التحذير <"/>
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :542768
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الثالثة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير

المقال
تفريغ الخطبة الثالثة من التحذير من دين الخوارج وخطر التكفير
3569 زائر
22/09/2013
أبو حازم القاهري السلفي

التحذير

من دين الخوارج

وخطر التكفير

(الخطبة الثالثة)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فهذا مبدأ كلامنا على اعتقاد الخوارج ودينهم، بعدما تكلمنا على نشأتهم وظهورهم.

ويمكننا تقسيم اعتقاد الخوارج إلى اعتقاد أصلي، واعتقاد تابع.

فأما الاعتقاد الأصلي؛ فهو الذي ظهروا به ونشئوا عليه، وهو -كما عرفنا- التكفير والإفساد في الأرض، فهم يكفرون المسلمين ويخرجونهم عن دينهم -بغير موجب-، ثم يستحلون دماءهم، ويخرجون على حكامهم، ويستبيحون أرضهم وبلادهم؛ وثَمَّ انحرافات أخرى تتعلق بمسألة التكفير؛ كالقول في الوعيد والشفاعة، وسنتعرف على ذلك تفصيلا -إن شاء الله تعالى-.

فهذا هو اعتقاد الخوارج الأصلي، الذي ظهروا به ونشئوا عليه -في أول أمرهم-، وهو شعارهم الأكبر -في كل زمان ومكان-.

وأما الاعتقاد التابع؛ فهو ما طرأ على الخوارج في مراحل لاحقة، مع تطور أمرهم، وظهور اختلافات متعددة في كثير من مسائل العقيدة، فكان من أمر الخوارج: أن وقعوا في المزيد من البدع والضلالات، وفاقا لفرق أخرى من الفرق الضالة، لاسيما المعتزلة والجهمية.

ونحن -في يومنا هذا- نعرض لطرف من هذه المسائل، كعرض إجمالي لدين الخوارج، ثم نعود في الأسابيع المقبلة -إن شاء الله تعالى- إلى التركيز على اعتقادهم الأصلي، وتفصيل الكلام فيه -بحول الله عز وجل-.

فمن المسائل المذكورة: مسألة الصفات الإلهية، فقد نسبت كتب المقالات إلى طائفة من الخوارج: أنهم وقعوا في بدعة التعطيل، كما نسبت إلى طائفة أخرى: أنهم وقعوا في بدعة التمثيل.

فأما بدعة التعطيل؛ فهي نفي الصفات وإنكارها وعدم إثباتها، وفاقا للمعتزلة والجهمية ونظرائهم.

وأما بدعة التمثيل؛ فهي تمثيل الله -تعالى- بخلقه، وفاقا للممثِّلة والمجسِّمة ونظرائهم.

وهذا كله ضلال مبين، ومروق عن الجادة المستقيمة؛ فإن الله -تعالى- له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ردٌّ على الممثِّلة، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ ردٌّ على المعطِّلة، فالله -سبحانه وتعالى- له الأسماء الحسنى من غير شبيه ولا مثيل، وكذلك له الصفات العلى الكاملة التامة، التي لا يشوبها شيء من النقص أو العيب.

ولهذا كان معتقد أهل الحق: أنهم يثبتون ما أثبته الله -تعالى- لنفسه، وما أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم-، من غير تحريف ولا تمثيل، ومن غير تكييف ولا تعطيل؛ فيؤمنون بكل ما ورد في الكتاب وصحيح السنة من الأسماء والصفات، يثبتونها لرب العزة -سبحانه وتعالى-، ويؤمنون بها وبمقتضياتها.

وهم -في ذلك- على جادة مستقيمة وسبيل قويمة:

لا يحرِّفون شيئا من هذه الأسماء والصفات عن معانيها الظاهرة المعقولة المعلومة في لغة العرب.

ولا يكيِّفون شيئا منها، فيقولوا: صفة ذاته كذا، أو صفة اسمه كذا، أو صفة صفته كذا.

