رسالة إلى كل مسلم
على أرض الكنانة[1]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران: 102].
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1].
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب: 70-71].
أما بعد...
فإن خير الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون! رُفعت الأقلام، وجفت الصحف، وحانت ساعة الحسم!
أيها المسلمون! تظلنا أيامٌ عصيبةٌ، ولحظات فارقة، يرتبط بها مآل شعب، ومصير أمة!
أيها المسلمون! إن الوقت الراهن يستدعي منا حكمة وعقلا، وحرصا على تحصيل المصالح -من الأمن والاستقرار ونحو ذلك-، ودرء المفاسد -من الدماء والخراب والفوضى ونحو ذلك-، وهذا مطلب لا يخالف فيه إنسان، ولا ينازع فيه من له مثقال ذرة من عقل وإيمان.
وهذا الذي نريده ونسعى إليه موجود في شرعنا، في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولطالما سمعنا ذلك ووعيناه؛ ولكننا لا نعمل به إلا قليلا!
إنني أوجه رسالة إلى كل مسلم على أرض الكنانة، إلى كل مسلم يعيش في هذا البلد:
أيها المسلمون! ألا إنه قد رُفعت الأقلام، وجفت الصحف، وحانت ساعة الحسم، وآن لنا أن نفر إلى الله، ونفيء إلى أمره؛ آن لنا أن نستمع لكلام ربنا وكلام نبينا صلى الله عليه وسلم؛ آن لنا أن نستجيب لأمره، وننقاد له -إذا دعانا لما يحيينا-؛ آن لنا أن نطَّرح هواجسَ العاطفة، ووساوسَ الحماسة، ووحيَ شياطين الجن والإنس، ونُعليَ شرع الله وكلمتَه، ونعملَ بهما -بعد طول الإعراض والغفلة-.
أيها المسلمون! إليكم كلامَ ربكم، وكلامَ نبيكم صلى الله عليه وسلم، أخاطب به قلوبكم وفِطَركم وضمائركم؛ لينذر من كان حيا، ومن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
يقول ربنا -جل وعلا-: { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيِلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ *الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [سورة قريش].
ويقول تعالى: { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 75].
ويقول جل شأنه: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67].
ويقول تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً } [البقرة: 126]، وفي الآية الأخرى: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً } [إبراهيم: 35].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من يُرجَى خيره، ويُؤمن شره، وشركم من لا يُرجَى خيره، ولا يُؤمن شره))[2].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح آمنا في سِرْبه، معافىً في جسده، معه قوت يومه؛ فقد جُمعت له الدنيا بحذافيرها))[3].
إنها نعمة الأمن، إنها نعمة الأمان، إنها نعمة الطمأنينة والاطمئنان، إنها نعمةٌ امتن الله تعالى بها على المشركين، ودعا بها النبي الأمين الخليل إبراهيم -عليه السلام-، إنها نعمةٌ لا بد منها حتى تستقيم الحياة، وحتى يقوم الدين وتقوم الدنيا، فمع الفوضى والخراب والدمار: لا دين ولا دنيا، وإنما هو شأن الحيوان، شأن شريعة الغاب، التي عاشها الكفار قديمًا، ويريدون لنا أن نعيشها، يريدون لنا أن تصير حياتنا فوضى: كل واحد له رأي، وكل إنسان له كلمة، وكل كائن له مطلب، فإن حصل عليه؛ وإلا...!
هكذا كانت حياتهم -في القديم والحديث-، واقرؤوا التاريخ؛ حتى تعرفوا أن ما يدور في بلاد المسلمين الآن نسخةٌ منقولة من حياة المشركين أهل الوثنية -من قبل-.
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم } [البقرة: 109].
{ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } [البقرة: 217].
