ لحاق بنا أذي معتبر في الشريعة ؛ ولكن مثل هذا المقام له صور محدودة تقدَّر بقدرها ، والعبرة بالغالب – كما هو مقرر - ، فالغالب أن رد المنكرات والأخطاء لا يكون فيه مثل ذلك . وفي الختام؛ فليُعلم أن ملاك الأمر في الرفق، والحِلم، واللين ، والتؤدة ، والأسلوب الطيب ، والموعظة الحسنة ؛ فبذلك يتمكن الرجل من إيصال ما معه من الحق في سهولة ويُسر ، دونما فتنة أو عُسر ، وبه يدق أعناق مخالفيه ، ويرغم أنوفهم ، ويجبرهم على احترامه – وإن ظلوا مخالفين له - ، ولا يخفى على العاقل ما في ذلك من الخير العظيم ، والنفع العميم . والله أعلم بالحق والصواب ، وصلَّى الله وسلَّم على محمد وآله أولي الألباب . كتبه أبو حازم القاهري السلفي 26 / رجب / 1432 |