التعليق على الأحداث الأخيرة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعدُ -عباد الله-، فلا بد لنا من نظرة في واقعنا الأليم -الذي عشناه في الأسبوع الماضي-، نكرر فيها النصيحة، ونؤكد البيان، ونوضح الحكم الشرعي؛ ليتميز الحق عن الباطل، ويهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حيّ عن بينة.
لقد ذكرنا في الجمعة الماضية أن الرئيس عُزل عن منصبه، ولم يعد حاكمًا للبلاد، فلا وجه -إذن- ولا داعي لما يجمعه أنصاره من الأحابيش، وما يدعون إليه من استنقاذه واستعادته.
ونحن -في مقامنا هذا- نكشف شبهة من شبهاتهم، وإن كان هذا قد وقع ضمنًا في الجمعة الماضية، ولكنّنا نؤكد الأمر ونزيد في إيضاحه- إن شاء الله-.
وذلك أن القوم يعتبرون الرجل أسيرًا، ويقولون: إذا أُسر الأمير؛ فواجب على الأمة نجدته وإنقاذه.
وهذا -في حد ذاته- حق؛ ولكنهم ينزلونه في غير منزله، ويضعونه في غير موضعه، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن ما وقع للرجل لم يكن أسرًا، وإنما هو عزل وإقصاء عن الحكم، وصورته: أن يأتي شخص -من أهل الحل والعقد أو غيرهم-، فيقصي الحاكم بالقوة، ويتغلّب على البلاد.
وهذا -في حد ذاته- ليس بمشروع، ولا يقرّه دين الله -عز وجل- قط؛ ولكن الشريعة دائمًا تتعامل مع الواقع الذي يقع بين المسلمين، وتقدّم له الحلول التي تحصل المصالح وتدرأ المفاسد؛ فانعقد الإجماع على لزوم طاعة المتغلّب، وترك الخروج عليه؛ حقنًا للدماء، وتحقيقًا للأمن والاستقرار، ولم يقل أحدٌ من أهل العلم قط: إن الإمام المقهور المغلوب -في هذه الحالة- لا يزال على حاله من الإمامة، وإنه لا بد من مقاومة المتغلّب حتى تعاد الأمور إلى نصابها؛ هذا شيء لا وجود له في كلام أحد من أهل العلم، وإنما أحكام التغلّب المجمع عليها: نصُّها كما ذكرتُه لكم.
الوجه الثاني: أننا لو سلمنا أن ما وقع للرجل كان أسرًا، فقد بيّن العلماء -كما هو مقرر في كتب الأحكام السلطانية- أن بقاء الإمام المأسور في إمامته مرتهن برجاء خلاصه، فإذا لم يُرْجَ خلاصه؛ فقد زال عن حكم الإمامة، ووجب على الأمة تولية غيره.
وهذا هو الواقع الآن؛ فإن الجيش هو الذي احتجز الرئيس، فخلاصه -إذن- مرتهنٌ بمواجهة الجيش والتغلب عليه؛ وكيف يحدث هذا؟!
وقال أهل العلم أيضًا: لو أن طائفة من أهل البغي أسرت الإمام، ثم أمّرت عليها حاكمًا؛ فهذا دليل على الإياس من خلاص الإمام، ووجب على الأمة عقد الإمامة لغيره.
وهذا هو الواقع الآن أيضًا؛ فإن الجيش لم يكتفِ بتنصيب حاكم على نفسه؛ بل نصّبه على الناس أجمعين.
فهذا هو الحكم الشرعي، الموجود في كتب العلم والشريعة، وهو ما تؤيده النصوص والقواعد، وهو الذي يحقق المصالح ويدرأ المفاسد.
وأنا أتنزّل مع المخالف فأقول: هبْ أن الجيش كفر، وحارب الإسلام، وانقضّ على الملّة وأهلها، وخلع ربقة الإسلام من عنقه؛ ألسنا نتفق على أن مجاهدته -والحال هكذا- يُشترط لها القدرة والاستطاعة؟!
ومن قَدَر الله -عز وجل-: أننا تكلمنا -منذ أيام قلائل- على الموقف الشرعي في سوريا، وذكرنا أن الحاكم السوري -وإن كان كافرًا زنديقًا- إلا أن الخروج عليه لا يجوز -بالصورة الواقعة الآن-؛ بل لا بد من وجود القدرة والاستطاعة، وإعداد العدّة.
فها نحن نتنزّل مع المخالفين -في مقامنا هذا-، ونوافقهم -في الظاهر- على دعايات التكفير والجهاد؛ فأي جهاد بغير عدّة؟! وأي حرب بغير قدرة واستطاعة؟! وأنتم تواجهون جيشًا نظاميًا قويًا مسلحًا؛ فلا بد أن نفطن لهذا كله.
وأنا أتساءل فأقول: أين واقع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياتنا الآن؟! لماذا صدفنا عن سنته، وتركنا منهجه، وهو الذي كنا ندندن حوله، وندعو الناس إليه؟! ألم نكن نقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في وقت الاستضعاف تحت حكم كافر، وهو مع ذلك يُسَامُ -وأصحابُه- سوء العذاب؛ فماذا كان؟! هل سَلَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سيفا؟! هل دعا إلى حرب وجهاد؟! أم تأخر فرض ذلك من الله حتى تتوفر العدة وتتحقق القدرة؟!
فافترضوا -يا عباد الله- أننا في دولة كافرة -والأمر والحمد لله ليس كذلك-، وافترضوا أن الجيش كفر -بفعلته-، وخرج عن ملة الإسلام؛ إلا أننا لا قدرة لنا على مواجهته، فمواجهته لا بد أن تهلك الحرث والنسل، وتدمّر الأخضر واليابس، وتقضي على كل شيء؛ فأي عاقل يبيح مواجهته -والحال هكذا-؟!
هذا وحده يكفي لإقامة الحجة، وبيان أن ما يفعله القوم الآن مخالف للقواعد الشرعيّة وما عليه أهل العلم، وأنهم يخوضون معركة فاشلة، لا سند لها من الشرع ولا من العقل؛ والبلية: أنهم ينتسبون إلى الدين، ويتكلمون باسمه، فمغبّة أفعالهم المنكرة لن تقتصر عليهم؛ بل ستزيد في تنفير الناس عن الدين، واستعداء السلطات على أهله جملة.
وها هي عهود الإرهاب قد أطلّت برؤوسها، وعادت بوجهها الكالح! البداية في سيناء، والبقية تأتي!! ستعود الخلايا والتنظيمات، وستعود التفجيرات والاغتيالات؛ كل هذا باسم الدين.
وأنا أعيد التنبيه على ضرورة التفطن لكيد الأعداء، وتخطيطهم الذي يسعون فيه لتدمير البلاد والقضاء عليها؛ فها قد رأيتم الأحوال، وما آلت من الاحتقان والشقاق، ولهذا نهينا الناس -من البداية- عن الخروج على حاكمهم، وأمرناهم بالصبر عليه؛ كما هو مقتضى النصوص الشرعية، وإجماع أهل السنة، وهو السبيل الذي يحفظ الأمن والسلامة، ويفوّت على الأعداء أهدافهم.
فلما خالف الناس ذلك؛ آل الأمر إلى ما ترون: اختلاف شديد، وشقاق بعيد، ودماء تُسفك، ومشهد غامض؛ وقد حذرنا من الواقع الجزائري والواقع السوري، وما يحدث -حتى الآن- يؤذن بوقوعه -لا قدر الله-.
وتصوروا الأمر معي من البداية: يأتي أصحاب الفتن الذين يَوَدُّون الخروج على الحاكم، فيهيجون الناس، ويجمعون الجموع، ويحشدون الحشود؛ حتى تمتلئ الشوارع بالناس، فيضطر الجيش -عندئذ- إلى التدخل، ويحدث ما حدث من العزل أو الانقلاب -سمّه ما شئت-، والجيش -في هذه الحالة- لا بد أن يقوم على حماية البلاد، ويتأهب لصد أي عدوان عليه، وفي المقابل: فالطرف الآخر يرفض ما حدث، ويريد أن يواجه الجيش، ويستعيد رئيسه؛ فهنا يأتي موقف بسيط لتوريط الجيش في الدماء -كما حدث عند الحرس الجمهوري-؛ فإذا تورط الجيش في ذلك، زادت الدعاية عليه، وزاد تهييج الناس عليه، حتى يعود مؤيدوه معارضين له، ويقولون: أنت جيش سفاك للدماء! عدو للحرية والديمقراطية! فيعود الجميع إِلْبًا واحدًا عليه، فتزيد الفوضى، وينتشر الشر، ويُدمَّر الجيش معنويًا -قبل أن يدمر حسيًا-!!
وهذا مقصود؛ فإن الجيش المصري هو الجيش الوحيد الباقي في مواجهة اليهود، ومن مخطط التقسيم عند الكفار: أن تصير سيناء دولة مستقلة، لا سلطان لمصر عليها؛ حتى تصير لقمة سائغة لليهود!!
وقد نُسيت أن ألفت نظركم -في الجمعة الماضية- إلى أمر خطير، وهو: المندسُّون بين الصفوف، الذي يبدءون بالوقيعة والقتال -كما فعل أجدادهم السبئية مع الصحابة في وقعة الجمل، وقد ذكرنا هذا من قبل-.
ولا يبعد أبدًا أن تكون أحداث الحرس الجمهوري بفعل هؤلاء المجرمين: تأتي طائفة أجنبية، فتنقسم إلى قسمين: قسم يهاجم الجيش، وقسم يهاجم المعتصمين، فيظن الأولون أن الآخرين هم الذين ضربوا، ويظن الآخرون أن الأولين هم الذين ضربوا، فتقع الواقعة -تمامًا كما حدث في وقعة الجمل بين الصحابة-، ويُصدّر الجيش على أنه معتدي، ويُصدّر الطرف الآخر على أنه معتدي؛ وهكذا تقع الفتنة بين الناس، وتُسفك الدماء، ويؤول الأمر إلى الواقع السوري أو الجزائري، وأعداؤنا لن يهدءوا أبدًا حتى يصلوا بنا إلى هذه المرحلة.
فالحل - إخوة الإسلام- في تحكيم الشرع والعقل والحكمة، لا بد أن ننظر فيما يقرره الشرع من الأحكام والقواعد، واتباعُ الشرع هو المخرج دائما من كل فتنة وضائقة ومحنة.
فعلينا -إخوة الإسلام- في هذه الأيام الفاضلة الطيبة المباركة: أن نعيد التأمّل والنظر، ونستعين بالله -سبحانه وتعالى-، ونصبر ونصابر، ونكثر من الدعاء والتضرع واللجوء إلى الله؛ حتى ينكشف ما بنا، وتُرفع الفتن، ويقينا الله شر أعدائنا.
عليكم بنصيحة الناس، عليكم بالتوعية والبيان؛ أقولها وأكررها؛ فإن الفتنة لن تُرفع إلا بذلك، والإعلام لن يفيدنا شيئًا، فإنه حرب على المتدينين جملة، لا يفرّق بين أحد منهم: نحن، والمعتصمون، والجهاديون، والتكفرييون؛ كلنا في خندق واحد -عند الإعلام-.
فلا تتصوروا أن ينصركم إعلام، ولا تتصوروا أن يرفع ما بكم حاكم أو سلطان، وعليكم بتوعية أنفسكم، ونشر النصيحة والبيان فيما بينكم، بالعقل والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وأما ترك الأمور هكذا؛ فلن يؤدي بالبلاد إلا إلى مصير، لا يعلم كُنْهَه إلا الله؛ والله المُسْتَجَار.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا
|