نعمة الأمن: جرَّبنا وجودَها، وجرَّبنا فَقْدَها، والاختبار يعاد -مرة أخرى-، والتاريخ يعاد؛ فهل من مدكر؟! وهل من متعظ؟! وهل من معتبر؟! أم نرفس النعمة -مرة أخرى- بأرجلنا، ونطؤها بأقدامنا، ثم نقول -من بعدُ-: ((يا ليتنا!))، و((يا ليتنا!))، يقبل بعضنا على بعض متلاومين، وقد كانت الفرصة بين أيدينا، وكانت النعمة تظلنا؟!!
هذا كلام ربكم، وكلام نبيكم صلى الله عليه وسلم في نعمة الأمن.
ويقول الله تعالى: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم))[4].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما))[5].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار)) قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصا على قتل صاحبه))[6].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض))[7].
هذا كلام ربكم، وكلام نبيكم صلى الله عليه وسلم في حرمة الدماء.
الدماء التي صارت الآن أيسر الأشياء وأَتْفَهها وأحقرها، وصارت إراقتها عملاً سهلا ميسورا، يُمارَس بدم بارد، وأعصاب متراخية، وليت هذه الإراقة كانت في حق؛ ولكنها في باطل: في دنيا، وعلى دنيا، وفي سبيل دنيا، وفي سبيل كراسي، وفي سبيل أطماع، وفي سبيل مطالب؛ تراق الدماء، ولا عزاء!! لا عزاء لأصحاب الدماء، ولا لأولياء الدماء!!
ثم يأتي المريق بين يدي ربه -جل وعلا- يوم يبعثون، وقد حمل على كتفيه وزر القتل، صار عليه حق لربه في تعدي حدوده، وارتكاب ما نهى عنه، وصار عليه حق للقتيل في دمه، وما أعظم هذا الحق!
((أتدرون من المفلس؟ المفلس من يأتي يوم القيامة وله صلاة وصيام وصدقة، ولكنه يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فرغ ما عنده قبل أن يقضي ما عليه، حمل عليه من سيئاتهم ثم طرح في النار))[8].
ما شاء الله! هانت علينا ذنوبنا حتى نضم إليها ذنوب غيرنا! أي إيمان هذا؟! أي دين هذا؟! بل أي عقل هذا؟!
إن مشكلتنا الآن لم تعد في مجرد مخالفة الشرع والدين؛ بل في مخالفة العقل الصريح، والفطرة السوية؛ لقد خلقنا الله -عز وجل- وجعل لنا عقلاً وإدراكًا وتمييزًا، خلقنا الله تعالى وفطرنا على محبة الأمن والأمان، فالذي يتعدى على هذا؛ إنما يتعدى على فطرته وجبلته -قبل أن يتعدى على دينه وشريعته-؛ هؤلاء مرضى، لا مكان لهم إلا خلف أسوار البيمارستان[9]، لا بين بني الإنسان!! فإنهم يضرونهم، ويؤذونهم، ويفسدون عليهم حياتهم، ويفسدون عليهم دينهم ودنياهم؛ لا مكان لهم بين البشر، بل مكانهم في حظائر، وخلف أسوار!!
هذا كلام ربكم، وكلام نبيكم صلى الله عليه وسلم في حرمة الدماء؛ فهل من متعظ؟! وهل من مدكر؟! وهل من معتبر؟! أم هان علينا الأمر، وأردنا أن نلقى الله تعالى بجبال وأكوام من الأوزار؟! هان علينا الأمر، هان علينا يوم القيامة -بأهواله وفظائعه-، هانت علينا جهنم -بحرها ولهيبها وسمومها وعذابها-، هان كل هذا، ولم نعد نفكر فيه؛ بل أصبحنا نفكر في أنفسنا، وفي مطامعنا، وفي حظوظنا، وفي شهواتنا، وكل شيء بعد ذلك تبعٌ.
إنها مقامرة بالأرواح، مقامرة بالدماء، مقامرة بالأديان والعقائد؛ وبئست المقامرة!
حُقَّ لنا أن ننتبه، حُقَّ لنا أن نعتبر، حُقَّ لنا أن نستجيب لكلام ربنا، وكلام نبينا صلى الله عليه وسلم.
