ومرة ثالثة!
ما لنا وللسياسة؟!
(الكلام على الحاكم المسلم لدولة أخرى)
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فمن المسائل المثارة على الساحة الدعوية: أن يتكلم الداعية من أهل السنة في حاكم مسلم لدولة أخرى، غير الدولة التي يعيش فيها ذلك الداعية، بحيث لا يصدق عليه أنه يعيش تحت إمرته وسلطانه؛ وسبب ذلك الكلام والتجريح: أن ذلك الحاكم الأجنبي عن البلد يهيِّج على حاكم البلد، ويتآمر عليه، ويخطِّط لإسقاطه، ونحو ذلك.
فللمسألة مَأْخَذَانِ، نتناولهما -مستعينين بالله عز وجل، مُسْتَمِدِّينَ منه التوفيق والتسديد-.
* المأخذ الأول: مجرد اختلاف الإمرة:
اعلم -رحمك الله- أن النصوص قد نهت -مطابقةً، أو تضمُّنًا، أو التزامًا- عن سَبِّ الأمراء، والقدح فيهم؛ هكذا -بدلالة العموم المستغرق لكل أفراده، الشامل لكل حاكم-، وكان الخطاب فيها موجَّهًا للمسلمين -على نظير ذلك من العموم-، والعلة المنصوص عليها لذلك النهي: تفريق الجماعة، وشق عصا الطاعة.
ولا يستريب عاقل منصف بعد التصور التام في أن الصورة -محل النزاع- داخلة في عموم النصوص، ومتحقِّقةٌ فيها تلكم العلة؛ فإن الشاميَّ -مثلا- عندما يتكلم في حاكم اليمن -مثلا-، وينتشر كلامه في أهل اليمن؛ فقد هيَّجهم على أميرهم، وفرَّق جماعتهم؛ ولا يقول عاقل -بالطبع-: العبرة بجماعة البلد الواحد، الذي يعيش فيه الداعية المعيَّن تحت إمرة السلطان المعيَّن!! فإن جماعة المسلمين واحدة، ولا فضل لجماعة الشام على جماعة اليمن!!
وأمر آخر: أن الداعية الشامي -مثلا- عندما يتكلم في سلطان اليمن -مثلا-؛ فإن هذا سيُغْرِي دعاة اليمن للكلام في سلطان الشام، ولن يَعْدِمُوا في ذلك مسوِّغًا، ولو جزاءَ السيئة التي اقترفها ذلكم الداعية الشامي!! فإذا به يَجُرُّ الشقاق إلى بلده، ويصدِّر التهييج والتفريق إلى جماعة بلده، فيقع في عين ما كان يبغي الفرار منه!!
إذا عرفتَ ذلك؛ عرفتَ أنه لا يجوز -بتَّةً- أن يتكلم أحد في غير حاكم بلده، إذا كان مأخذه مجرد اختلاف الإمرة؛ وعرفتَ -أيضا- أن هذا المأخذ في غاية الوهن، لا يصلح تعليل المسألة به، ولا بناؤها عليه.
وإن هذا لَيُذَكِّرُنِي بذلك المأخذ القديم، الذي حاول به بعض دعاة السنة -أيام فتنة الثورات- أن يلتمس به العذر لمن خرج من السلف على أمرائهم: أنهم لم يبايعوا أولئك الأمراء -بأنفسهم-!! فَجَوَّزَ -إذن- لكل من لم يبايع -بنفسه- أن يخرج على إمامه!! فأتى للخوارج بما لم يحسنوا أن يحتجوا به([1])!!
* المأخذ الثاني: ردُّ عدوان الحاكم الآخر:
إذا ثبت أن حاكم البلد الآخر يتآمر على بلد الداعية المعيَّن، وشعبه، وسلطانه؛ فهذا -لَعَمْرِي- شأن آخر، يختلف عن الشأن السابق.
وذلك أن دفع الصائل مشروع -بالنص، والإجماع-، ولا يرتاب أحد أن ذلك الحاكم الأجنبي لو اعتدى بالسيف على بلدي؛ لجاز دَفْعُهُ بمثل سيفه؛ فكيف بتجريحه؟! ولا يرتاب أحد -أيضا- في أن التخطيط للثورات والفتن، والسعي لتهييج الناس على حاكمهم، والخروج عليه: هو في معنى قتاله بالسيف؛ فإن الوسائل لها أحكام المقاصد.
ولا شك أن هذا المأخذ يصلح لتخصيص العموم في النهي عن القدح في الأمراء؛ فإن النهي قد ورد عن قتالهم -أصالة-، وهو عام في حق كل أحد -حاكما، أو محكوما-، فكما خصصنا منه القتال دفعًا للصِّيَالَةِ؛ فكذلك الكلام باللسان لنفس المعنى، فهذا من التخصيص بالقياس، وهو من أَبْيَنِ ذلك.
هذا هو الذي لا يسع مُنْصِفًا أن يماري فيه، وبه تعلم الفارق الواضح بين المأخذين، وأن من تكلم في حاكم مسلم أجنبي لهذا السبب المذكور؛ فليس من الخوارج، ولا طريقتُه طريقتَهم؛ وذلك لاختلاف المأخذ.
وما زال العبد الفقير ينبِّه على ضرورة التفطُّن لاختلاف المآخذ، وأن هذا هو عصب الفارق بين زلة العالم السُّنِّيِّ، وبدعة المبتدع الغَوِيِّ، وأن الغفلة عن ذلك من أظهر أسباب الفوضى العلمية والدعوية التي نعيشها، وإلى الله المشتكى.
إلا أن هنا نظرًا آخر، هو نظر أهل الحكمة، والصيانة، وبُعْدِ النظر:
لئن جاز -ابتداء، شرعا- أن يُتكلم في الحاكم الأجنبي المُثَوِّر المتآمِر؛ فينبغي لأهل الدعوة أن يحجموا عن ذلك، ويَكِلُوهُ للأجهزة الإعلامية -بمختلف أَذْرُعِها-، وهو يقومون «بالواجب، وزيادة» -كما يقول أهل مصر-!!
فهذا يحقق فائدتين:
إحداهما: تحقيق مصلحة صد العدوان، ودفع الصِّيَالَة؛ مع التحفُّظ على تجاوزات الإعلاميين!!
والثانية: درء المفسدة والفتنة عن الدعوة وأهلها، الذين يجب أن يظهروا -دائما- أمام العامَّة بمظهر النقاء، والشرف، والسلامة من الدَّغَل والدَّخَن، والبعد عن مغارات السياسة ومُدَّخَلَاتِها.
إن «الداعية» عندما يتكلم في «حاكم»؛ فقد وَلَجَ باب فتنة -شاء، أم أبى-، وسُيَصَنَّف عند العوام تصنيفا -شاءه، أم أباه-، وهذا التصنيف سيؤثر على دعوته ومكانته عند الناس، وسيُزَعْزِعُ ثقتهم به وبها، ولا سيما أنه -هو نفسه- يؤصِّل -بُكْرَةً، وعَشِيًّا- أن السلفية بعيدة عن السياسة، ويذُمُّ أصحاب الانتخابات، والبرلمانات، وما إليها؛ فالعامي المسكين لا بد أن ينشأ في ذهنه تناقض، ولا بد أن تقوم في قلبه تهمة؛ وحفظُ اعتقادِ العوام ودينِهم: مقصد شرعي جليل، قَلَّ من ينتبه له.
والعامي المسكين عندما يحصل له ما ذكرنا؛ يسقط فريسة سهلة للإعلام المضاد، وأعداء أهل السنة، الذين يقولون -حينئذ-: أرأيتَ! ألم نقل لك: إن ذلك «التيار المَدْخَلِيَّ» تيارٌ سلطانيٌّ، أداةٌ من أدوات دولته، وذراع من أذرع إعلامه، يتحرك بتعليمات «الأمن» و«المخابرات»؟!!
ويزداد ذلك مع الصورة التالية، فاستمعوا لها:
إن السياسة متقلبة، عصبها المصلحة، ودينها المنفعة، فكم من مرة صار فيها أعداء الأمس أصدقاء اليوم، وأصدقاء الأمس أعداء اليوم.
فما يؤمِّننا أن ذلك الحاكم الأجنبي العدو لا يصير صديقا في الغد؟! ولو أنه فعل، ورجع عن عداوته؛ فما موقفنا نحن، وقد تكلمنا فيه بالأمس؟!
لا بد -حينئذ- من السكوت، ولا بد -حينئذ- أن تترسخ الشبهة في قلوب العوام، وتزداد قرارا وتمكُّنًا.
ولاسيما إن كانت الصورة: أن الداعية «الهُمام» (!) لا يبيِّن، ولا ينصح للناس، فهو عندما تكلم في الحاكم؛ لم يبيِّن أن هذا لا يتعارض مع الدعوة، ولم يفصِّل أسباب كلامه على الوجه المُقْنِع، الذي يشرح الصدور، ويُذهب ما بها من تهمة وريبة؛ وعندما سكت عن الحاكم؛ فكَدَأْبِهِ: لا بيان، ولا تفصيل، ولا نصيحة!!
ولا نريد -بعد ذلك- أن ينفضَّ عنا الناس، وتضعف دعوتنا، ويتراجع تأثيرها؟!!
فالسؤال -الآن- لكل ذي حِجْرٍ:
ما الذي يوجب علينا تجشُّمَ كل هذه المفاسد؛ لأجل مصلحة يمكن أن يقوم بها غيرنا؟!
لماذا لا نحافظ على سلامة دعوتنا، ونقائها، ونَزَاهَتِها؟!
الجواب أتركه لمن سألته: كلِّ ذي حِجْرٍ، والحق عليه نور كالشمس في ضحاها، لا تخطئه عين البصير السليم من الموانع.
نسأل الله أن يُذهب عنا موانع الهداية، والصوارف عن الحق، وأن ينوِّر بصيرتنا، ويرزقنا العلم، والإنصاف، والحكمة، والسداد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه -قاطبة-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) راجع مقال العبد الفقير: «التنبيه على جواب باطل في مسألة الخروج على الحكام».
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
السبت 9/جمادى الأولى/1444
|