البيان الرفيع
لدين الرافضة الشنيع
(الخطبة الثانية)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد شرعنا في الجمعة الماضية في الكلام على الرافضة ودينهم، وابتدأنا ذلك بذكر تاريخهم ونشأتهم.
فتحدثنا عن المرحلة الأولى في ذلك، وهى مرحلة ظهور عبد الله بن سبأ، الذي كان يهوديا، فأسلم في زمن عثمان -رضي الله عنه-، وكان منه ما كان من الفتن والضلال والتحريش، حتى وضع بذرة الرفض وأصله الخبيث، وابتدع النص في على -رضي الله عنه-، ودعا إلى ذلك، وكان من شأنه ما كان من الفتن، حتى انتهى الأمر بمقتل الخليفة الراشد عثمان -رضي الله عنه-.
ثم تأتى من بعد ذلك المرحلة الثانية، في زمن على -رضي الله عنه-.
وكانت الرافضة آنذاك مستترة متخفية، لا تكاد تعلن شيئا من عقائدها ودينها، وكان أفضلَ ما يحاولون فعله: الفتنُ والتحريش، فاستمروا على ذلك، وتخفَّوْا واستتروا؛ حتى لا يُفتضحوا، ولا يُقَادَ منهم في قتل عثمان -رضي الله عنه-، وكانوا يسعون بين الناس بالفساد والحرب، ويورثون التحريش والوقيعة بين الصحابة -رضي الله عنهم-، فكان لهم دور بارز في بعض ما جرى بين الصحابة من الفتن والحروب.
هذه هي المرحلة الثانية؛ وبدايتها بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه-، إذِ اختلف الناس في خليفتهم وإمامهم: من يكون؟ حتى انتهى الأمر إلى على -رضي الله عنه-، فقبل البيعة -وهو كاره-، ما كان يحب التصدي لها -بادي الرأي-، وما كان يريد الاستشراف لها؛ ولكنه خاف من ازدياد الفتن والفساد، فقبل البيعة حتى لا يضيع الأمر، فبايعه من بايعه من الصحابة -رضي الله عنهم- وغيرهم، فصار إمامًا وخليفة مطاعا.
وكان أولَ ما واجهه من المشكلات -بل هي أعظمها وأخطرها، وهى التي بسبها دارت رحى الفتنة بين الصحابة -رضي الله عنهم-: القصاصُ من قتلة عثمان -رضي الله عنه-، وكان يجب عليه ذلك، لاسيما وقد تولى الأمر، وصار إماما وخليفة للمسلمين، فكان يجب عليه أن يقوم بهذا الواجب، وخاطبه في ذلك من خاطبه من الصحابة -رضي الله عنهم- وغيرهم.
ونحن نبين -في مقامنا هذا- العذر الذي أدى به إلى عدم إقامة هذا الأمر؛ فإنه لم يقتص من قتلة عثمان، ولم يقم عليهم الحد؛ لعذر صرح به ونص عليه، ينبغى علينا أن نعرفه الآن؛ حتى تسهل الإحالة عليه فيما بعد، وحتى يُعرف دور السبئية -من بعد ذلك- في إثارة الفتن والحرب.
وهذا العذر ذُكر عن على -رضي الله عنه- بألفاظ مختلفة وعبارات متباينة، وجميعها ترجع إلى شيء واحد، ونحن نقتصر على رواية الطبري -رحمه الله- في «تاريخه»:
ذَكَرَ دخولَ بعض الناس على علىٍّ -رضي الله عنه- وفيهم بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يطالبونه بالقصاص من قتلة عثمان -رضي الله عنه-، فقال لهم: «يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون؛ ولكنى كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟! هاهم هؤلاء قد صارت معهم عِبدانكم، وسارت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا؛ فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟! إن الشيطان لم يشرع شريعةً قط فيبرحَ الأرضَ من أخذ بها أبدا، إن اليأس من هذا الأمر -إن حَرَّكَ على أمور-: فِرْقةٌ ترى ما ترون، وفِرْقةٌ ترى ما لا ترون، وفِرْقةٌ لا ترى هذا ولا هذا؛ حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق؛ فاهدءوا عنى، وانظروا ماذا يأتيكم، ثم عودوا».
هذا كلامه -رضي الله عنه- على ما ذُكر في هذه الرواية-، ومعناه: أنه امتنع من إقامة الحد لأجل ما كان فيه الناس من الفرقة والاختلاف؛ فإن مقتل عثمان -رضي الله عنه- لم يكن بالأمر اليسير؛ بل أَوْرَثَ بين المسلمين فتنة شديدة، اختلفت فيها كلمتهم، وشُقَّتْ فيها عصاهم، وفُرِّقت فيها جماعتهم.
ويمكنكم أن تعرفوا هذا عندما تتأملون فيما نعايشه الآن! ألسنا نعيش الآن في شيء كذلك الذي حدث؟!
وهذا أمر طبيعي: إذا سقط إمام أو رئيس؛ فلابد أن تنشب الفوضى بين الناس؛ لأن الرئيس هو الحاكم الذي يحكم بين الناس، ويسوسهم، ويدبر أمرهم في دنياهم، فإذا سقط؛ فلابد أن تتفرق الكلمة، وتُشَقَّ العصا، وتفشو الفوضى: كل واحد له رأي! وكل شخص له كلمة!
والخطورة في هذا: أن العصبية لها مجال، فإذا كان لواحد رأى؛ فإنه يدافع عنه، ويتجلد في ذلك، ولا يقوم في هذا وحده؛ بل يقوم معه أهله وقومه، فعندئذٍ لا يستطيع أحد أن يأخذ منه حقا ولا باطلا، ولا يستطيع أحد أن يتكلم معه كلمة واحدة؛ لأنه يخاف من عصبية قومه وأهله، فإذا تصدر لذلك؛ فيوشك أن تنشب حرب بين الناس، تُسفك فيها الدماء، وتُضيَّع فيها الأموال، وتُنتهك فيها الأعراض، وفى هذا من الفساد ما لا يخفى.
فهذا الذي نعايشه الآن: كان موجودا آنذاك -عندما قتل عثمان -رضي الله عنه-، وإن كان قد نُصِّب على الناس أمير؛ فلابد أن تأخذ الأمور مجراها، ولابد أن تستمر الفوضى -ولو بعض الشيء-، فكانت الكلمة متفرقة، وكانت الجماعة مشتتة، وكل واحد في قبيلته ومصره له رأى، وقتلة عثمان -رضي الله عنه- لم يكونوا بالنفر التافهين؛ بل كانوا ذوى شأنٍ في أهلهم، والعصبية القبلية عند العرب أمر معروف، حتى وإن كان الرجل من القبيلة قد أتى مظلمة أو جريمة؛ فلا بد أن يقوم معه أهله، ولا بد أن يتعصبوا له ويذبوا عنه.
فهذا هو ما خَشِيَهُ علىٌّ -رضي الله عنه-: خشي تفرق الكلمة، وتشتت الجماعة، وخشي عصبية الناس، وقيامهم مع أهلهم -من الذين قتلوا عثمان -رضي الله عنه-؛ فحينئذ لا يستطيع أن يقيم حدا، ولا يستطيع أن يدرأ حرباً، لا يستطيع أن يحقق مصلحة، ولا يدرأ مفسدة؛ فأراد -رضي الله عنه- أن تهدأ النفوس، ويستقر له الأمر، ثم يقوم -بعد ذلك- بما أوجبه الله عليه من القصاص وإقامة الحد.
هذا هو عذره -رضي الله عنه وأرضاه-، وهو عذر مقبول -عند أهل العلم كافة، وعند أهل العقل كذلك-، لابد أن نعرفه الآن؛ حتى نعرف السبب الذي أدى إلى الفتن من بعد ذلك، والذي أدى إلى تدخل السبئية -بتلك الصورة الخبيثة، التي سنعرفها -إن شاء الله-.
مرّ الأمر على ذلك، ومكث على -رضي الله عنه- في إمامته -ما شاء الله له أن يمكث-، حتى زاد الكلام، وتكاثرت الشائعات، وكثر القيل والقال، واستبطأ الناس علياً -رضي الله عنه- في القصاص؛ حتى وقع أن خرج من الصحابة -رضي الله عنهم- أناس يتفاهمون معه في ذلك، وهم الذين يقال لهم: «أصحاب الجمل»، خرج من الحجاز طلحة والزبير -رضي الله عنهما-، وخرجت معهما أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-؛ خرجوا جميعا -في نفر من الناس وعدد وفير- إلى علىٍّ -رضي الله عنه-؛ حتى يتفاهموا معه في هذه المسألة، ويتوصلوا معه إلى حلٍّ وطريق يوصل إلى القِصاص من قتلة عثمان، وكان من هدفهم أيضا: الإصلاح، وجمع الكلمة التي كانت متفرقة آنذاك.
هذا هو السبب في خروجهم -كما دلت عليه الروايات المعتبرة، وكما قرره أهل العلم المعتبرون-، ولسنا نخوض في تفاصيل ذلك؛ حتى لا يؤدى إلى الإطالة -كما أشرت إليه من قبل-.
غير أنني أريد أن أنبه على هذا الأمر خاصة -أعني: الهدف من خروج القوم-، حتى نرد على أهل الجهل والتهويس والتخبيط، الذين يزعمون أن خروج أصحاب الجمل كان خروجاً على علىٍّ -رضي الله عنه-، وأنهم إنما خرجوا لخلعه عن إمامته، وأنهم أنكروا عليه علانيةً، حتى قال بعض المهوَّسين: إن خروج أصحاب الجمل كان أول مظاهرةٍ سلفيةٍ!!
الله أكبر! هكذا فليكن العلم في القرن الخامس عشر الهجرى!! هكذا فليكن العلم الحديث والاستنباط الجديد!! وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ نعوذ بالله من ذلك.
فخروج أصحاب الجمل لم يكن خروجا على الحاكم ولا خلعا له، وإنما كان للسبب الذي ذكرته آنفا: التناصح والتفاهم وجمع الكلمة -فقط-.
ثم يذكر أهل التاريخ رواياتهم في شأن نزول أصحاب الجمل -رضي الله عنهم- في مكانهم، وأن علياً -رضي الله عنه- خرج إليهم في نفر وعدد كثير من الناس، ولم يخرج لحربهم -لابد أن يعرف هذا أيضا، ونحن نكتفي هنا بالإشارة العاجلة-؛ لم يخرج لحربهم -كما أنهم لم يخرجوا لحربه-، وإنما خرج للقائهم ومجالستهم.
خرج إليهم علىٌّ -رضي الله عنه-، حتى نزل في مكان يقال له «ذو قار»، فبعث إليهم القعقاع بن عمرو؛ حتى ينظر في شأنهم ويكلمهم، فجلس مع طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عن الجميع-، وتكلم معهم كلاما لسنا نطول بذكره، خلاصته: أنه شرح لهم موقف علىٍّ -رضي الله عنه- وعذره، وقال لهم: على -رضي الله عنه- إنما يخاف تفرق الكلمة، ويخاف الحرب والعصبية، ويريد أن تهدأ الأمور، ويريد كذا وكذا؛ وناصحهم في ذلك فأبلغ -كما ذكرته الروايات-، حتى انقادوا لرأيه ومشورته، وعندئذٍ: اتفقوا على الصلح، قالوا للقعقاع: نحن نُقِرُّ علياً على ذلك، ونجمع الكلمة، وَنَلُمُّ الشَّمْلَ، ونريد أن نلقاه حتى نؤكد عليه ذلك -هذا معنى الكلام-؛ فانصرف القعقاع من مجلسهم، وعاد إلى علىٍّ -رضي الله عنه- بذي قار، فأبلغه الأمر.
فقام على -رضي الله عنه- خطيبا في الناس، وذكر شقاء الجاهلية، وفضل الإسلام والجماعة، وفضل الخلفاء الثلاثة، وذم من طلب الدنيا، وأراد هدم الإسلام؛ إلى أن قال: «ألا إني مرتحل غدا، فارتحلوا، ولا يرتحلنَّ معي أحد أعان على قتل عثمان».
انتبه الآن! يقول: «لا يرتحلن معي أحد أعان على قتل عثمان»، ما معنى هذا؟! معناه أن القِصاص آتٍ، وأن عقوبة هؤلاء المجرمين آتية؛ فقد حصل بعض ما أراده على -رضي الله عنه- من اجتماع الكلمة، فكان هذا سبيلا إلى التوصل إلى القتلة، وإقامة الحد عليهم، وكان مع أصحاب الجمل أُناس كثيرون، وكذلك كان مع علىٍّ أناسٌ كثيرون؛ فإذا اجتمع جميع هؤلاء على قتلة علىٍّ؛ فماذا عسى أن يحصل؟! لا بد أن نهايتهم آتية.
فعندئذٍ: برزت السبئية مرةً أُخرى، لما عرفوا بهذا الشأن، واستمعوا إلى كلمة علىٍّ -رضي الله عنه- هذه؛ أيقنوا بنهايتهم، وعندئذٍ: حاكوا مؤامرتهم، ودبروا خطتهم؛ حتى يفسدوا هذا الاجتماع، وينقضوا عرى هذا الصلح، حتى قال الطبري -رحمه الله- ملخصا شأن الناس في تلك الليلة عموما: «فباتوا على الصلح، وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها؛ للعافية من الذي أشرفوا عليه، والنزوع عما اشتهى الذين اشتهوا وركبوا ما ركبوا، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها».
اجتمعوا، وجعلوا يتشاورون في مخلصهم: كيف يكون؟! والروايات في ذلك أيضا كثيرة ومطولة، ونحن نختصرها في مقامنا هذا.
ذكر الطبري من شأنهم: أنهم جلسوا فقالوا: «ما الرأي؟! وهذا -واللهِ- علىٌّ أَبْصَرُ الناس بكتاب الله، وأقرب ممن يطلب قتلة عثمان، وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلا هم والقليل من غيرهم؛ فكيف به إذا شَامَ القومَ وشامُوه، وإذا رأوا قِلَّتَنا في كثرتهم؟! أنتم -واللهِ- تُرَادُون، وما أنتم بأنجى من شيء».
هذه هي صورة الهلكة التي أحاطت بهم، صاروا الآن بين الناس قلة، فصار التوصل إليهم سهلاً، وصارت عقوبتهم سهلة؛ فخشوا من ذلك، وخشوا من اتفاق علىٍّ -رضي الله عنه- مع غيره، فجعلوا يتشاورون، وجعل كل واحد منهم يدلى بدلوه ورأيه، وكان حاضراً عبدُ الله بن سبأ -الذي تذكرونه-، فجعل كلما قال قائلٌ قولاً يبطله، ويقول: «بئس ما رأيت»؛ حتى جاء الدور عليه، فاستمِعْ إلى مشورته الخبيثة الماكرة:
قال: «يا قوم، إن عزكم في خلطة الناس؛ فصانعوهم، وإذا التقى الناس غدا؛ فَأَنْشِبُوا القتال، ولا تُفْرِغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بُدًّا من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون».
إنه كلام يهوديٍّ أصيل! إنه مخطط خبيث ماكر! وهو الذي أدى إلى تلك المأساة التي وقعت بعد ذلك، والتي قُتل فيها طلحة والزبير-رضي الله عنهما-.
ماذا قال؟! قال: «إن عزكم في خلطة الناس»، هذا هو سر المسألة؛ لماذا خاف هؤلاء المجرمون؟! ولماذا أيقنوا بقرب نهايتهم؟! عندما شعروا باجتماع الناس عليهم، وأنهم صاروا فيهم قلة؛ فالسبيل الوحيدة إذن للتغلب على ذلك هي: الدخول في غمار الناس؛ كالمُندَسِّين الذين نسمع عنهم الآن.
قالوا: لابد أن نندس في جماعة الناس؛ حتى يصعب التوصل إلينا، وإذا اجتمع الجمعان؛ قال لهم ذلك الرجل «أنشبوا القتال»؛ يعنى: ابدءوا أنتم بالقتال؛ كما يحدث الآن تماما.
فوقع -بناء على ذلك- في وقعة الجمل -كما يذكره أهل التاريخ-: أن أهل الجمل -الذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- لما وقع عليهم الهجوم؛ ظنوا أن الذي هجم هو علىٌّ -رضي الله عنه-!! ولما اضطروا إلى الدفاع عن أنفسهم؛ ظنّ علىٌّ أن الذي يهجم هم أصحاب الجمل!! فوقعت الواقعة، وحلت الكارثة، وهؤلاء لم يحاربوا، وأولئك لم يحاربوا، وإنما هم المندسون السبئيون -لعنهم الله-.
قال: «ولا تفرغوهم للنظر»؛ أي: لا تعطوا لهم مهلة حتى ينظروا في أمرهم ويتفقوا على شيء؛ بل أَعْجِلوهم وبادروهم، ولهذا وقعت الحرب في صبح تلك الليلة التي تحدثنا عنها مباشرة.
قال: «فإذا من أنتم معه لا يجد بدا من أن يمتنع»؛ يعنى: إذا كنتم الآن في طائفة من الناس، ورآكم أصحابكم قد بدأتم القتال؛ فإنهم لا بد معكم، لايستطيعون أن يمتنعوا -والحال هكذا-، فيجدون أنفسهم متورّطين، ويجدون أنفسهم -ولا بد- في القتال شارعين.
قال: «ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عمّا تكرهون»؛ أي: إذا وقع كل هذا؛ انشغل عليٌ ومن معه عمّا تكرهون، الذي هو القصاص.
فهكذا كان مخطط عبد الله بن سبأ، ونُفِّذت هذه المؤامرة، ووقعت وقعة الجمل، التي قُتل فيها ما يقرب من خمسة آلاف إنسان!! والأدهى: أنهم قُتل فيهم طلحة والزبير -رضي الله عنهما-.
ويذكر أهل التاريخ -من بعد ذلك- ما وقع من حزن علىٍّ -رضي الله عنه- على مقتل هذين الصاحبين الجليلين، وأنه بكى في ذلك واشتد حزنه، وأنه جهّز عائشة -رضي الله عنها- بأفضل الجَهاز، وأنه ردّها مرّةً أُخرى إلى المدينة مُعزَّزة مكرَّمة، وأنه ندم على ذلك كله، وقال لابنه: «يا حسن، ما ظنّ أبوك أنّ الأمر يبلغ هذا! يا حسن، ودّ أبوك أن لو مات منذ عشرين سنة!».
فانظر -رعاك الله- إلى شأن السبئية -الذين هم بذرة الرّافضة-، وانظر كيف كان دورهم، وكيف كان صنيعهم، وسَلِ الله العفو والعافية في الأمور كلها؛ نسأل الله ذلك، ونسأله أن يقينا الفتن كلها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
* الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كلّ شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
استمر شأن الرافضة على ذلك -عياذا بالله تعالى-، واستمروا مندسِّين في عسكر علىٍّ -رضي الله عنه-، لا يقدر عليهم، ولا يتأتى له بلوغهم؛ لأن الأمر عاد مرّة أخرى إلى ما كان يكره، وعادت المفسدة التي خشيها مرّة أخرى؛ بل زادت وقويت للأسف، وكان أمر الله قدراً مقدورا.
ثم وقع -من بعد ذلك ما وقع- بين علىٍّ ومعاوية -رضي الله عنهما-، ولسنا نتعرّض له؛ فإنه بعيد عن موضوعنا، وكذلك ما حصل من خروج الخوارج، وتآمُرِهم على علىٍّ -رضي الله عنه- حتى قتلوه؛ كل هذا أجنبي عن قضيتنا التي نتكلم فيها -وهى قضية الرافضة-.
غير أننا نختم هذه المرحلة بذكر ما وقع منهم من الغلو في علىٍّ -رضي الله عنه- في حياته، وقد عرفنا في الجمعة الماضية أن عبد الله بن سبأ لما وضع بذرة الرفض كان وضعه قائما على أصل الوصاية والإمامة في علىٍّ، وادّعى أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرجع -كما أن المسيح عليه السلام يرجع-.
فكان من نتائج هذا الغلو: الغلو في علىٍّ -رضي الله عنه- نفسِهِ، هكذا حاولت السبئية أن تصنع في زمن علىٍّ -رضي الله عنه- وحياته، من باب جسِّ النبض -كما يقال-؛ ولكنهم ما كانوا يجرؤون على الجهر بعقائدهم بشكل واضح ملموس، وما كان ابن سبإٍ يجرؤ في أيام على -رضي الله عنه- على الجهر بما جهر به في مصر -مثلاً- من قبل؛ لأن علياً -رضي الله عنه- ما كان يسمح بذلك، ولا كان يُقِرُّه ولا يسكت عليه أبداً، ومع ذلك؛ فقد حاول بعضهم أن يظهر شيئاً من الغلو في حياة علىٍّ -رضي الله عنه-؛ كيف وقع هذا؟!
روى أبو طاهر المُخَلِّص، من طريق عبد الله بن شريك العامري، عن أبيه: قيل لعلىٍّ -رضي الله عنه-: «إن هنا قوماً على باب المسجد، يدّعون أنك ربُّهم!!»، فدعاهم، فقال لهم: «ويلكم! ما تقولون؟!»، قالوا: «أنت ربنا وخالقنا ورازقنا!!»، فقال: «ويلكم! إنما أنا آكل الطعام -كما تأكلون-، وأشرب -كما تشربون-، إن أطعت الله؛ أثابني، وإن عصيته؛ خشيت أن يعذبني؛ فاتقوا الله وارجعوا»، فَأَبَوْا، فلمّا كان الغد؛ غدوا عليه، فجاء قَنْبَرْ -وهو خادم علىٍّ رضي الله عنه- فقال: «قد -واللهِ- رجعوا يقولون ذلك الكلام»، فقال: «أَدْخِلْهم»، فقالوا كذلك، فلما كان الثالث؛ قال: «لإن قلتم ذلك؛ لأقتلنكم بأخبث قِتْلَة»، فأبوا إلاّ ذلك، فقال: «يا قنبر، ائتنى بفَعَلَةٍ، معهم مرورهم»، فَخَدَّ لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر، وقال: «احفروا، فأبعدوا في الأرض»، وجاء بالحطب، فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: «إني طارحكم فيها، أو ترجعوا»، فأبوا أن يرجعوا، فطرحهم فيها؛ حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيتُ أمراً منكراً أوقدتُ ناري ودعوت قنبراً
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في «فتح الباري» -بعدما ذكر هذه الرواية-: «وهذا إسناد حسن».
هكذا وقع من أولئك الغلاة: ادعوا في علىٍّ -رضي الله عنه- تلك الدّعوى الخبيثة، وهى: دعوى الربوبية؛ قالوا:«أنت ربنا وخالقنا»...إلى غير ذلك، وما كان -رضي الله عنه- ليسكت عن شيء من هذا، فتوعّدهم بأشّد الوعيد، فأبوا، فما كان منه إلاّ أن عاقبهم بتلك العقوبة الشديدة: خدَّ لهم الأخدود، وأوقد فيه النار، ثم طرحهم فيها.
ونذكر هنا: أن ابن عباس -رضي الله عنه- لمّا بلغه ذلك؛ أنكر عليه -كما أخرجه البخاري رحمه الله في «صحيحه»-، قال: «لو كنت مكانه؛ لمَا حرّقتهم؛ لأنّ النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: «لا تُعذِّبوا بِعذاب الله»، ولَقتلتهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من بدَّلَ دينه؛ فاقتلوه».
أنكر عليه -فقط- شأن التحريق، وأمّا القتل؛ فلابُدّ منه -على كل حال-، وهذا هو الذي يقال له «حدُّ الرِّدة»، الذي ينكره الآن المنكرون من أهل الجهل والضلال -نسأل الله العافية والسلامة -، فحدُّ الرّدة من الحدود الثابتة في الإسلام؛ بدلالة هذا النص الصريح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفى الحديث الآخر المتفق على صحته من حديث عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه-: «لا يحلُّ دم امرئٍ مسلمٍ إلاّ بإحدى ثلاث»، فذكر منهن: «والتارك لدينه المفارق للجماعة».
هذا هو ما وقع من الغلو في حياة علىٍّ -رضي الله عنه-، وقد جرى أصحاب المقالات وغيرهم من العلماء على نسبة هذا الغلو إلى السبئية خاصةً دون غيرهم، وعباراتهم في ذلك كثيرة جدا، ونحن نقتصر على عبارة أبى إسحاق الجُوزَجَاني -رحمه الله-، وهو من علماء الجرح والتعديل.
قال في كتابه «أحوال الرجال»: «ثم السبئية إذ غلت في الكفر، فزعمت أن عليا إلهها؛ حتى حرقهم بالنار -إنكارا عليهم، واستبصارا في أمرهم-، حين يقول:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا أَجَّجْتُ ناري ودعوت قنبرا
وضرب عبدَ الله بن سبإ حين زعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء، وعلمه عند عليٍّ، ونفاه -بعدما كان هَمَّ به» اهـ.
وعلى هذا درج أهل المقالات، وإن كانوا قد اختلفوا في شأن عبد الله بن سبأ: فمنهم من قال: إنه حُرِّق مع من حُرِّقوا، ومنهم من قال: بل نجا، ونفاه علىٌّ -رضي الله عنه- إلى المدائن؛ فهذا اختلاف من العلماء والمؤرخين في شأن ابن سبإٍ خاصةً، وأما أصل الزنادقة الذين غلوا في علىٍّ -رضي الله عنه-؛ فلا إشكال في وقوع التحريق لهم.
ولنستحضر هنا ما سبق ذكره في الجمعة الماضية -حتى لا أطيل عليكم- من اعتراف أئمة الرّافضة أنفسهم بهذا، وقد ذكرنا كلام النُوبَخْتِي، وذكرنا ما رواه الكَشِّى في كتابه عن أئمة أهل البيت، من براءتهم من عبد الله بن سبأ، ومن الغلو الذي أحدثه في علىٍّ -رضي الله عنه-.
وهنا تنتهي المرحلة الثانية من مراحل تاريخ الرافضة، وخلاصتها:
أنه بعدما قتل عثمان -رضي الله عنه-؛ اندسَّ قتلته -وفيهم السَّبئية- بين الناس، حتى صعب الوصول إليهم، وحتى خشي الفرقةَ علىٌّ -رضي الله عنه- إذا أراد أن يقتص منهم، وكان ما كان من شأنهم في موقعة الجمل، وكان ما كان من فتنتهم، حتى قُتل بعض أفاضل الصَّحابة -رضي الله عنهم-، ثم لم يكتفوا بذلك حتى أظهروا الغلو في علىٍّ -رضي الله عنه- في حياته، فعندئذ عاقبهم بما رأيتم من العقوبة الشديدة، ثم انتهى الأمر -بعد ذلك- بمقتل علىّ -رضي الله عنه- على يد الخوارج، وهي فرقة أخرى، نشأت من فتنته مع معاوية -رضي الله عنه-، خرجت عليه، وكفَّرته -وكفَّرت معاوية أيضا-، وكان ما كان من شأنهم، حتى انتهى الأمر بقتلهم علياً -رضي الله عنه-.
وبعد ذلك تبدأ المرحلة الثالثة، بعد وفاة علىٍّ -رضي الله عنه-؛ نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يقينا الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن، وأن يتوفانا على التوحيد والسنة والسلامة -وهو راض عنا-.
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي إف، اضغط هنا |