ولا يمثِّلون الله -تعالى- بخلقه في شيء من أسمائه وصفاته؛ فالله -تعالى- هو السميع وليس كسمعه سمع، وهو البصير وليس كبصره بصر، وهو العليم وليس كعلمه علم، وهو الحي وليس كحياته حياة، وهو القادر وليس كقدرته قدرة، وهو الحكيم وليس كحكمته حكمة؛ إلى غير ذلك من أسمائه -جل وعلا- وصفاته.

وهم -أيضا- لا يعطِّلون شيئا من الأسماء والصفات، لا ينكرونها، ولا يردونها، ولا يتوقفون في إثبات شيء منها -بعد ثبوته في نصوص الشرع-.

هذا هو اعتقاد أهل الحق، الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وبه يُرَدُّ على اعتقاد الخوارج وأشباههم.

ومن المسائل المذكورة: مسألة القرآن، ولها تعلق بمسائل الصفات؛ فإنها تتعلق بصفة إلهية جليلة، وهي: صفة الكلام.

فالخوارج -كما ذكرته عنهم كتب المقالات- يقولون بخلق القرآن، وفاقا للمعتزلة والجهمية.

ومعنى القول بخلق القرآن: أن الله -تعالى- لا يتكلم، ولا يأمر، ولا ينهى، وأن هذا القرآن العظيم إنما هو مخلوق كسائر المخلوقات، كالبشر أو الجن أو الملائكة أو الجمادات أو نحو ذلك.

وهذا ضلال آخر؛ بل كفر أَبْلَقُ؛ فإن الله -تعالى- وصف نفسه بأنه يتكلم، وكذلك وصفه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وبيَّن الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أن هذا القرآن العظيم هو كلام الرب -جل وعلا-.

كما قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ [التوبة: 6]، فكلام الله هنا هو القرآن -باتفاق أهل العلم من المفسرين وغيرهم-.

وفي حديث جابر -رضي الله تعالى عنه- وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود وغيره: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعرض نفسه على الناس في الموقف في موسم الحج قائلا: «هل من رجل يحملني حتى أبلغ كلام ربي؛ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي»، فكلام الرب هنا -كما هو ظاهر- القرآن الكريم.

والآيات والأحاديث في وصف الله -تعالى- بالكلام لا تكاد تُحصَى، فيدخل في هذا كل آية فيها: أن الله -تعالى- يتكلم، أو سيتكلم، أو أنه -تعالى- قال كذا، أو سيقول كذا، وهذا كثير جدا في الكتاب والسنة؛ فكل آية على هذا النحو تثبت صفة الكلام لله -عز وجل-.

والقرآن كلام الله، وكلام الله -تعالى- صفة من صفاته، لا يجوز عليها شيء من الخلق والإحداث -كسائر الصفات-؛ فإن الخلق هو الإيجاد بعد العدم، أن يكون الشيء معدوما ثم يوجد، وهذا لا يجوز على شيء من صفات الله -عز وجل-؛ إذ لو جاز؛ لكان الله -تعالى- ناقصا حتى حدث له الكمال -تعالى وتقدس عن ذلك-.

فكلام الله -تعالى- صفة من صفاته، وصفات الله ليست بمخلوقة، فكذلك كلامه ليس بمخلوق، ولما كان القرآن من كلامه؛ وجب أن يكون كذلك غير مخلوق.

هذا اعتقاد أهل الحق، وشعار السنة: القرآن كلام الله، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، هو المتكلم به -سبحانه وتعالى-، وإليه يعود في آخر الزمان؛ كما قالت طائفة من أهل العلم، وفيه حديث معروف ثابت: أن القرآن يُسرَى عليه في آخر الزمان، حتى يعود إلى رب العزة -سبحانه وتعالى-.

