التحذير
من دين الخوارج
وخطر التكفير
(الخطبة الثانية)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد تكلمنا على نشأة الخوارج المارقة، وتبين لنا أن بُدُوَّ أمرهم كان في عهد النبوة نفسه، إذ خرج أبوهم الأول ذو الخويصرة التميمي يطعن في الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه، ويأمره -بزعمه- بالمعروف وينهاه عن المنكر، فحذر منه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن نسله وأصحابه، وذكر من صفتهم الكاشفة ما يتضح به أمرهم.
واليوم -إن شاء الله سبحانه- نتكلم على نسل ذي الخويصرة وأصحابه، في خروجهم وظهورهم، ونذكر من أخبارهم في ذلك ما يؤكد صفتهم التي أخبر بها النبي المعصوم -صلى الله عليه وسلم-.
وسنعتمد في ذلك على كلام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي -رحمه الله- في كتابه «تلبيس إبليس»، فإنه لخص الأمر وساقه سياقا حسنا.
قال -رحمه الله-: «أول الخوارج وأقبحهم حالة: ذو الخويصرة»، ثم ساق بإسناده إلى أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، فذكر الحديث الذي ذكرناه في الجمعة الماضية.
ثم قال: «فهذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وذلك أنه لما طالت الحرب بين معاوية وعلي -رضي الله عنهما-، رفع أصحاب معاوية المصاحف، ودعوا أصحاب علي إلى ما فيها، وقالوا: «تبعثون منكم رجلا، ونبعث منا رجلا، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله -عز وجل-»، فقال الناس: «قد رضينا».
فبعثوا عمرو بن العاص، فقال أصحاب علي: «ابعث أبا موسى»، فقال علي: «لا أرى أن أولي أبا موسى، هذا ابن عباس»، قالوا: «لا يزيد رجلا منك»، فبعث أبا موسى، وأخر القضاء إلى رمضان، فقال عروة بن أذينة: «تحكمون في أمر الله الرجال! لا حكم إلا لله».
هكذا بيَّن ابن الجوزي -وهو الثابت عند المؤرخين وغيرهم- أن ظهور الخوارج -من نسل ذي الخويصرة- كان في الحرب التي وقعت بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، وهكذا أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه؛ كما ذكرنا في الجمعة الماضية من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يتيه قوم من قبل المشرق -وأومأ بيده إلى العراق-»، وفي حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- في بعض رواياته، قال -صلى الله عليه وسلم-: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق»، فذكر -صلى الله عليه وسلم- أن هؤلاء المارقة يخرجون على حين فرقة من المسلمين واختلاف، وهذا هو ما وقع في الفتنة التي كانت بين علي ومعاوية -رضي الله تعالى عنهما-.
والمقصود بذلك: ظهور الخوارج كفرقة وجماعة ظاهرة، وإلا فخروجهم كان قبل ذلك، فقد باءوا بنصيب كبير وحظ عظيم في مقتل الخليفة عثمان -رضي الله تعالى عنه-، فكانوا من الذين خرجوا عليه، وألَّبوا الناس عليه، وكانوا من الذين شاركوا في قتله، ثم اندسوا بعد ذلك في جيش علي -كما شرحناه في الكلام على الرافضة-.
فالمقصود بقول العلماء -وكذلك بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن ظهورهم يكون من قبل العراق-؛ المقصود بذلك: ظهورهم كجماعة بيِّنة متحيزة، لها رأي تظهره وتناوئ عنه.
وها أنت ترى أن ظهورهم كان على إثر وقعة التحكيم التي حدثت بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، وقد نبهنا كثيرًا على أن واقعة التحكيم ثابتة في أصلها؛ ولكن زيد فيها كثير من الكذب والاختلاق والبهتان؛ كمثل ما هو معروف -للأسف- لدى قطاع عريض من المسلمين: أن عَمْرًا خدع أبا موسى -رضي الله عنهما- بتلك الخدعة التي قيل فيها: أخلع إمامي، وتخلع إمامك؛ إلى آخر ما تعرفون، وأن القوم لما افترقوا على ذلك صار يلعن بعضهم بعضا، ويدعو بعضهم على بعض؛ فهذا كله كذب لا أصل له، وإنما الثابت في الروايات التاريخية المعتبرة -كما ذكر ابن الجوزي- أن الحكمين لم يتفقا على شيء، وإنما أخرا القضاء إلى موعد قابل.
فعندئذ ظهرت الخوارج، وقالت: إن الحكم إلا لله؛ كيف تحكمون الرجال في أمر الله؟!
مع أنهم -كما في الروايات التاريخية المفصلة- هم الذين حرضوا عليا -رضي الله عنه- على قبول التحكيم، وكان -في أول أمره- غير موافق عليه، فأصر عليه القوم، وقالوا: دعاك إلى كتاب الله؛ فكيف تأبى؟ فهم الذين حرضوه، وأصروا على قبوله للتحكيم، فلما شرع فيه ووقع ما وقع؛ خذلوه وقالوا: تحكم الرجال في أمر الله؟! إن الحكم إلا لله.
فهذا الموقف من صفتهم الكاشفة، التي هي: سفاهة الأحلام، فالخوارج -من أول أمرهم- سفهاء الأحلام -كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، أصحاب طيش وتسرع ورعونة وتناقض، يقولون الشيء ثم يرجعون عنه، فليس لهم عقيدة ثابتة ولا قول ثابت.
وهذا هو ما تراه في خلوفهم اليوم، يقولون القول ثم يرجعون عنه، ويفتون الفتيا ثم يرجعون عنها، فليس ذا بغريب عليهم، وإنما هي وراثة ورثوها وتحملوها عن أجدادهم الأُوَل.
ولما قالت الخوارج: إن الحكم إلا لله، قال علي -رضي الله عنه- كما ثبت في «صحيح مسلم»: «كلمة حق أريد بها باطل».
وهذا هو ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال في القوم: «يقولون من خير قول البرية، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم -وهو عليهم-».
قالت الخوارج: إن الحكم إلا لله، وهذا -في الأصل- كلام رب العزة، فها هم يستشهدون بالقرآن ويقرءونه، ويقولون من خير القول وأحسنه، وهو -في الحقيقة- حجة عليهم، لا يريدون به حقا، وإنما يريدون به باطلا؛ فانتبه لذلك واحذر.
قال ابن الجوزي: «ورجع علي من صفين، فدخل الكوفة، ولم تدخل معه الخوارج، فأتوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفا، وقالوا: لا حكم إلا لله، وكان ذلك أول ظهورهم، ونادى مناديهم: أن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري.
وكانت الخوارج تتعبد؛ إلا أن اعتقادهم أنهم أعلم من علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وهذا مرض صعب -».
ثم ساق بسنده إلى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: إنه لما اعتزلت الخوارج دخلوا دارا وهم ستة آلاف، وأجمعوا على أن يخرجوا على علي بن أبي طالب، فكان لا يزال يجيء إنسان فيقول: «يا أمير المؤمنين، إن القوم خارجون عليك»، فيقول: «دعوهم، فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسوف يفعلون».
هكذا جزم أن قتالهم واقع، وكان جزمه بناء على ما سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأنهم -كما ذكرنا-.
قال: «فلما كان ذات يوم أتيته صلاة الظهر، فقلت له: «يا أمير المؤمنين، أَبْرِد بالصلاة [أي: أخِّرْها عن أول وقتها] ، لعلي أدخل على هؤلاء القوم فأكلمهم»، فقال: «إني أخاف عليك»، فقلت: «كلا»، وكنت رجلا حسن الخلق، لا أؤذي أحدا، فأذن لي، فلبست حلة من أحسن ما يكون من اليمن، وترجلت، فدخلت عليهم نصف النهار، فدخلت على قوم لم أر قط أشد منهم اجتهادا: جباههم قَرِحة من السجود، وأياديهم كأنها ثَفِن الإبل [وثفن الإبل: هي مواطن البروك التي يظهر فيها الغِلَظ من كثرة البروك على الأرض]، وعليهم قمص مرحَّضة [أي: مغسولة]، مشمرين، مسهمة وجوههم من السهر».
هكذا رأى من شأنهم؛ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، وعمله إلى عملهم، يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء»، وهم على ما شرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الضلالة والبدعة.
قال ابن عباس: فسلمت عليهم، فقالوا: «مرحبا بابن عباس، ما جاء بك؟».
في هذا إشارة إلى أنهم لم يردوا عليه السلام، فقد كانوا يكفرونه؛ كما كفروا عليا ومن معه، كما كفروا معاوية ومن معه، كما كفروا -من قبل- عثمان ومن معه.
قال ابن عباس: فقلت: «أتيتكم من عند المهاجرين والأنصار، ومن عند صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله منكم»، فقالت طائفة منهم: «لا تخاصموا قريشا؛ فإن الله -عز وجل- يقول: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: 58]»، فقال اثنان أو ثلاثة: «لنكلِّمنَّه»، فقلت: «هاتوا ما نقمتم على صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين والأنصار، وعليهم نزل القرآن، وليس فيكم منهم أحد، وهم أعلم بتأويله»، قالوا: «ثلاثا»، قلت: «هاتوا»، قالوا: «أما إحداهن؛فانه حكم الرجال في أمر الله،وقد قال الله -عز وجل-: ﴿إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ﴾، فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله -عز وجل-؟»، فقلت: «هذه واحدة، وماذا؟»، قالوا: «وأما الثانية؛ فإنه قاتل وقتل، ولم يَسْبِ ولم يغنم، فإن كانوا مؤمنين؛ فلِمَ حل لنا قتالهم وقتلهم، ولم يحل لنا سبيهم؟»، قلت: «وما الثالثة؟»، قالوا: «فإنه محا عن نفسه أمير المؤمنين، فإنه إن لم يكن أمير المؤمنين فإنه لأمير الكافرين»، قلت: «هل عندكم غير هذا؟»، قالوا: «كفانا هذا».
قلت لهم: «أما قولكم: حكم لرجال في أمر الله؛ فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله ما ينقض هذا، فإذا نقض قولكم أترجعون؟»، قالوا: «نعم»، قلت: «فإن الله قد صيَّر من حكمه إلى الرجال في ربع درهم ثَمَن أرنب، وتلا هذه الآية: ﴿لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 95] إلى آخر الآية، وفي المرأة وزوجها ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35] إلى آخر الآية؛ فنشدتكم بالله هل تعلمون حكم الرجال في إصلاح ذات بينهم وفي حقن دمائهم أفضل، أم حكمهم في أرنب وبضع امرأة، فأيهما ترون أفضل؟»، قالوا: «بل هذه»، قلت: «خرجتُ من هذه؟»، قالوا: «نعم».
فهذه أول شبهة لهم، قالوا: حكَّم الرجال في أمر الله وما الحكم إلا لله؛ فنقض ابن عباس شبهتهم بأن الله -تعالى- قد أذن للرجال أن يحكموا، وفوَّض إليهم في كتابه أن يقضوا في بعض الأقضية؛ كما في مسألة الهدي، يقول الله -عز وجل-: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ [المائدة: 95]، وكما في شأن الشقاق بين الرجل وزوجته: ﴿فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35]؛ فهل يفوض الله -سبحانه وتعالى- الرجال في أمر كهذا، ثم لا يفوضهم في أمر أعظم منه، وهو: القضاء في دماء المسلمين، ونحو ذلك من الأمور الكبيرة؟!
قال: قلت: وأما قولكم:قاتل ولم يسب ولم يغنم؛فتسبون أمكم عائشة -رضي الله تعالى عنها-؟! فوالله لئن قلتم: ليست بأمنا؛ لقد خرجتم من الإسلام، ووالله لئن قلتم: لنَسْبِيَنَّها، ونستحل منها ما نستحل من غيرها؛ لقد خرجتم من الإسلام، فأنتم بين ضلالتين؛ لأن الله -عز وجل- قال: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}؛ أخرجتُ من هذه؟»، قالوا: «نعم».
فهذه شبهتهم الثانية، يقولون: إن عليا قاتل من قاتل من الناس، ولم يسب منهم شيئا، أي: لم يأخذ نساءهم، ولم يغنم شيئا من أموالهم، فإن كانوا مؤمنين؛ فلماذا قاتلهم؟! وإن كان قد حَلَّ قتالهم، فلماذا لم يحل سبيهم ومغنمهم؟!
فقال ابن عباس -رضي الله عنه-: أتريدون أن تسبوا أمكم عائشة -رضي الله عنها-؟! يشير إلى ما وقع في موقعة الجمل، وقد نبهنا -عند الكلام على الرافضة- أن القتال لم يقع باختيار من الصحابة، وإنما كان بسعي أهل الفتنة والتحريش -من السبئية وأعوانهم-.
فقال ابن عباس: إن عائشة -رضي الله عنها- أمكم -بنص كتاب ربكم-، فلئن قلتم: ليست بأمنا؛ لقد خرجتم من الإسلام؛ إذ كذبتم كلام الله، ولئن قلتم: نسبيها ونستحل منها ما نستحل من غيرها؛ لقد خرجتم من الإسلام أيضا؛ إذ ناقضتم حكم الله؛ فأنتم بين ضلالتين!! وهكذا يتهاوى جهل الخوارج، وتتهاوى بدعتهم.
قال ابن عباس: قلت: «وأما قولكم: محا عن نفسه أمير المؤمنين؛ فأنا آتيكم بمن ترضون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية صالح المشركين أبا سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو، فقال لعلي -رضي الله عنه-: «اكتب لهم كتابا»، فكتب لهم علي: «هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله»، فقال المشركون: «والله ما نعلم أنك رسول الله، لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك»، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: «اللهم إنك تعلم أني رسول الله؛ امْحُ يا علي، اكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله» فوالله لرسول الله خير من علي، وقد محا نفسه».
فهذه شبهتهم الثالثة، يقولون: إن عليا عند التحكيم -لما كتب ما كتب في ذلك الوقت- لم يكتب عن نفسه: إنه أمير المؤمنين، لم يذكر لقبه، ولم يذكر إمامته، فلئن كان قد فعل ذلك؛ فهو أمير للكافرين!!
فقال ابن عباس -رضي الله عنه-: لقد فعل هذا من هو خير من علي، فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قصة الحديبية -لما عارضه المشركون-، فكتب -صلى الله عليه وسلم-: «هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله»، ومحا لقب رسالته، وهو -صلى الله عليه وسلم- خير من علي، والرسالة خير من الخلافة.
فنقض ابن عباس شبهتهم الثالثة، وبذلك قامت الحجة عليهم.
قال: «فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقُتلوا».
نفع الله -عز وجل- منهم من نفع، وبقي الباقون -وهم الأكثرون-، وهكذا شأن أهل البدع في كل زمان ومكان، لا يكاد يرجع منهم أحد؛ نسأل الله السلامة والعافية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
* الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال ابن الجوزي -رحمه الله- بعدما ذكر بسنده إلى جندب الأزدي، قال: «لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب، فانتهينا إلى معسكرهم، فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن».
مظهر آخر من مظاهر اجتهادهم -كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ثم ذكر ابن الجوزي بعد ذلك مفاصلة الخوارج لعلي -مما لا نطيل بذكره الآن-.
ثم قال: «ولقي الخوارج في طريقهم عبد الله بن خباب، فقالوا: «هل سمعت من أبيك حديثا تحدِّثه عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- تحدِّثناه؟»، قال: «نعم، سمعت أبي يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول»، قالوا: «أنت سمعت هذا من أبيك تحدِّثه عن رسول الله؟»، قال: «نعم»، فقدموه إلى شفير النهر، فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك نعل، وبقروا بطن أم ولده عما في بطنها -وكانت حبلى-، ونزلوا تحت نخل مواقير بنهروان، فسقطت رطبة، فأخذها أحدهم فقذف بها في فيه، فقال أحدهم: «أخذتها بغير حدها وبغير ثمنها»، فلفظها من فيه، واخترط أحدهم سيفه، فأخذ يهزُّه، فمر به خنزير لأهل الذمة، فضربه به يجرِّبه فيه، فقالوا: «هذا فساد في الأرض»، فلقي صاحب الخنزير فأرضاه في ثمنه».
يقول -صلى الله عليه وسلم- كما عرفنا: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان»، فهم يستحلون الدماء، ويعيثون في الأرض بالفساد، في الوقت الذي يتورعون فيه عن توافه الأمر وسفاسفه.
يقتلون عبد الله بن خباب -رضي الله عنهما- بتلك الطريقة الفاحشة، ويتعدون على أم ولده، فيبقرون بطنها -وجاء في بعض الروايات: أنهم أخرجوا جنينها، فذبحوه كذلك-، في الوقت الذي يتنزهون فيه عن رطبة، تسقط في يد أحدهم عفوا، وفي الوقت الذي يتنزهون فيه عن إصابة خنزير لأهل الذمة!!
هكذا شأنهم: تراهم أمامك يتكلمون بالورع والتقوى والصلاح: قال الله، وقال الرسول! الحلال كذا والحرام كذا! ثم هم أسرع الناس فيما حرم الله، هم أسرع الناس في دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، هم أسرع الناس بالفساد في بلاد الإسلام، يحدثون فيها الفوضى والفساد والاضطرابات والفتن؛ وقد تنزه أجدادهم عن رطبة وخنزير!!
قال: «فبعث إليهم علي -رضي الله عنه-: «أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب»، فقالوا: «كلنا قتله»، فناداهم ثلاثا، كل ذلك يقولون هذا القول، فقال علي -رضي الله عنه- لأصحابه: «دونكم القوم»، فما لبثوا أن قتلوهم، وكان وقت القتال يقول بعضهم لبعض: «تهيأ للقاء الرب! الرواح الرواح إلى الجنة!»، وخرج على علي -رضي الله عنه- بعدهم جماعة منهم، فبعث إليهم من قاتلهم».
كانوا يقولون في قتالهم لعلي: «الرواح إلى الجنة!»، وقد قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، وفي بعض الأحاديث التي لم نذكرها في الجمعة الماضية -لضيق الوقت-، وهي أحاديث ثابتة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخوارج: «كلاب أهل النار».
هذا حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهم يقولون: «الرواح إلى الجنة!»؛ لأنهم يجاهدون-عند أنفسهم- كفارا مشركين مرتدين؛ فكيف لا يكون قتلاهم في الجنة -وهم كذلك-؟!
وهكذا تسمع الآن: «الجهاد الجهاد! قاتلوا الكفار! قاتلوا المشركين! قاتلوا المرتدين! قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار!».
ما شاء الله! هكذا -بمنتهى البساطة-! والكلام -كما تقول العامة-: لا يكلف مالا، فما أسهل الكلام! وما أسهل الدعاوى! ثم يبوء الناس -من بعد ذلك- بالدماء والخراب.
قال: «ثم اجتمع عبد الرحمن بن ملجم بأصحابه، وذكروا أهل النهروان، فترحموا عليهم، وقالوا: «والله ما قنَّعنا بالبقاء في الدنيا شيءٌ بعد إخواننا الذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو أنا شرينا أنفسنا لله، والتمسنا غير هؤلاء الأئمة الضلال، فثأرنا بهم إخواننا، وأرحنا منهم العباد».
ثم ذكر تمام الاتفاق الذي اتفق عليه ابن ملجم مع صاحبين له، حتى يقتلوا عليا ومعاوية وعمرو بن العاص -رضي الله عنهم أجمعين-.
هكذا: تكفير يترتب عليه سفك للدماء وفساد في الأرض، حتى خاض القوم في دماء أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، يستحلونها، ويتقربون إلى الله بإراقتها، ويقولون فيهم: إنهم أئمة ضلال كفار مرتدون؛ وهكذا شأن التكفير لا يقف عند حد.
هذه نهاية الخبر في ظهور الخوارج، ونختم كلامنا برواية لبعض الأحاديث التي ذكرناها في الجمعة الماضية، في شأن إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتال الخوارج، وقد ذكر لهم علامة ظاهرة، بحث عنها علي -رضي الله عنه- في قتاله لهم، حتى ظفر بها، فاستدل بذلك على إصابته، وعلى سلوكه أمرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أخرج مسلم عن زيد بن وهب الجهني: أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي -رضي الله عنه-، الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي -رضي الله عنه-: «أيها الناس، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم -وهو عليهم-، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قُضي لهم على لسان نبيهم -صلى الله عليه وسلم-؛ لاتكلوا عن العمل، وآية ذلك: أن فيهم رجلا له عضد، وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض».
هكذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في علامة القوم، قال: علامتهم رجل، له هذه الصفة في خلقته.
قال علي -رضي الله عنه-: «فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريِّكم وأموالكم؟! والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس؛ فسيروا على اسم الله».
قال سلمة بن كهيل: فنزَّلني زيد بن وهب منزلا، حتى قال: مررنا على قنطرة، فلما التقينا -وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي-، فقال لهم: «ألقوا الرماح، وسلوا سيوفكم من جفونها؛ فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء»، فرجعوا فوحَّشوا برماحهم، وسلوا السيوف، وشجرهم الناس برماحهم، وقُتل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان، فقال علي -رضي الله عنه-: «التمسوا فيهم المُخْدَج [يعني: الرجل الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم-]، قال: فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي -رضي الله عنه- بنفسه، حتى أتى ناسا قد قُتل بعضهم على بعض [أي: تراكمت جثثهم]، قال: «أخِّروهم»، فوجدوه مما يلي الأرض، فكبَّر، ثم قال: «صدق الله، وبلَّغ رسوله»، قال: فقام إليه عَبِيدة السلماني، فقال: «يا أمير المؤمنين، آللهِ الذي لا إله إلا هو، لسمعتَ هذا الحديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟»، فقال: «إي، والله الذي لا إله إلا هو»، حتى استحلفه ثلاثا، وهو يحلف له.
وقد ذكرنا آنفا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في علامة أخرى للقوم: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق»، والذي قاتلهم هو علي -رضي الله عنه-، وعند أهل السنة والجماعة: أنه كان أولى بالحق من معاوية -رضي الله تعالى عنه- ومن كان معه.
فهذا شأن الخوارج في ظهورهم كجماعة متحيزة، وهذا شيء من أخبارهم -كما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم إننا -من بعد ذلك- نتكلم في عقائدهم، ونسأل الله الإعانة والتوفيق.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم اكشف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اكشف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجعل بلادنا آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين، اللهم اغفر لنا الذنوب، واستر عنا العيوب، وتوفنا من هذه الدنيا على ما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا
|