خطبة
الموقف الشرعي من الجهاد في سوريا
* الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم- وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن من أشد ما نزل بأخرة في بلاد الإسلام: ما وقع في بلاد الشام -في سوريا المنكوبة- من التقتيل والتعذيب، والخسف والدمار، والفساد في الأرض؛ وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد كثر الكلام على هذه المسألة الكبيرة في هذه الأيام القليلة الماضية، بعدما اتُخذ من قرارات في بلادنا، بشأن قطع العلاقات مع النظام السوري الحاكم، وفتح أبواب الجهاد في تلك البلاد، ونحو ذلك.
فكان لا بد من التصدي للكلام على هذه المسألة، وإيضاح الحق فيها؛ نصيحة لله، وكتابه، ورسوله، وأئمة المسلمين، وعامتهم؛ وقد رأيتُ أن أفرد ذلك في خطبة اليوم، حتى نلمّ بالمسألة من جوانبها -إن شاء الله تعالى-.
ولما كانت المسألة قائمة -في بدايتها- على مسألة الخروج على الحاكم؛ فلا بدّ أن نعرف أولاً متى يجوز هذا الخروج، والكلام في ذلك إنما هو تذكير، فقد تكلمنا في هذه المسألة مرارًا وتكرارًا؛ إذ لم يكن لنا شغل في الفتن الأخيرة بغيرها، والله المستعان.
اعلموا - رحمكم الله تعالى - أن الخروج على الحاكم لا يجوز إلا بشرطين أساسين:
أحدهما: أن يكفر الحاكم بعينه كفرًا بواحًا لا مرية فيه.
والثاني: توفر القدرة والاستطاعة على الخروج، وما يكون في ذلك من تحقيق المصلحة ودرء المفسدة.
لا بد من اجتماع هذين الشرطين معًا، لا يكفي أحدهما عن الآخر، فإذا تخلّف أحدهما؛ لم يجزِ الخروج.
والأصل في ذلك: حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، المخرج في الصحيحين، من قوله : «بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وفي أثرة علينا، وعلى ألّا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف الله لومة لائم»، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم فيه من الله برهان».
وعلى هذا أجمع العلماء، فلا تنعقد الإمامة لكافر -من الأصل-، ولا تستديم لمسلم خرج عن إسلامه وتوحيده، فلو أن الحاكم كان مسلمًا، ثم كفر بعينه كفرًا بواحًا لا إشكال فيه؛ فقد انتقضت إمامته، وانفكّت بيعته، فلا سمع له ولا طاعة أصلاً؛ ثم يُبحث بعد ذلك -في تحقيق الخروج عليه على أرض الواقع- في قضية القدرة والإستطاعة، فلو نتج عن الخروج مفاسد أكبر، أو لم تكن القدرة متوفرة؛ فإن الواجب حينئذ في الصبر والتضرع إلى الله تعالى -كما هي الجادة التي بينتها النصوص الشرعية، وأقوال أهل العلم-.
وبهذا نعرف أنه لا بد من النظر -ابتداء- في شأن حاكم السوري: هل يجوز الخروج عليه من الأصل أم لا:
فلننظر أولاً في الشرط الأول: هل كفر بشار؟ أم هو من الكافرين؟
والجواب: أن بشارًا وأسرته ينتسبون إلى طائفة من طوائف الشيعة، يُقال لها «النصيرية»، وعُرفت مؤخرًا بـ«العلوية»، وهذا له صلة بما نتكلم فيه أصالة من موضوع الرافضة.
وقصة النصيرية -من الأساس-: أنه في عهد الإمام العاشر -عند الرافضة- الذي يُقال له علي الهادي: ظهر رجل يُقال له: محمد بن نصير، ادّعى أنه الباب إلى الإمام الحادي عشر -الذي هو الحسن العسكري-، وادّعى في الحسن هذا: الربوبية، وأنه أرسله إلى الناس، فادّعى في الحسن الربوبية، وفي نفسه النبوّة، وكان من شأنه ما كان من الفظائع وإباحة المحرّمات: فكان يبيح نكاح المحارم، ويبيح اللواط، وغير ذلك من الخبائث والموبقات؛ فهذه قصة هذا الرجل الذي قيل في أتباعه - نسبه إليه-: «النصيرية».
فالنصيرية -في الأساس- يعتقدون الربوبية في غير الله -عز وجل-، ويعتقدون النبوة في غير محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ومن شأنهم -في جملة اعتقاداتهم-: أنهم ادّعوا الربوبية في علي نفسه -كما قالت السبئية من قبل- فالسبئية - كما عرفنا- ادّعت الربوبية في علي، وأنه لم يمت على الحقيقة، وإنما رفع إلى السماء، فما يُرى من البرق ضوؤه، وما يُسمع من الرعد صوته؛ وهكذا تقول النصيرية سواء، فعندهم: أن عليًا فيه جزء من الرب، وأنه إله تجسّد في صورة إنسانية -من جنس قول النصارى في المسيح سواء-، وأنه لما قُتل تخلّص من الجزء الإنساني المقيّد ، وانتقل إلى الجزء الإلهي، وصار في السماء، وصار يُرى ما يُرى من شأنه في الرعد والبرق.
ويعتقدون إيغالاً في الضلال والكفر- عياذًا بالله تعالى-: أن عليًا خلق محمدًا -صلى الله عليه وسلم-! وأن محمدًا خلق سلمان الفارسي! وأن سلمان الفارسي خلق نفرًا يُقال لهم: «الأيتام الخمسة»! منهم أربعة من الصحابة، وهم: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وعبد الله بن رواحة وعثمان بن مظعون؛ وخامسهم: قنبر مولى علي، الذي ذكرنا شأنه في تحريق السبئية -لو تذكرون-؛ وادعوا في هؤلاء الخمسة أنهم موكّلون بشئون الخلق: فمنهم من وُكل بالريح، ومنهم من وُكل بالمطر، ومنهم من وُكل بقبض الأرواح، إلى غير ذلك!!
والنصيرية -في اعتقاداتهم- باطنية، والباطنية هي: ادعاء باطن خفي للشرع، خلاف ما هو معلوم من ظاهره، فمن أمثلة ذلك: أن الصيام -عندهم- هو حفظ سر الطائفة! والجنابة -عندهم- موالاة الأعداء! والطهارة -في ضد الجنابة- في التبرؤ من الأعداء! إلى غير ذلك من مفاهيمهم، التي بدّلوا بها دين الله -عز وجل-.
ولهم صلوات خاصة! ويصلون بغير وضوء! ولا يرون الحج إلى بيت الله الحرام! ولهم أعياد خاصة، منها: عيد رأس السنة الفارسية، الذي يُقال له: «يوم النيروز»! كما يحتفلون أيضًا بأعياد النصارى سواء!
فهذا بعض شأنهم، وبه تعرف أنهم من أكفر الناس، وأبعدهم عن دين الإسلام.
وإنما سمُّوا «علوية» بأخرة في أوائل القرن الميلادي المنصرم؛ تعمية لأمرهم، حتى يروج على الناس، والذين أطلقوا عليهم ذلك هم: الكفار -من الفرنسيين وغيرهم-، حتى يروّجوا أمرهم على المسلمين.
وقد كان لهم ما كان في تاريخهم من التقلّبات والتحوّلات، حتى قوي نفوذهم جدًا في الستينات، ثم تولّوا الحكم في البلاد السورية في أوائل السبعينات، في صورة حافظ الأسد، وولده من بعده.
فها قد عرفتَ شأن بشار، بشار ينتسب إلى هذه الطائفة الكافرة، التي يُحكم بكفرها -جماعة وأفرادًا- من غير إشكال، فالمعيَّن منهم كافر -لا ريب في ذلك-؛ لأنه يخالف أمورًا معلومة بالضرورة من الدين، ويأتي بكفريات ظاهرة، لا يُقبل فيها عذر قط، فمثل هذا يُحكم بكفره مباشرة.
وعليه؛ فليس بشار بحاكم شرعي، وليس وليًا للأمر، وليس رئيسًا للمسلمين، ولا إمامة له -من الأساس-؛ فتحقق بذلك الشرط الأول للخروج عليه.
فهل تنتهي المسألة عند هذا؟
الجواب: لا، لا بد أن ننظر في الشرط الثاني، لا بد أن ننظر في القدرة والاستطاعة، لا بد أن ننظر في العدّة والعتاد للخروج على مثل هذا الطاغية؛ فإن الخروج عليه ليس بالأمر اليسير، وها قد رأيتم -على مدار الشهور الماضية- إلى أي شيء أدَّى الخروج عليه؛ لأن الشرط الثاني لم يُسْتَوْف.
فلا بد من القدرة والاستطاعة، ولا بد من تحقيق المصلحة الراجحة: بالإتيان برجل مسلم على الجادة -في أقل ما يكون-؛ حتى نتخلص من هذا الكافر، فلو أتينا بكافر مكان كافر؛ لما صنعنا شيئًا؛ هكذا يقول أهل العلم، ولا بد من النظر في المفسدة الراجحة: من تدخل الأعداء، وتقسيم البلاد، وإراقة الدماء، وانتهاك الأعراض؛ فلما ضُيّع هذا النظر الشرعي السديد، آل الأمر إلى ما رأيتم.
فلا بد أن ننظر- إخوة الإسلام- في جميع هذه الأشياء؛ لا تحركنا الحماسات، ولا تستفزنا العواطف، فالذي يصور -من البداية- أن الخروج على ذلكم الرجل كان أمرًا مشروعًا بإطلاق؛ فهو من أجهل الناس بالشريعة.
لا بد أن نعرف هذا أولاً، ثم ننظر -من بعد ذلك- إلى واقع نعيشه الآن، فإذا سلمنا أن الخروج لم يكن مستطاعًا؛ إلا أن الأمر قد وقع، وصرنا نعايش الآن فتنة صماء بكماء عمياء.
فلا بد أن نعرف ابتداء -من باب توضيح الحق، وتمييزه عن الباطل- أن ما حدث لم يكن بمشروع، وأن الشريعة لا تقرّه أصلاً؛ ولكن إذ قد وقع، فلا بدّ أن نتصرّف بمقتضى بما هو واقع.
والواقع الآن يوجب على حكام المسلمين أن يقفوا وقفة رجل واحد، ويقوموا قومة واحدة؛ لمنع هذا الطاغية والقضاء عليه، فالواجب الآن ليس منوطًا بآحاد المسلمين، ليس منوطًا بالرعية البسطاء المغلوبين على أمرهم، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا، وإنما الواجب الشرعي منوط بمن له الأمر والنهي -من حكام المسلمين وولاة أمورهم-، فهم الذي يخاطَبون شرعًا بجهاد هذا الرجل، والقضاء عليه.
وهذا هو ما سنعرف تفاصيله في الخطبة الثانية - إن شاء الله تعالى-؛ نسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا لما يحبّه ويرضاه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
* الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه قاطبة.
إخوة الإسلام - عباد الله-، كيف يتحقق هذا الواجب الشرعي الذي أشرتُ إليه؟
ديننا دائمًا يعلمنا أنه لا مجال للفوضى والاختلافات، والأهواء والآراء؛ بل كل شيء في ديننا مضبوط، له ضوابطه وقواعده التي تنظمه، وتؤول به إلى مصلحته الشرعية المرجوّة؛ فإن الشريعة آتية بتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، فكل ما فيه ضد لذلك؛ فليس من الشريعة في نسب ولا صهر.
لأجل هذا؛ كانت مسائل الجهاد -لشدة حساسيتها وخطورتها- من المسائل المقيدة المنضبطة، لها شروطها الشرعية وقواعدها المرعيّة؛ لئلا تخرج إلى حيز الفوضى وسفك الدماء في الأرض بغير حق.
فاعلموا - رحمكم الله تعالى- أن الجهاد له ضوابط، ونحن نتكلم -في مقامنا هذا- على الضوابط التي تمسنا بشكل أكبر -في ظل هذه المسألة التي نعيشها، والنازلة التي وقعت في بلاد المسلمين-.
ولا بد أن يُعرف ابتداء أن البحث في هذه المسائل -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله-: «من وظيفة الخواص من أهل العلم»، فلا مكان فيها لقصاص ولا واعظ، ولا أديب ولا مفكّر، ولا نصف متعلّم؛ من أولئك الذين أثبتوا فشلهم في النوازل، فيريدون أن يضمّوا إلى فشلهم فشلاً جديدًا! ولا عجب؛ فإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: «إذا لم تستح؛ فاصنع ما شئت»، وإن العقول إذا ضلّت؛ لم يبق لضلالها حد معقول، وإن الذي يبوء بالدماء مرة ؛ لا يُستغرب منه أن يبوء بها آلاف المرات!
فدعكَ -أيها المسلم- من الخبط والخلط، ودع عنك الحيرة والوسوسة والتلبيس، وعليك بمن إذا تكلم قال: قال الله، قال رسوله، قال الصحابة؛ وأما الذين تستفزهم الحماسات، ويتكلمون بمقتضى السياسات؛ فلا يُسمع لهم في شيء من دين الله -عز وجل-.
فالكلام الذي سأذكره لكم هو المزبور في كتب الفقه، هو المزبور في كتب الإسلام، هو الذي تؤيده القواعد الشرعية والأدلة المرعية، وبه أفتى الكبار -ولا يزالون يفتون-، فلا مجال في كلامي - بحمد الله تعالى- لرأي ولا قياس ولا هوى، ولستُ أتكلم بشيء من عنديات نفسي، والذي يقارع: إنما يقارع الحجة بالحجة، لا يقارع بحجة بأحد من الناس.
فمن الضوابط- إخوة الإسلام- في صورتنا التي نتكلم فيها: إذن ولي الأمر.
لا بد أن يأذن ولي الأمر، ولا بد أن يكون التحرّك من جهته؛ لأنه هو المنوط شرعًا بهذه الأشياء - كما ذكرت-، فالواجب الشرعي -من جهاد الطاغية السوري، والقضاء عليه، ورفع الفتنة الكائنة في البلاد السورية- إنما يخاطب به ولاة الأمر، لا يخاطب به أحد من الناس؛ لأن هذه المسألة من المسائل الكبيرة، التي يقال لها: «النوازل»، وفقه الجهاد تحديدًا وأحكامه يُصرف النظر فيها إلى الإمام بالدرجة الأولى؛ هكذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا كان الخلفاء الراشدون، وهكذا كان المسلمون، وعلى هذا أجمع أهل العلم: لا يجوز الجهاد إلا بإذن ولي الأمر.
واستثنوا من ذلك صورة أوضحها؛ لكثرة ما يعتريها من اللبس، وهي: صورة دفع الصائل، فإن الجهاد منه ما هو من قبيل دفع الصائل، والصائل هو: الذي يهجم عليك، يبتغي قتلك، أو انتهاك عرضك، أو الإضرار بك بأية وسيلة؛ كالذي يخرج عليك في الطريق يريد أن يصنع بك شيئًا من هذا، فهذا يقال له: «صائل».
ودفع الصائل في الشريعة يكون بحسب المتيسّر والممكن، فقال أهل العلم: إذا دهم العدوّ بلدًا من بلاد المسلمين، بما يُخشى معه من فساده وكَلَبه على أهل الإسلام؛ فإذا لم يتيسر لهم استئذان الإمام؛ فإنهم يقاتلون ويدفعون العدو -من غير إذنه-.
إذن: فالأصل -وبه يُعلم جواب التلبيس- أنّ الإمام مُستأمَر ومُستأذَن؛ ولكن إذا كنا في حالة معيّنة، الإمام فيها بعيد، لا نستطيع التواصل معه -بأية صورة من الصور-، وقد دهمنا العدوّ، ولا بد من الوقوف في وجهه؛ فإننا لا نستأذن الإمام، بل نقاتل مباشرة؛ أداءً لواجب الدفع.
ودفع الصائل إنما هو في حق من صال عليه، لا في حق غيره، فدفع الصائل- بالنسبة للإخوة السوريين- إنما هو في حقهم، ليس في حق غيرهم؛ هذا أمر مهم جدًا؛ فإن من الناس من إذا سمعتَه يتكلم في هذه المسألة قال: الأمر واجب علينا نحن؛ دفعًا للصائل! وهل الصائل صال علينا نحن، أم صال على إخواننا؟!
فقضية استئذان ولي الأمر لا يُبحث فيها إلا بالنسبة للإخوة السوريين -في إطار الضابط الذي شرحته-، وأما غيرهم من المسلمين؛ فلهم حكام وأمراء، تربطهم بهم بيعة، وسمع وطاعة، لا يجوز الافتئات عليهم في مثل هذه الأمور، ولا يجوز أن تُنزّل في حقهم أحكام دفع الصائل، التي هي موجودة عند غيرهم.
فهذا هو الشرط الأول: إذن الإمام.
الشرط الثاني: إذن الوالدين، كما في الحديث المعروف عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: أن رجلا استأذنه في الجهاد، فقال: «أحيٌّ والداك؟»، قال: «نعم»، قال: «ففيهما فجاهدْ».
ولم يستثنِ العلماء أيضًا من هذه المسألة إلا صورة المداهمة في قضية دفع الصائل، فبالنسبة إلينا نحن: من أراد أن يخرج؛ فلا بد له من إذن والديه؛ لأن دفع الصائل ليس متحققًا في شأنه هو، وإنما هو متحقق في شأن غيره.
الشرط الثالث والأخير- وهو مهم جدًا، لا سيما في هذا الواقع المعين الذي نعيشه الآن-: الراية الواحدة، والقيادة الظاهرة.
فلو أذن الإمام، وأذن الوالدان؛ لا يجوز أن يخرج الناس هكذا فرادى، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ولا يجمعهم قائد، ولا تجمعهم راية؛ لأن الجهاد بالذات لا بد فيه من هذا؛ وهذا أمر معروف لا يحتاج إلى كلام، فمعلوم في فنون الحرب والعسكرية: أن القيادة كل شيء، وكم من معركة خسرتها أعظم الجيوش عددًا وعدة؛ لمجرد سوء التنظيم في القيادة والإدارة.
فلا بد من قائد يوجهك: اصنع كذا ولا تصنع كذا، قف هنا وتحرّك هنا؛ لا بد من هذا، أما الذي يخرج من تلقاء نفسه هكذا، لا يعرف كيف يصنع؛ فإنه يلقي بنفسه إلى التهلكة، لا يحقق مصلحة، بل يحقق مفاسد كثيرة، ويضيّع نفسه.
والواقع الآن في سوريا -كما كان في العراق، وكما هو موجود في وقائع متعددة وأماكن شتى-: أنه لا قيادة! تخرج تقاتل مع من؟ مع الجيش الحر، أم مع تنظيم القاعدة، أم مع جماعة كذا أو جماعة كذا؟! أي شيء هذا؟! والله -سبحانه وتعالى- يقول في الحرب : ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46]، في مقام الحرب بالذات: لا بد من الجماعة والاتحاد؛ وأما التفرق: كل فرقة تقاتل على حسب ما يحلو لها؛ فهذا ليس بشيء، ولن يحقق مصلحة أبدًا.
فإذا خرجت -أخي في الله-؛ فلا بد أن يكون خروجك منضبطًا بهذه الضوابط: يأذن الإمام، ويأذن الوالدان، وتخرج تحت إمرة الجيش المصري- مثلاً- ، تحت إمرة قائد يوجهك، وتحت قيادة ظاهرة تستطيع أن تتصرّف فيها؛ فعندئذ لا حرج، والجهاد مطلوب؛ وأما بغير هذه الضوابط؛ فلا يجوز لمسلم أن يخرج قط.
وليس معنى كلامنا هذا أننا نسوّغ ما يحدث، أو نبرره، أو نرضى بصنيع الطاغية؛ الكلام واضح، وقد ذكرت لكم آنفًا أن الرجل كافر، ليس من أهل الإسلام؛ ولكن ليس في ديننا حماسة.
والكفار أنفسهم هناك ضوابط في التعامل معهم: ألم يأتك نبأ ما ذكره أهل العلم في فقه الجهاد من مشروعية الهدنة والمصالحة مع الكفار؟! متى يكون هذا -يا عباد الله-؟! أفي ديننا جُبن وخَور؟! كلا؛ ولكنها الضوابط الشرعية، التي تحفظ بيضة الإسلام والمسلمين.
ليس في ديننا إلقاء اليد إلى التهلكة، والفرق بين الشجاعة والتهور: شعرة، ولا تنضبط هذه الشعرة إلا بضابط الشرع، لا بضابط الحماسة والعاطفة.
فمن الأحكام المقررة، التي بيّنها القرآن، وبينتها السنة، وقررها أهل العلم: مشروعية المهادنة والمصالحة مع العدو -وإن كان نازلاً في بلاد المسلمين-.
يقول أهل العلم هكذا: لو فجأ العدو بلدًا من بلاد المسلمين، ولم يستطع المسلمون دفعه، وخشوا على بيضة المسلمين أن تستباح؛ جاز لهم أن يصالحوه، ويأمنوا على دمائهم وأعراضهم وأموالهم؛ حتى ييسر الله -عز وجل- القوة، ويتحقق قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ﴾ [الأنفال: 60].
ولنا في قصة الحديبية عبرة، ومن الأدلة التي يستدل بها أهل العلم -مما لا يعرفه أهل الجهالة والتهويس-: خبر المسيح -عليه السلام-، عندما ينزل في آخر الزمان، ويبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج بالفساد في الأرض، فيقول الله -عز وجل- للمسيح -عليه السلام-: «إني أخرجتُ عبادًا لي، لا يدان لأحد بقتالهم».
فماذا نصنع إذن؟! نقف، ونصمد، ولا بد من الثبات، ولا بد من كذا؟! كلا، هذا -في هذا الموطن- تهوّر؛ بل يأمر الله تعالى نفسه فيقول: «حرِّز عبادي إلى الطور»، فهل يأمرنا الله بالخَور والجُبن؟!
ومن هذا استنبط أهل العلم أنه في مقام مداهمة العدو لبلاد المسلمين، وعدم القدرة على منعه، والخشية على بيضة الإسلام، والخشية على المسلمين أن يُبادوا ويُصْطَلموا؛ يُشرع الصلح؛ حقنًا للدماء، وتهيُّؤًا للقوة والاستطاعة.
فأين هؤلاء الجهلة من هذا الفقه؟! أين هؤلاء الذين يجتمعون، ويفتئتون على ولي الأمر؟! وليس هذا إليهم، ولا من سلطتهم، والجهاد في سوريا ليس بأعظم من الجهاد في فلسطين؛ فما بالهم يسكتون؟! ولما داهم الرافضة أهل السنة في اليمن؛ ما بالهم لم يتكلموا؟!
إنها السياسة! إنه استعراض العضلات! وتقمص دور أهل الحل والعقد! يريدون أن يظهروا أنهم أصحاب الكلمة في البلد! وهيهات!
حتى أهل الحل والعقد -بالمفهوم الشرعي- لا يجوز لهم أن يبتّوا في هذا الأمر دون الإمام، فلا بد أن يكون الإمام موجودًا ومستأمرًا، ولا بد أن يكون الإمام من قِبَله؛ فإن أذن؛ فلا بد من الشروط الأخرى، ليس الأمر فوضى في دين الله -عز وجل-.
فهذا هو الحق - إخوة الإسلام - في هذه المسألة، نبيّنه في وقت يلتبس فيه الحق بالباطل، وتعلو فيه أصوات أهل الباطل؛ نسأل الله تعالى أن يكفينا شرّهم.
وأنا أنتهز الفرصة -في مقامي هذا- حتى أذكِّركم بما سبق التذكير به من النهي على الخروج على الحاكم، والبعد عن سبل الفساد في الأرض.
المخطط يُطبّق –إخوتاه-؛ ألا تذكرون عندما سقطت العراق، وقلنا: الدور على سوريا؟! فها قد حان دورها! إنه مخطط طُبق في جميع بلاد الإسلام، وعصف بها عصفًا؛ ولكن نصيب كل بلد منه جزء مقسوم: فحقق في مصر هدفا بنسبة كذا، وفي ليبيا هدفًا بنسبة كذا، وفي تونس هدفًا بنسبة كذا، وفي اليمن، وفي سوريا.
وإنما استعصت عليهم السعودية؛ لقوة الدين - والحمد لله رب العالمين-، ولهذا لا بد أن يسعوا أولاً إلى هدم الدين، وهذه هي الدعايات التغريبيّة التي يبثونها في البلاد السعودية الآن؛ حتى يضعفوا قوة التدين، ويضعفوا قوة العلماء، بما يؤدي إلى ازدياد أهل الباطل؛ حتى إذا حان الوقت، قاموا قومتهم -كما قاموا في مصر وغيرها-.
ومصير السوريين -كمصير الليبيين- قد كان يمكن أن يكون مصيرنا، لولا لطف الله -عز وجل- بنا؛ ولكن الأعداء لا يهدئون أبدًا حتى يقتل بعضنا بعضًا، ويسفك بعضنا دماء بعض؛ هم يتغيظون؛ لأنهم حتى الآن لم يفلحوا في إحداث ما أحدثوه في سوريا وليبيا ببلادنا، فلا بد من الفوضى كل وقت، ولا بد من الاختلاف كل وقت، ولا بد من التحريش كل وقت.
وما نعيشه الآن هو بداية التقسيم -للأسف-، التقسيم بدايته في الاحتقان والعداوة والبغضاء، لا بد أن تنتشر هذه الروح فيما بيننا أولاً، حتى يبغض الإنسان أخاه، ويعاديه، ولا يطيق رؤيته، ويتنازع معه أشد التنازع؛ ألسنا نعيش هذا الآن؟! أليس الواحد منا إذا مرّ في الطريق يخشى أن ينتقده أحد؟! أليست المنازعات تصل -في كثير من الأحيان- إلى التشابك بالأيدي؟!
هذه بداية التقسيم، لا بد أولا من العداوة والبغضاء والشحناء، وإثارة الناس على حكامهم؛ حتى يتهيّأ الأمر.
فاحذروا -إخوة الإسلام-، واعتبروا بما يحدث في بلاد الإسلام، ولا تجعلوا للأعداء عليكم سبيلاً، لا بد أن يكون عندنا وعي وبصيرة وفهم، لا بد أن نصبر ونتضرع إلى الله -سبحانه وتعالى- بالتوبة والإنابة وإصلاح قلوبنا ونفوسنا؛ حتى نحقق الجادة الشرعية، ونخيب هدف الكفار والأعداء فينا.
أسأل الله -عز وجل- أن يكف عنا الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، اللهم كف عنا الفتن، اللهم كف عنا الفتن، اللهم كف عنا الفتن. اللهم لا تجعل لأعدائنا علينا سبيلاً، اللهم لا تجعل لأعدائنا علينا سبيلاً، اللهم كُن في عون إخواننا السوريين، اللهم كُن لهم ولا تكن عليهم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم عليك بالطاغية الحاكم الكافر، اللهم عليك به ، اللهم دمره وشتت جمعه وشمله ولا تجعل له على إخواننا سبيلاً يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا
|