فهذا اعتقاد أهل الحق، وبه تعرف ضلال الخوارج ونظرائهم؛ نسأل الله أن يقينا الضلالات كلها.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

من المسائل التي وافق فيها الخوارج غيرهم من أهل البدع: مسألة الرؤية -رؤية الله عز وجل في الآخرة-، فالخوارج وافقوا المعتزلة والجهمية أيضا في نفي رؤية الله -عز وجل- وإنكارها، فعندهم: أن الله -تعالى- لا يُرى، ولا يجوز أن يُرى، وأن ما جاءت به النصوص من إثبات الرؤية إنما يُرَدُّ إلى العلم: أن الخلق يعلمون علما يقينا أن الله -تعالى- هو الحق، وأن البعث حق، وأن الجزاء حق؛ إلى غير ذلك.

وهذا ضلال آخر؛ فإن النصوص متضافرة -كتابا وسنة- على إثبات رؤية الله -عز وجل- في الآخرة، يقول -تعالى-: ﴿ وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22-23]، ويقول -تعالى-: ﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله -عز وجل- كما ثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ ويقول -تعالى- في الكفار:
﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]، فأثبت الحجاب للكافرين، ولا فائدة في ذلك إلا إثبات الرؤية للمؤمنين؛ والأحاديث في إثبات الرؤية بالغةٌ -عند أهل العلم- مبلغ التواتر القطعي.

فنحن نؤمن بالرؤية، نؤمن أن المؤمنين يرون ربهم -سبحانه وتعالى- في الآخرة بأبصارهم، لا يحول دونهم شيء، ولا يمنعهم عن ذلك شيء؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه المومى إليها: «إنكم ترون ربكم يوم القيامة -كما ترون القمر-، لا تضامون في رؤيته».

فهكذا يعتقد أهل الحق، وبهذا نؤمن ونسلم، وأما أهل الضلال؛ فلا عبرة بهم، ولا التفات إليهم.

ومن المسائل المذكورة أيضا: مسألة فتنة القبر؛ فإن الخوارج وافقوا المعتزلة والجهمية أيضا في إنكار فتنة القبر.

وقد تضافرت النصوص بإثباته كذلك؛ كما في قول الله -عز وجل-: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27]، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المراد بهذه الآية: ما يكون في القبر: من أن المؤمن يُسأل عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه الذي بُعث فيه؛ فيجيب بأن ربه الله، وبأن دينه الإسلام، وبأن نبيه محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-؛ فهكذا يثبِّت الله -عز وجل- المؤمنين في هذا المقام.

ويقول -سبحانه وتعالى- في فرعون وآله: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ﴾ [غافر: 46]، فغاير -سبحانه وتعالى- بين ما يسمَّى بالعرض على النار، وبين ما يكون من العذاب في الآخرة، فالعرض -إذن- بخلاف العذاب الذي يكون في الآخرة، وعليه؛ فالعرض -كما قال أهل العلم- هو العرض على النار في القبر.

والأحاديث في ذلك أيضا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- متواترة، فيها إثبات فتنة القبر، وأن كل مقبور يُسأل بالأسئلة الثلاثة التي ذكرتها، فأما المؤمن فيثبته الله -عز وجل- ويكون من الناجين، وأما الكافر فيخذله الله -تعالى- ويكون من الخاسرين.

وهناك بعض المسائل الأخرى، التي تأثر فيها الخوارج بأهل البدع، مما له شوب فقهي.

فمنها: أن الخوارج يوجبون على المرأة الحائض أن تقضي الصلاة التي تركتها في حال حيضها.

وهذا قول قديم لديهم، فقد ثبت في الصحيحين: أن امرأة سألت عائشة -رضي الله عنها-: «ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟»، فقالت: «أحروريةٌ أنتِ؟»، والحروريون هم الخوارج؛ كما عرفنا في الجمعة الماضية: أنهم نزلوا بمكان يقال له: «حروراء»، ولأجل هذا سُمُّوا حرورية.

فقالت عائشة للمرأة: «أحروريةٌ أنتِ؟»؛ دلالة على أن قولها هذا إنما يعرف عن الحرورية -الذين هم الخوارج-، فقالت المرأة: «ليست بحرورية؛ ولكني أسأل»، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: «كنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة».

