تهافت الع"/>
الدرس الثاني والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الثالث والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الرابع والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس الخامس والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس السادس والعشرون - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو الدرس السابع والعشرون، وهو الأخير - شرح المقدمة الآجرومية في علم النحو حرمة أكل المال بالباطل - خطب عامة الحياء 1446 - خطب عامة لغة القرآن والحفاظ على الهوية - خطب عامة صناعة العقول بين الاستقامة والانحراف - خطب عامة
إبحث في الموقع
البحث في
عدد الزوار
انت الزائر :567269
[يتصفح الموقع حالياً [
الاعضاء :0الزوار :
تفاصيل المتواجدون

تفريغ الخطبة الرابعة من تهافت العلمانية

المقال
تفريغ الخطبة الرابعة من تهافت العلمانية
3795 زائر
29/12/2013
أبو حازم القاهري السلفي

تهافت العلمانية

(الخطبة الرابعة)


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهُدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فإننا نستكمل الحديث عن الأسباب التفصيلية التي أدت إلى رسوخ وتقوية العلمانية، وكان السبب الذي تحدثنا عنه في الأسبوع الماضي يعود إلى أمر ديني، وبقي لنا سببان: أحدهما: يعود إلى أمر مادي، والآخر: يعود إلى أمر علمي.

فأما السبب الذي يعود إلى أمر مادي، فهو الثورة الفرنسية التي قامت في أواخر القرن الثامن عشر، وكان لها دور بارز في توطيد سلطان العلمانية، لا في فرنسا أو أوروبا وحدها، بل في أسقاع شتى من العالم.

وبيان ذلك: أن أوروبا كانت في تلك الفترة تعيش في أزمات طاحنة تعود إلى الظلم والفقر بأعتى صورهما، وكان النظام الإقطاعي سائدا، ومعلوم أنه كان يقوم على ظلم عظيم للناس، وإهدار لمكانتهم، واغتصاب لحقوقهم، وزاد الأمر سوءا تلك الأزمة الاقتصادية الشديدة التي طغى فيها الأغنياء، وزاد ثراؤهم وفحش، فاتسعت الفوارق بين الطبقات حتى كان عامة الناس لا يكادون يجدون قوتهم، فعندئذ؛ هب الناس ثائرين، راغبين في تغيير ما يكابدونه من الظلم والفقر، فيما يعرف بالثورة الفرنسية التي أطاحت بالنظام الملكي، وأتت بالنظام الجمهوري، وقد حذى حذوها كثير من دول العالم على ما وقع فيها من المفاسد والفتن.

وإنما كانت الثورة الفرنسية توطيدا لسلطان العلمانية؛ لأنها لم تقم ضد رجال الدولة والأغنياء وحدهم، وإنما قامت ضد رجال الدين -أيضا-، لما عرفناه من طغيانهم وعلوهم في الأرض، وأنهم كانوا في الحقيقة رجال دنيا لا رجال دين، وقد ذكرنا طرفا من طغيانهم الديني والسياسي والمالي بما جعلهم من رؤوس الطغاة، وأكابر الإقطاعيين، والثورة إنما قامت للتخلص من ذلك، فكان لرجال الدين -إذن- أوفر الحظ منها.

وقد عبر عن ذلك بعض المفكرين والساسة المشهورين، وقد كان رئيسا لأمريكا في فترة من الفترات، وهو توماس جفرسن -كما جاء في كتاب «أفكار ورجال»- قال: «إن القسيس في كل بلد وفي كل عصر من أعداء الحرية، وهو دائما حليف الحاكم المستبد، يعينه على سيئاته، في نظير حمايته لسيئاته هو الآخر».

فبين أنه لم يكن ثمَّ فرق بين القساوسة والملوك، وقد كان الناس في تلك الثورة يصيحون قائلين: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس، فالثورة -إذن- كانت على الدين والدولة معا لا سيما وقد رفعت فيها شعارات الحرية، والمساواة، والإخاء مع أنه يفترض أن يكون الشعار الرئيسي: الخبز، والأكل، والشرب، ولكن لسبب ما، وتوجيه ما، ولما كان يعيشه الناس من شأن رجال الدين -كما عرفنا-، فقد تبلورت أهداف تلك الثورة حتى شملت ما يعود إلى الأمور الدينية، فكان الناس يرغبون لا في التخلص من سيطرة الملوك وحدهم، بل في التخلص من سيطرة رجال الدين، فنادوا بالحرية، والمساواة، ومنهما حرية الاعتقاد، والفكر، والرأي، ونحو ذلك حتى يتخلصوا من كل قيد يربطهم، ومن كل عقيدة تحكمهم سواء كان ذلك على مستوى ديني أم دنيوي.

وقد تمخضت تلك الثورة عن نتائج شتى ترجع إلى ما يلي:

أولا: قيام دولة جمهورية لا دينية.

ثانيا: تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب، وليس باسم الله.

ثالثا: تقوم على حرية التدين، بدلا من الكثلكة -والكثلكة لمن لا يعرف مأخوذة من المذهب الكاثوليكي عند النصارى، ومعلوم أن هذا المذهب هو المذهب الرسمي في أوروبا أو كان كذلك في تلك الفترة-.

رابعا: تقوم على الحرية الشخصية، بدلا من التقيد بالأخلاق الدينية.

خامسا: تقوم على دستور وضعي، بدلا من قرارات الكنيسة.

فماذا ترى أيها المسلم الفطن؟ إنك ترى تحللا وانفصالا من كل قيد، سواء كان ذلك على المستوى الديني أم المستوى الدنيوي، فلا سلطان لأحد، ولا قوة لأحد، ولا نفوذ لأحد سواء كان ملكا أم قسيسا، والشعب هو الذي يحكم ويسود، يحل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ويشرع ما يشاء، هكذا ترى في نتائج تلك الثورة التي صارت قانونا ودستورا لكافة دول العالم، إلا من رحم الله، وقليل ما هم.

وبناء عليه؛ فهذه الثورة كانت سببا رئيسيا في توطيد سلطان العلمانية من جهة الحكم والملك، وهكذا كل مذهب لا يقوم على ظهر الأرض إلا إذا كان له سلطان يحميه؛ ولهذا قام دين الإسلام على الكتاب الهادي والسيف الناصر، على الحق والقوة، فالحق وحده لا يكفي، والكتاب وحده لا يكفي، لا بد حتى ينتشر الحق في الأرض ويسود من قوة تؤيده وتحميه، فكان دين الإسلام قائما على هذين الأمرين، وهو ما تجده جليا في كتاب الله؛ كما في قول الله -تعالى-: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ﴾ [الحديد: 25]، فجمع الله -تعالى- بين البينات والهدى والكتاب، وبين الحديد والبأس والقوة، وانظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإخوانه من الأنبياء كيف كانوا دائما يقومون على الجمع بين الأمرين؟ واعتبر هذا في سيرة الخاتم -صلى الله عليه وسلم- كيف بُعث بالجهاد، وبعث بالأحكام والتشريعات على المستوى التنفيذي؟ فشرعت الحدود، والتعزيرات، ونحو ذلك من الأحكام التي تعود إلى السياسة من جهة السلطة والقوة، فإسلامنا -إذن- دين ودولة، كتاب وسيف، بينات وحديد، لا يستغنى بأحدهما عن الآخر، فالذي يدعو إلى غلق أبواب الجهاد، ويقول: إن الجهاد جهاد دفع فقط، هو رجل مبتدع، محدث في دين الله -تعالى- ما ليس منه، ومسفه في حقيقة أمره لرب العالمين، ورسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ومصور للنبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- أنه كان سفاحا سفاكا للدماء، داعيا إلى السلطة، وما يسمى في التعبيرات المعاصرة بالفاشية، ولم يتحاشا أذناب مثل هذا عن التصريح بذلك، فقالوا: إن فاشية الإسلام ظهرت منذ فتح مكة، الله أكبر، وما خفي في صدورهم كان أعظم، فاتقوا هؤلاء، واحذروهم على دينكم، ولا تسمعوا لكلامهم، ولا تغتروا بشبهاتهم، واعلموا أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، أصل من أصوله، قاعدة من قواعده، لا يستقر إلا بها، ولا يقوم إلا على أساسها.

كان هذا تنبيها لا بد منه، ونعود إلى ما كنا بصدده، فالثورة الفرنسية كانت بمثابة السلطان والسيف لمذهب العلمانية؛ لأنها وصلت إلى الحكم، وشرعت الدساتير والقوانين التي تكفل حقيقة العلمانية، وتطبقها في الدولة بالسيف والقوة، فكانت التشريعات قائمة على الحرية المطلقة، والانفلات المطلق، وإسناد الأمر برمته إلى الشعب، ونزع جميع النفوذ لا سيما عن رجال الدين الذين كان لهم دور بارز -كما عرفنا- في تنفير الناس وتبغيضهم في الدين على عجره وبجره، فهذا هو السبب الثاني إخوة الإسلام في ترسيخ العلمانية، وهو سبب يعود إلى القوة.

وكما نبهت، فإن جميع الأسباب التفصيلية موجودة ومبثوثة في ديار الإسلام حتى يصير أمرها إلى أمر الغرب من قبل، واللبيب بالإشارة يفهم، ولا حاجة إلى العودة إلى الوراء حتى نتكلم في الثورة وما كان بعد الثورة، فاعتبر بما ذكرته لك، وقارنه بالثورة التي كانت، وأنا واثق أنك ستتوصل إلى النتيجة، والحق والصواب، وستعرف المراد من الثورات، وستعرف نتائج الثورات، ونسأل الله -تعالى- أن يقي بلادنا وبلاد المسلمين كل فتنة ومكروه وسوء، إنه ولينا ومولانا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

* الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

نأتي بعد ذلك إلى السبب الأخير الذي يعود إلى أمر علمي، وهو ما يسمى بنظرية دارون، أو نظرية التطور، أو نظرية النشوء والارتقاء.

وهذه النظرية ابتدعها رجل إنجليزي يدعى شارلز دارون في أواسط القرن التاسع عشر، وكانت هذه النظرية ولا تزال، سندا علميا للعلمانية، فرح به أهلها، واعتمدوا عليه في نشرها كل الاعتماد.

وعندما نناقشه الآن، فإننا لسنا نفعل ذلك في أمر غير موجود في بلادنا، فإن الأسباب كما ذكرت موجودة وظاهرة، فإنك ترى في بلاد الإسلام التي تؤمن بالله، ودينه، وشرعه، من يدافع عن هذه النظرية، ويدعو لها، ويلقنها لأبنائنا في الجامعات حتى يشبوا على الإلحاد، وعدم الإقرار برب العزة -سبحانه وتعالى- والإيمان به، وسأركز على هذا في محله -إن شاء الله-، فإن الأمر خطير، ليس باليسير كما يتصوره من لا دراية له.

تفترض هذه النظرية -باختصار- أن أصل الكائنات كائن واحد حقير له خلية واحدة، ثم تدرج إلى أنواع أرقى من الكائنات، هذه الأنواع منها ما استطاع التكيف مع الطبيعة فبقي واستمر، ومنها ما لم يستطع التكيف فانتهى وانقرض، والأنواع الباقية منحتها الطبيعة القدرة على التكيف، ومنها الإنسان الذي مر بمراحل متعددة من النشوء والارتقاء ومنها مرحلة القردة، والطبيعة -في ذلك- لم يكن لها قانون مطرد عندما منحت بعض الأنواع القدرة على التكيف وحرمت البعض الآخر، بل قانون التطور نفسه ليس له قاعدة ثابتة.

ليس بالضروري أن تفهم، لكن أنا أقرب لك المسألة، فأقول: حقيقة هذه النظرية تعود إلى ثلاثة أمور:

الأمر الأول: إنكار وجود الرب -سبحانه وتعالى-.

الأمر الثاني: القول بالطبيعة والصدفة، أن الطبيعة هي التي خلقت، وأبدعت، وصورت، وكان ذلك عن طريق صدفة بحتة من غير قاعدة ثابتة ولا قانون مطرد.

الأمر الثالث: الطعن في خلق الإنسان، وأنه في الأصل كان حيوانا، وكان -أعزنا الله جميعا- قردا.

فهذه حقيقة النظرية باختصار وتقريب، والنظرية كما ترى تخليط محض، وتهويس بحت، لا يقوم على أي أساس ولا دليل ولا برهان، وهذا هو ما اعترف به أكابر الدارونيين أنفسهم؛ كما قال أحد علمائهم المتأخرين، وهو السير آرثر كيث، قال: «إن نظرية النشوء ما زالت حتى الآن بدون براهين، وستظل كذلك»، فلماذا تؤمنون بها إذن؟! أين عقولكم؟! وأين آدميتكم؟! وأين تمييزكم؟! يجيبك بنفسه فيقول: «والسبب الوحيد في أننا نؤمن بها هو: أن البديل الوحيد الممكن لها هو الإيمان بالخلق المباشر، وهذا غير وارد على الإطلاق».

الخلق المباشر غير وارد، لا يؤمنون به، لا يعترفون به، لا يعرفون لهم ربا، لا يعرفون أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي خلق الإنسان وغيره من الكائنات، فكان البديل عندهم لذلك هو الإيمان بتلك النظرية الفاسدة التي لا يؤيدها سند علمي، ولا يقبلها عقل صريح.

ولأن باطل النظرية واضح، فلن نفيض في الكلام عليها، ولكن لا بأس برد موجز، فإن الأمر للأسف يقرره من يقرره في بلاد الإسلام، ويُدعى إليه الطلبة في الجامعات، ومنهم من يعتقده، ويقول به، ومن كان له دراية بالشبكات العنكبوتية رأى ما يشيب لهوله الولدان من الدعوة الصريحة إلى الإلحاد، وأساسهم في ذلك دارون الذي يدعي أن أصله كان قردا.

فنقول: أولا: أما قضية الطبيعة، فالطبيعة لا تخلق شيئا، ولا تبدع شيئا؛ لأن الطبيعة هي التي نعيش فيها جميعا، هي السموات والأرض، هي الهواء والجبال، هو الماء والنار، هي غير ذلك من الكائنات التي لا يمكن أن تكون خالقة لغيرها، فهي مخلوقة محدثة بعد أن لم تكن، وهذا هو ما شرحناه في التمهيد الذي ذكرناه من قبل عندما قلنا: إن العقل الصريح والفطرة السوية يقران بوجود رب وخالق ومدبر، كل حادث لا بد له من محدث، كل مخلوق لا بد له من خالق، إنك إذا دخلت غرفة في بيتك، فوجدت كوبا قد وضع على كرسي أو منضدة، ولم تكن قد وضعته أنت، فهل تعتقد أنه قد وضع نفسه؟! هل تعتقد أنه جاء بنفسه فوضع في هذا المكان واستقر؟! أم تعتقد أن هناك من وضعه؟ فهذه قضية عقلية لا تقبل الجدل، قد فطر الله -تعالى- العباد عليها، لا يعتقد إنسان أن هذه المخلوقات الكائنات قد وُجدت بنفسها، أو أوجدت غيرها، وإنما أوجدها إله قادر حكيم، وليس الأمر في مجرد الإيجاد بل في هذا التنظيم البديع، والإتقان الهائل الذي تراه حولك في هذا الكون، أيمكن أن يكون ذلك صدفة؟! أيمكن أن يكون ذلك من خلال الطبيعة نفسها؟! إن مثل من يقول بذلك كما قال بعض أهل العلم: كمثل من ادعى أن رجلا أعمى وضع خيطا في إبرة، ثم ألقاها، فخاطت الثياب بنفسها، بدقة وإحكام وإتقان، فهل يصدق هذا أحد؟! فلا يمكن أن يصدق إنسان أن هذا الكون البديع المتقن المحكم قد وجد بنفسه، أو أوجده غير الله -تبارك وتعالى-، إنها الحقيقة التي تفطن لها الأعرابي البدائي في القديم، ألستم تعرفون جميعا خبر الأعرابي الذي نظر حوله، فقال: إن البعرة تدل على البعير، وإن الأثر يدل على المسير، أفلا يدل هذا الكون على وجود العليم القدير؟! فكيف نقبل خلاف هذا؟! ومن الذي يمليه علينا؟! ولماذا نصدقه؟! ما الداعي لهذا كله؟! ألا يكفينا ديننا؟! ألا تكفينا فطرتنا؟! ألا يكفينا كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-؟! ما هذا الضعف؟ ما هذا الخور؟ ما هذا الاحتياج المذل إلى غير المسلمين وإلى غير الله -تبارك وتعالى-؟
نستورد منهم حتى الأفكار والمعتقدات؟! إننا نقبل أن نستورد منهم اختراعا حديثا، فكرة نستعين في صناعة أو تجارة أو زراعة، لكن أن نستورد منهم دينا، فلا، عندنا ديننا، عندنا إسلامنا، عندنا عقيدتنا، لا نرضى بها بديلا قط، ولا مكان عندنا أبدا لمحلد، لا يؤمن برب العزة -سبحانه-، ولا يقر بخلقه للسموات والأرض والكائنات.

ثم اعجب من بعد ذلك عندما يقول ذلكم الخبيث: إن أصل الإنسان كان قردا، ما دليله على ذلك؟ وأهل التخصص يناقشونه ويبطلونه، وهناك ردود تفصيلية علمية من ناحية علم الأحياء وغيره في إبطال هذا القول الخبيث، وأنه كما قال فيه بعض معاصريه: خرافة علمية، لن تلبث أن تزول، ولكن أرادوا أمرا، وأراد الله أمرا، فكان ما أراد الله، ما دليله على هذا الافتراء؟ ونحن كقوم لنا دين، وقرآن، وسنة، نعتقد بالضرورة بطلان هذا، وهكذا جميع أهل الملل الذين لهم كتاب سماوي، وبعث فيهم رسول، الجميع يؤمنون بأن الله -تبارك وتعالى- خلق الإنسان بنفسه، لم يكن قبل ذلك في مرحلة قرد أو غيره، إننا نؤمن كما أخبرنا ربنا -سبحانه- أن الإنسان قد خلق من طين، هكذا كان أبونا آدم -عليه السلام-، خلقه الله -تعالى- من طين، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسكنه الجنة ثم أخرجه منها، بحكمته -جل في علاه-، هكذا يعتقد أهل الإسلام، فكيف يؤمن بهذه النظرية -إذن- من يؤمن بالقرآن؟! إن الصبيان في الكتاتيب يقرؤون في القرآن ويحفظون: أن الله -تبارك وتعالى- خلق الإنسان من طين، لم يكن قبل ذلك قردا ولا حيوانا، فكيف يؤمن بعض الناس الآن بذلك؟! وكيف يؤمن بعض أبنائنا في الجامعات بمثل هذه الخرافات والخزعبلات التي لا تستند على أي أساس؟!

فهذا رد موجز نكتفي به، ونجتزئ عن التفصيل، فإن الأمر ظاهر البطلان، لا يمكن أن يصدقه أحد، ولا يمكن أن يؤمن به أحد، ولولا أنه انتشر في بلادنا لما تكلمنا فيه، ولكن للأسف يوجد من يقول: إن هذه النظرية لها أدلة علمية، وأسانيد، وبراهين، فالله المستعان على غلبة الضلال والكفر في هذا الزمان.

نرجع بعد ذلك إلى قضية العلمانية، فنقول: إن هذه النظرية هي السند العلمي للعلمانية؛ لأن العلمانية -كما عرفت- لا تؤمن برب، ولا تؤمن بدين، فإذا جاءها سند علمي يؤكد ذلك، فأهلا به وسهلا -عندهم-.

لما خرج هذا الخبيث بنظريته التخليطية الماجنة تلقفها العلمانيون مباشرة وفرحوا بها فرحا عظيما، وروجوها تروجيا شديدا حتى يؤكدوا للناس أن كلامهم قائم على العلم، على العلم الحديث، يقولون لهم: انظروا النظرية فيها كذا، وفيها كذا، والدليل فيها كذا وكذا، فلماذا تؤمنون برب؟ ولماذا تؤمنون بإله؟ فاتركوا الدين -إذن-، ليس هناك رب ولا إله، وليس هناك دين ولا تشريع، بل الإنسان وجد من خلية حقيرة بمحض الصدفة، تطورت حتى صارت قردا، ثم صار الإنسان من هذا القرد، فأي حاجة لنا -إذن- في الإيمان برب أو دين أو نحو ذلك؟

فالقوم يؤصلون لمذهبهم، ولا بد لكل مذهب من هذا -أيضا-، لا بد لكل مذهب -وإن كان فاسدا باطلا لا يتصور- لا بد له من سند علمي، يروجه على الناس، ويخدعهم به.

فتكاملت بهذه الأسباب الثلاثة دعائم العلمانية، هناك سبب ديني يعود إلى الطعن في نفس الدين من خلال التنفير عنه، وهناك سبب مادي يعود إلى القوة والسلطان في تطبيق العلمانية، وهناك سبب علمي مما يقال له: العلم الحديث حتى يروج الأمر على الأغبياء والسذج.

فانظر في هذه الأسباب، وانظر فيها في بلاد الإسلام، كيف يدعو لها أعداء الإسلام؟ وكيف يروجونها وينشرونها؟ والهدف واضح، وهو القضاء على الدين، والانفلات من القيم، وبإذن الله -تبارك وتعالى- لن ينجحوا أبدا، ولن يصلوا إلى مرادهم ما تمسكنا بديننا، وبشريعتنا، والله يتولى هدايتنا، وتوفيقنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اللهم اهدنا، وتولنا، ووفقنا، وسددنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين، ولا مبدلين ولا مغيرين، إنك ولينا ومولانا، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

لتحميل الخطبة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا

للاستماع للمادة الصوتية أو تحميلها، اضغط هنا

   طباعة 
0 صوت