الرد على
إحدى شبهات الخوارج
الحمد لله البَرِّ الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله العلي العظيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الكريم؛ عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم.
فقد اتصل بي أحد الإخوة، عارضًا عليَّ شبهةً من شبهات الخوارج الجُدُد، وراغبًا إليَّ في الجواب عنها، فأجبته إلى ما أراد؛ والله المستعان.
والشبهة المومَى إليها هي: احتجاجهم بما رواه مصعب بن سعد بن أبي وقاص: قال علي بن أبي طالب كلمات، أصاب فيهن: «حَقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله, وأن يؤدي الأمانة, فإذا فعل ذلك؛ كان حقا على المسلمين أن يسمعوا ويطيعوا ويجيبوا -إذا دُعُوا-»[1].
يريد المحتج بهذا الأثر أن يعوِّل على مفهوم المخالفة في قوله: «فإذا فعل ذلك»؛ أي: فإذا لم يحكم بما أنزل الله؛ لم يكن على المسلمين له سمع ولا طاعة ولا إجابة -إذا دُعُوا-!!
والجواب -بفضل الملك الوهاب- من وجوه:
* الأول: أن الحجة إنما تقوم بكلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكل من دون الرسول: مأخوذٌ من قوله ومتروكٌ، لا يجوز أن يُجعل كلامه بمنزلة كلام صاحب الشرع[2].
* الثاني: أن دلالة المفهوم -وهو هنا: مفهوم الشرط- لا يحتج بها إلا بشروط مبسوطة في الأصول، وأهم ما يمس مقامَنا منها: ألا يعارض المفهومَ منطوقٌ صريح، فإذا وقع هذا التعارض؛ قُدِّم المنطوق على المفهوم -من غير إشكال عند العلماء-، وسيتبين هذا بالأوجه التالية.
* الثالث: أن إجماع أهل السنة منعقد على كون الحكم بغير ما أنزل الله من كبائر الذنوب، لا من الكفر الناقل عن الملة[3]، فلو قُدِّر تعارض بين هذا الإجماع وبين مفهوم الأثر؛ لوجب تقديم الإجماع.
* الرابع: أن ظاهر الأثر -في شأن الحكم- عام، يتناول الحكم بما أنزل الله في جميع المسائل، وكذا عموم المفهوم في قوله: «فإذا فعل ذلك»؛ فيلزم الأخذ بعموم هذا المفهوم؛ أي: لو لم يحكم الأمير بما أنزل الله -ولو في حكومة واحدة، أو في قضية خاصة-؛ فلا سمع له ولا طاعة ولا إجابة!! وهذا خلاف قول المعترض!!
* الخامس: أن إجماع أهل السنة منعقد على تحريم الخروج على أمراء الجور، وعدم نزع اليد من طاعتهم[4]، فلو قُدِّر تعارض بين هذا الإجماع وبين مفهوم الأثر؛ لوجب تقديم الإجماع.
* السادس: أن ظاهر الأثر -في شأن أداء الأمانة- عام، يتناول أداءها في جميع المسائل، وكذا عموم المفهوم في قوله: «فإذا فعل ذلك»؛ فيلزم الأخذ بعموم هذا المفهوم؛ أي: لو لم يؤدِّ الأمير الأمانة -ولو في موقف واحد-؛ فلا سمع له ولا طاعة ولا إجابة!! وهذا خلاف قول المعترض!!
* السابع: أن الأوجه السابقة إنما هي على تقدير التعارض بين الأثر وبين ما ذُكر، وإلا؛ فلا تعارض أصلا؛ لأن المراد بنفي السمع والطاعة والإجابة -على مفهوم المخالفة-: نفيها في المعصية المعينة؛ أي: إذا لم يحكم الأمير بما أنزل الله، ولم يؤدِّ الأمانة؛ فلا سمع له ولا طاعة ولا إجابة في هذه المعصية المعينة، لا في مطلق الأمر.
فيكون هذا الأثر -إذن- بمنزلة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الطاعة في المعروف»، وقوله: «فإذا أُمر بمعصية؛ فلا سمع ولا طاعة»، وقوله: «لو استُعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله؛ فاسمعوا وأطيعوا»، وقوله -مفسِّرا لما تقدم-: «وإذا رأى أحدكم أميره يأتي شيئا من معصية الله؛ فليكره الذي يأتي، ولا ينزع يدا من طاعة»[5].
وهكذا فهم العلماء الذين أوردوا الأثر؛ فقد أوردوه في سياق الأحاديث المذكورة؛ دلالة على موافقة معناه لمعناها[6].
فلا تَشْتَبِهَنَّ عليك الأمور، ولا يُلَبِّسَنَّ عليك مفتون مغرور.
واعلم أن «كل مخالف للشرع معه من الشبهات ومحتملات الدليل -التي ساء فيها فهمه، ولم يوفَّق للتوفيق بينها وبين مقابلها-: أضعاف أضعاف ما مع هؤلاء؛ فيلزم منا نتوقى رد أباطيله نظرا إلى ملفَّق دليله؟! كلا؛ بل نعلم سوء فهمه -قبل النظر في وهمه-؛ لما تمسكنا به من هذا الأصل الأصيل، وهو: أن السنة يصدق بعضها بعضا، والبدعة ينقض بعضها بعضا»[7].
والله أعلى وأعلم، وأعزُّ وأحكم؛ وصلى الله على محمد وآله وسلم.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الجمعة 2/جمادى الآخر/1434
[1] رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (32532) -واللفظ له-، وسعيد بن منصور في «التفسير» من «سننه» (651)، وابن زنجويه في «الأموال» (31)، والطبري في «التفسير» (9841، 9842)، وابن المنذر في «التفسير» (1922)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (5520)، وابن خزيمة في «السياسة» -كما في «إتحاف المهرة» (14762)-، والخلال في «السنة» (51)، والخطيب في «تالي تلخيص المتشابه» (338)؛ كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد، عن مصعب، به؛ وإسناده صحيح.
فإن قيل: قد نفى أبو زرعة سماعَ مصعب من عليٍّ -كما في «المراسيل» لابن أبي حاتم (767)، واعتمده العلائي في «جامع التحصيل»، وأبو زرعة العراقي في «تحفة التحصيل»-.
قلت: ولكن خالفه البخاري، فأثبته في «التاريخ الكبير» (7/351)، وكذا مسلم في «الكنى والأسماء» (1255) -وكأنه أخذه عن البخاري-، ومذهب البخاري خاصة في هذه المسألة معروف، والمثبِت مقدم على النافي، ولعله لأجل هذا لم يعول عليه الحافظ ابن حجر في «التهذيب» و«التقريب».
وأيضا: فقد وقع عند ابن خزيمة في هذا الأثر عن مصعب: «سمعت عليا على المنبر»؛ غير أن راويه عن إسماعيل بن أبي خالد لم أنشط للنظر في حاله، وقد خالف بهذا التصريح غيره -وعلى رأسهم وكيع-، فالعبرة بما تقدم؛ والله أعلم.
[2] وصورة الاحتجاج بقول الصحابي مباينةٌ لمقامنا هذا، وهذا مبسوط في الأصول.
[3] انظر تفاصيل ذلك في كتابي: «النقض على ممدوح بن جابر».
[4] انظر تفاصيل ذلك في كتابي: «النقض على ممدوح بن جابر».
[5] انظر الكلام على هذه الأحاديث في كتابي: «النقض على ممدوح بن جابر».
[6] هذا ظاهر في صنيع ابن أبي شيبة والخلال، وكذا صنيع ابن عبد البر في «الاستذكار» (5/15).
|