فالأمر -إذن- مرده إلى الشرع والدين والتكليف، الذي يجيء من عند الله -عز وجل-، وما يجيء -على هذه الشاكلة- لا مجال فيه للعقول والآراء؛ فهكذا ديننا الذي شرعه ربنا، وبلغه نبينا -صلى الله عليه وسلم-: المرأة الحائض لا تصلي ولا تصوم؛ ولكنها تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة.

ومن المسائل المشار إليها لدى الخوارج أيضا -كما عزاه إليهم أهل العلم-: أنهم أنكروا رجم الزاني المحصن؛ وهذا فيه تأثر واضح بأهل البدع -من المعتزلة ونظرائهم-، الذين يُعملون العقل في دين الله -عز وجل-، ولا يعتمدون على النقل -وإن كان متواترا-.

وقد عزا غير واحد من أهل العلم إلى بعض المتأخرين من الخوارج: أنهم أوغلوا في هذا الأمر إيغالا شديدا، حتى أنكر بعضهم السنة؛ وهذا غلو فاحش، إنما يعرف عن المبتدعة العقلانيين المشار إليهم؛ وهكذا شأن البدع -كما سأشير إليه بعد قليل -إن شاء الله-.

فعزا أهل العلم إلى الخوارج أنهم ينكرون حد الزاني المحصن -الذي هو الرجم-، وهذا حد ثابت لدى أهل العلم، مقطوع به، وقد كان فيه آية من كتاب الله -عز وجل- منزَّلة؛ كما ثبت في الصحيحين: أنه كان فيما يُقرأ من القرآن: ﴿الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله﴾، كان هذا فيما يقرأ من القرآن، ونحن نؤمن -كما يؤمن أهل الإسلام جميعا- بأن النسخ واقع في دين الله -سبحانه وتعالى-، فالله -سبحانه وتعالى- يُحكم ما يشاء، وينسخ ما يشاء، ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ [الرعد: 39]، كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة: 106].

والنسخ -عند أهل العلم- إما أن يكون للَّفظ والحكم، وإما أن يكون للَّفظ دون الحكم، فالنسخ الذي وقع في حد الزاني المحصن إنما هو نسخ للَّفظ لا للحكم، فاللفظ الذي كان فيما يُقرأ من القرآن هو الذي نُسخ، فإنك لا تجد هذه الآية الآن في كتاب الله -عز وجل-؛ لكن حكمها باق، لم يُنسخ، ولم يتغير، والدليل: سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثابتة المقطوع بها، فقد رجم
-صلى الله عليه وسلم- في وقائع عدة، ورجم من بعده الخلفاء الراشدون في وقائع عدة كذلك، حتى قال عمر -رضي الله عنه- وهو المحدَّث الملهم ما معناه: «قد رجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورجمت الخلفاء الراشدون، فأخشى أن يجيء قوم -من بعد ذلك- فيقولوا: ما نجد الرجم في كتاب الله»، وقد وقع ما قاله؛ هكذا تسمع أهل البدع الآن، وهكذا كانوا يقولون من قديم، يقولون: الرجم لا وجود له في كتاب الله، إذن فلا وجود له في دين الله!!

هذا غلط قبيح، وإنما ديننا يقوم على الكتاب والسنة، لا بد منهما، لا يكفي أحدهما عن الآخر، ولا يُستغنَى بأحدهما عن الآخر، وقد أوضحنا هذا من قديم -والحمد لله-.

فالخوارج ينكرون هذا الحد الثابت بالسنة المقطوع بها، وهم -في ذلك- يوافقون غيرهم من أهل البدع -كما أشرت إليه-.

نكتفي بهذا القدر من المسائل المشار إليها، وأنا ألفت النظر -كما أشرت إليه آنفا- إلى خطورة البدع؛ فإن القاعدة -كما قال أئمة السنة-: البدع تبدأ في أول أمرها صغارا، ثم تعود من بعد ذلك كبارا؛ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «البدع تكون في أول أمرها أشبارا، ثم تكبر حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ».