أقول ما تسمعون، ويغفر الله لي ولكم.
[الخطبة الثانية]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون! يقول الله تبارك وتعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [النساء: 59].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني))[10].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((اسمع وأطع وإن كان عبدًا حبشيًّا))[11].
يقول أبو ذر رضي الله عنه: ((أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا حبشيًّا مجدع الأطراف))[12].
وأوصى صلى الله عليه وسلم حذيفة رضي الله عنه قائلاً: ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضُرب ظهرك وأُخذ مالك، فاسمع وأطع))[13].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر)) قيل: يا رسول الله ما تأمرنا؟ قال: ((فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم))[14].
وقال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أرأيت إن كانت علينا أمراء يمنعوننا حقنا ويسألوننا حقهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حملتم))[15].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنكم ستلقون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها)) قيل: يا رسول الله! فما تأمرنا إن أدركنا ذلك؟ قال: ((تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الحق الذي لكم))[16].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((خيار أمرائكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم))، قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: ((لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأى أحدكم من أميره شيئا يكرهه، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزع يدًا من طاعة))[17].
هذا كلام ربكم، وكلام نبيكم صلى الله عليه وسلم في طاعة أولي الأمر -مَنْ كانوا-، بَرَرَةً كانوا أم فَجَرة، مستقيمين كانوا أم منحرفين، أيّاً كان وصفهم وشأنهم، ((إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان))[18]؛ هذه هي الحالة الوحيدة التي ينفك فيها عقد الطاعة، وتسقط فيها البيعة.
وعند المعصية: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنكار المعصية حتم لازم على كل قادر مستطيع -على حسب قدرته واستطاعته-، وهذا شيء، والخروج شيء آخر، هذا شيء، ونزع اليد من الطاعة شيء آخر؛ فلا تخلِطْ، ولا تخلِّطْ.
إنها سويعات قلائل، ويُعلَن لنا حاكم، أيّاً كان، سواء كنا نحبه أم نكرهه، سواء كنا به راضين أم له كارهين، لا بد أن نعمل بكلام ربنا، وكلام نبينا صلى الله عليه وسلم؛ حتى يعود لنا الأمن والاستقرار، وحتى نحفظ الدماء والأموال والأعراض.
منازعة الأئمة لا تأتي إلا بالشر؛ هكذا قال صلى الله عليه وسلم محذِّراً أمته، وهكذا شهد به التاريخ -في القديم والحديث-.
وليس النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يقر الظلم أبدا، وليس النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يدعو إلى السلبية أبدا؛ ولكنها الإيجابية -عين الإيجابية-: الإيجابية في البعد عن المصائب والخراب والدمار، الإيجابية في إصلاح النفس والإقبال على الشأن، أن ينظر كل واحد منا فيما ينفعه، ويقبل على شأنه، ويصلح نفسه، ويتجنب المعاصي والظلم والعدوان.
هذه الطريقة هي التي يحصل بها التمكين، ويُواجَه بها الظلم.
نحن لسنا نختلف على نفس الظلم، ولا يقول عاقل: إننا لسنا في ظلم أو جور أو تحكم.
وكل ما نعايشه الآن إنما هو امتداد للظلم؛ أقولها صراحة: كل ما نعايشه الآن امتداد للظلم والفساد والتحكم والجور، وأنتم بالإعلان الدستوري خبراء؛ هذا ظلم بين، وجور واضح؛ فليس الإشكال في نفس الظلم، وإنما الإشكال في معالجة الظلم: كيف نعالجه؟ كيف نواجهه؟ كيف نقضي عليه؟ هذا هو الإشكال، هنا يكون الكلام.
إذا واجهنا الظلم بالثورات، والاعتصامات، والإضرابات، والفساد في الأرض؛ فلن أتكلم في هذا كثيرا؛ لأنكم عرفتم النتيجة، وعرفها كل أحد.
وإذا واجهناه بمنهج ربنا، ومنهج نبينا صلى الله عليه وسلم: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]؛ فالتاريخ يشهد أن الظلم يرتفع ويزول، ويأتي علينا حاكم صالح؛ كما أتى عمر بن عبد العزيز، وكما أتى المتوكل، وغيرهما.
فالأمر معروض بين يديك، أنت بين خيارين لا ثالث لهما؛ لأننا نعايش ظلما، وسنظل نعايشه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه))[19]، فالذي يؤمِّل أن الظلم سيرتفع -إلى الأبد-، وأننا سنعيش في العدل -إلى الأبد-؛ هذا لن يحصل، لا بد أن نوطن أنفسنا على هذا.
فنحن بين خيارين في مواجهة هذا الظلم، أمامنا طريقان لا ثالث لهما: إما أن نواجهه بالعنف، والقوة، والفساد في الأرض؛ وإما أن نواجهه بإصلاح النفس، والحرص على الخير، ونشره، وتغيير ما في القلوب؛ هذا طريق، وذاك طريق، وهذا مجرَّب في الأمة، وذاك مجرَّب في الأمة، وعندنا كلام ربنا ونبينا صلى الله عليه وسلم حَكَمٌ فَصْلٌ، لسنا نحتاج معه إلى كلام أحد، ولسنا نرجع بعده إلى رأي أحد؛ فلماذا التردد؟! لماذا الحسابات وضرب الأخماس في الأسداس؟! لماذا المقامرات والمخاطرات؟!
هذا كلام ربكم، وكلام نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ هو ما تسمعونه من العبد الفقير منذ أشهر، ومنذ سنين؛ حتى يظهر للجميع أن هذه هي دعوة الحق، وأننا لم نكن -يوما- مدافعين عن شخص، أو مداهنين لحزب، أو منحازين لطائفة.
جاء ((مرسي))؛ على العين والرأس! جاء ((شفيق))؛ على العين والرأس! لسنا مع هذا ولا مع ذاك، والله يعلم بما في قلوبنا لهذا وذاك.
فنحن لسنا نسعى لمصلحة، ولا نروِّج لأحد، ولا نمكن لسلطان أحد؛ ولكننا نسعى لمصلحة البلد، نسعى لتطبيق الشرع وتحكيمه -حقيقة لا إدعاءً-.
هذا هو تحكيم الشرع -يا عباد الله-، تحكيم الشرع في أنفسنا، وفي تصرفاتنا، وفي سلوكياتنا.
وقد كنت أنوي أن أعلق على حَلِّ البرلمان -كما ذكرت من قبل-؛ فإذا بالإعلان الدستوري يأتي، ويوفر عليَّ كلامًا كثيرًا!! لم أعد بحاجة إلى أن أقول شيئا؛ الكل الآن يعرف إلى أين تتجه البلاد، الكل الآن يعرف أن الجماعة ((إياهم)) غير مرغوب فيهم، ولا يصلحون لحكم البلاد، ولا تصلح قضية تطبيق الشريعة[20]؛ الكل عرف الآن، فتوفَّر عليَّ كلامٌ كثير، وظهر أن أهل الحق هم على الحق؛ حتى في التخرصات والتكهنات والتوقعات!!
لسنا أنبياء، ولسنا أولياء، وليس يأتينا وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الأمر كما قال الله تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى *وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى } [طه: 123-124].
قيل عن أهل الحق: ((مجانين))!! وقيل عنهم: ((مهاويس))!! وقيل عنهم: ((سلبيون))!! وقيل وقيل!! وليس هذا بضارِّهم شيئًا؛ فهو ميراث النبوة، يتحملونه، ويصبرون عليه -بتوفيق ربهم-.
وبعد ذلك يأتي المستهزئ ويقول: ((آه!! هؤلاء -واللهِ- ظهر أنهم على حق))!!! ((كيف يقول الشيخ فلان: لا تذهبوا إلى الانتخابات؟!! مجنون!!!))، ثم يأتي بعد أسبوع من الانتخابات ويقول: ((آه!! واللهِ لقد كان عند الرجل شيء من الحق))!!!
فلا نعترض على أهل العلم! لا نعترض على أهل الحق والسنة! وليس عندنا كَهَنُوت -كما هو عند النصارى-، ليس عندنا رهبانية ولا عصمة؛ ولكنه كلام الله والرسول صلى الله عليه وسلم واضح صريح، فالاعتراض إنما يكون عليه، لا على المتكلم به؛ فإذا قلنا: ((قال الله كذا، وقال الرسول كذا))؛ فهذا ليس كلامنا؛ وما كان رأيا لنا؛ فنحن نصرح بأنه رأي، يخطئ ويصيب، ولا نلزم أحدًا بكلمة في الرأي والاجتهاد؛ لكن في النص لابد من الإلزام؛ لأن الله هو الذي يلزم، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يلزم، لا نحن.
عندما يقول الله ما سمعتموه آنفا، وعندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما سمعتموه آنفا؛ ماذا نصنع؟! نأتي بدين جديد؟! نأتي بأحاديث جديدة؟! نأتي بقرآن جديد؟! حتى يتمشي مع الحماسة والعاطفة؟!! ثم نقول بعد ذلك: تحكيم الشرع؟! أي تحكيم للشرع؟!!
الذين احتفلوا بفوز قائدهم بالمعصية، لما قيل: ((فلان فاز))؛ ماذا فعلوا؟! عصوا ربهم!! فكيف يحكم الشرع؟!! احتفلوا بالغناء، والاختلاط، والسفور، والتبرج؛ أي شيء هذا؟! ونعمة الله تعالى لا تتحقق ولا تزيد إلا بالشكر { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
فالحاصل -إخوة الإسلام-: دعوكم من كل ما فات، نحن نعيش واقعا الآن، والحل والمخرج:
أولا: تصحيح التوبة: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة، والجميع مسؤول؛ كلنا مذنبون وعصاة ومقصرون، والفرصة كانت بين أيدينا، كان يمكن أن نثبت لله -عز وجل- أننا أهلٌ للتغيير؛ ولكننا لم نفعل؛ بل زاد الفساد، وزاد الشر، وزدات المعصية، وزاد التفسخ في المجتمع؛ فالحل هو تصحيح التوبة، لا بد من هذا -أولا-.
ثانيا: العمل بما تقدم: عرفت كلام الله والرسول صلى الله عليه وسلم في الفتنة التي أنت فيها؛ فعليك أن توطن نفسك على العمل به؛ جاءك فلان أو فلان؛ على العين والرأس، فلا تعترض، ولا تنزل الميدان، ولا ما أشبه ذلك؛ اعمل بهذا في نفسك، وانشره لغيرك، انصح زميلك في العمل، انصح جارك في المنزل، انصح صديقك؛ حتى ينتشر الخير، ونقضي على هذه الفتنة.
ثالثا -وأخيرا-: الدعاء: فإن الله تعالى هو مسبب الأسباب، وهو مالك القُوَى والقُدَر، هو الذي ينزل البلاء، وهو الذي يرفعه، فانقطعت بنا جميع الأسباب؛ إلا هذا السبب، لم يعد لنا أمل في ((المجلس))، ولا في زيد، ولا في عبيد؛ انتهى الأمر، وصار أملنا الوحيد في رب الناس؛ رجاؤنا الوحيد: أن يعاملنا الله -عز وجل- بلطفه ورحمته؛ فإياك أن تقطع هذا السبب، إياك أن تقطع الدعاء والتضرع، وهذا هو شأن الله تعالى في الابتلاء: { فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 43]، فإياك وقسوة القلب، إياك وتزيين الشيطان، إياك والتسويف والتباطؤ؛ عليك برفع أَكُفِّ الضراعة الآن، عليك بالتوبة الآن، تب الآن من جميع الذنوب والمعاصي والتفريط؛ فإنه لم يعد هناك وقت.
وبالرغم من كل هذا، وبالرغم من جميع المؤشرات السلبية المحبطة، التي قد تصدِّق تخرُّصَنا بواقع الجزائر -ونعوذ بالله، ثم نعوذ بالله من هذا-؛ إلا أن رجاءنا في الله كبير، وأملنا فيه كبير؛ رجاؤنا: أن لا يهلك الله -عز وجل- هذا البلد بهذه الطريقة، رجاؤنا: أن لا يستأصل الله شَأْفَتَنا بهذه الطريقة، رجاؤنا: أن لا يقضي على أهل الحق بهذه الطريقة.
لكن هناك فرق بين الرجاء والأماني: الرجاء: هو الذي ينبني عليه ويقترن به عمل، هو الذي تصحبه التوبة، والإنابة، والإقبال على الله تعالى، والدعاء والتضرع إليه؛ وأما الرجاء من غير عمل؛ فغرور، الرجاء -مع المعصية والتفريط-: غرور، فرجاؤنا لا بد أن يكون فيه عمل وتوبة ودعاء.
اللهم إنا نسألك -بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى- أن تكشف عنا الغمة وعن سائر بلاد الأمة، اللهم اكشف عنا الغمة وعن سائر بلاد الأمة، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن صغيرها وكبيرها، اللهم احفظ علينا دماءنا، واحفظ علينا أعراضنا، واحفظ علينا أموالنا، واهد قلوبنا، وأصلح أحوالنا، اللهم اهد قلوبنا، وأصلح أحوالنا، اللهم لا تولِّ علينا من يفتننا، اللهم لا تولِّ علينا من يزيد في بلائنا وعذابنا يا رب العالمين، اللهم إنك مقلب القلوب؛ فقلِّب القلوب على طاعتك، وصرِّف قلوبنا على طاعتك، اللهم قد انقطع رجاؤنا من كل أحد سواك، وانقطعت الأسباب إلا من سبب دعائك؛ فلا تخيب فيك رجاءنا، اللهم لا تخيب فيك رجاءنا، اللهم لا تخيب فيك ظننا، اللهم لا تخيب فيك أملنا، اللهم ارحمنا ونجنا من هذه الفتن، وأخرجنا منها على خير وسلامة يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
[1]هذا تفريغ لخطبة اليوم: الجمعة/2/شعبان/1433-مع تعديلات تناسب المقام-، والخطبة منشورة على الموقع بنفس الاسم، وأنا أهيب بمن يطلع على الخطبة أو المقالة أن ينشرها بين من استطاع من المسلمين، في هذه الفترة القصيرة الحرجة؛ عسى أن يجعلنا الله مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن يكتب لنا ثواب ذلك وأجره؛ إنه ولينا ومولانا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تنبيه: لم يكن لدي من الوقت ما يكفي لتحرير ألفاظ الأحاديث وتخريجها، والمقام مقام ارتجال؛ فليُعرف.
[2] رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (4368).
[3] رواه الترمذي وغيره عن غير واحد من الصحابة، وحسنه الألباني في «الصحيحة» (2318).
[4] رواه الترمذي وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (9208).
[5] رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[6] متفق عليه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
[7] متفق عليه من حديث غير واحد من الصحابة.
[8] رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أي: مستشفى الأمراض العقلية.
[10] متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه.
[12] رواه مسلم.
[13] متفق عليه -واللفظ لمسلم-، وقد صنفت فيه -بتوفيق الله- جزءاحديثيا، ورددت على من أنكر هذا اللفظ، والجزء على وشك الطباعة والنشر؛ يسر الله ذلك، وتقبله -بمنه وكرمه-.
[14] أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] أخرجه مسلم عن سلمة بن يزيد الجعفي رضي الله عنه، وهو السائل.
[16] متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[17] رواه مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه.
[18] متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[19] رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه.
|