فاعتبر بشأن الخوارج: كيف كان أمرهم في بدايته ونشأته، وكيف آل -من بعد ذلك- في تطوره، ولعلكم تستحضرون الواقعة التي ذكرناها من قديم -وإن كان في صحتها نظر-، أعني واقعة ابن مسعود -رضي الله عنه- مع أهل الحِلَق، الذين دخل عليهم وهم يذكرون الله -تعالى-، ومعهم حصى يعدُّون بها الذكر، ويقوم على رأسهم رجل: سبِّحوا كذا، كبِّروا كذا، هلِّلوا كذا؛ فأنكر عليهم ابن مسعود -رضي الله عنه-، وكان حاضرا معهم رجل يروي القصة، فقال هذا الرجل: «فرأيت عامة أولئك الحِلَق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج».

فانظر كيف بدءوا في أمرهم: بدءوا ببدعة هي -بالقياس إلى ما هو أشد منها- يسيرة، والبدع كلها كبيرة؛ ولكنها تتفاوت، بعضها أشد من بعض، وأخطر من بعض.

فهذه البدعة يسيرة، لا يكاد يُلتفت إليها؛ ولكنها -مع ذلك- أفضت إلى ما هو أخطر وأشد منها: أفضت إلى تكفير للمسلمين، واستباحة لدمائهم، وطعن في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم آل الأمر -من بعد ذلك- إلى الطعن في رب العزة نفسه -بتعطيل صفاته، وتمثيله بخلقه-.

فالأمر -إذن- ليس باليسير، لا تحقرنَّ البدعة، ولا تستصغرنَّ شأنها، ولا تنظرنَّ في قول قد يبدو لك في ظاهر أمره يسيرا؛ فإنه يؤول -من بعد ذلك- إلى خطر كبير.

فهذه بعض المسائل التي ذكرتها كتب المقالات عن الخوارج، وبها يُعرف دينهم الإجمالي.

ثم إننا من بعد ذلك -إن شاء الله- نعود إلى اعتقادهم الأصلي -الذي هو التكفير-، وهو الذي يستمر معهم في كل زمان ومكان؛ لئلا يقول قائل -وما أكثر القائلين!-: أنتم تقولون إن الخوارج معطِّلة وممثِّلة، ويقولون بخلق القرآن، وينكرون الرؤية، ويفعلون كذا، ويقولون كذا؛ ونحن لا نقول بشيء من ذلك!!

فهذا من جهلهم وضلالهم، ومن عدم بصيرتهم وتمييزهم؛ فإن أصل الخوارج الأعظم وعقيدتهم الكبرى: التكفير، هذه هي السمة التي لا تنقطع في الخوارج -في كل زمان ومكان-، فخوارج العصر الآن تراهم أمامك يثبتون الصفات، ويوافقون أهل السنة في القرآن، وفي الرؤية، وفي الصحابة، وفي القدر، إلى غير ذلك؛ وهذا لا يرفع وصف البدعة عنهم؛ فإنه لا بد من موافقة أصول السنة كلها، ومن وافق أصلا وخالف أصلا آخر؛ فإن موافقته للأصل الأول لا تنفعه بشيء.

فانتبهوا، ولا تغتروا بزخرفة المزخرِفين، وتمويه المموِّهين، وتضليل المضلِّلين؛ كل من كفر المسلمين بغير حق، وأخرجهم عن دينهم -كما سنعرف تفصيلا -إن شاء الله-؛ فهو مبتدع موسوم بالخروج، وإن كان في باقي أمره على السنة.

فانتبهوا لهذا، ولا تغتروا بالخداعات والتضليلات، ونسأل الله -تعالى- أن يقينا الشر كله.

اللهم قنا الشر كله، والفساد كله، واكشف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وتوفنا على التوحيد والسنة وأنت راض عنا يا رب العالمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت