كشف الفتنة بين السلفيين
من كلام ابن تيمية الجامع المتين
الحمد لله أبلغ حمد وأزكاه، وأشهد أن لا إله حقٌّ سواه، وأشهد أن محمدا عبده ومصطفاه؛ صلى الله وسلم عليه، وعلى من اتبع هداه.
فقد قال رب العزة -جل شأنه-: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾[1]، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة»[2]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبده المصلون في جزيرة العرب؛ ولكن في التحريش بينهم»[3]، ونصوص الأمر بالجماعة والائتلاف، والنهي عن التفرق والاختلاف: معروفة مشهورة.
وإن مما يملأ المرءَ أسفًا وحزنًا وكمدًا: أن يقع خلافُ هذه الجملة الشريفة بين أهل السنة -خاصة-، الذين هم -في الأصل- نقاوة المسلمين، وخير الناس للناس؛ فإذا جَرَّ الطبيب الدواء إلى نفسه؛ فمن يُبْرئ الناس؟! والخَطْب معلوم لدى صغار أهل السنة -قبل كبارهم-.
فدونك -يا طالب الخير والإصلاح- هذه النصيحةَ العظيمةَ، من الإمام العالم العاقل الحكيم أبي العباس بن تيمية -قدَّس الله روحه-؛ عسى أن ينفعنا الله بها:
قال -رحمه الله-: «وكل ما أوجب فتنة وفرقة؛ فليس من الدين -سواء كان قولا أو فعلا[4]-؛ ولكن المصيب العادل[5] عليه أن يصبر عن الفتنة[6]، ويصبر على جهل الجهول وظلمه -إن كان غير متأوِّل[7]-، وأما إن كان ذاك أيضا متأوِّلا؛ فخطؤه مغفور له، وهو فيما يصيب به من أذى -بقوله أو فعله- له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له[8]؛ وذلك محنة وابتلاء في حق ذلك المظلوم: فإذا صبر على ذلك، واتقى الله؛ كانت العاقبة له[9]؛ كما قال -تعالى-: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾[10]، وقال -تعالى-: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾[11].
فأمر -سبحانه- بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب -مع التقوى-، وذلك تنبيه على الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض -متأولين كانوا، أو غير متأولين[12]-.
وقد قال -سبحانه-: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[13]، فنهى أن يحمل المؤمنين بغضُهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم؛ فكيف إذا كان البغض لفاسق، أو مبتدع متأوِّل[14] من أهل الإيمان[15]؟! فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على ألا يعدل على مؤمن -وإن كان ظالما له[16]-.
فهذا موضع عظيم المنفعة في الدين والدنيا[17]؛ فإن الشيطان موكل ببني آدم، وهو يعرض للجميع[18]، ولا يسلم أحد من مثل هذه الأمور[19]؛ دع ما سواها من نوع تقصير في مأمور، أو فعل محظور -باجتهاد أو غير اجتهاد -وإن كان هو الحق-.
وقال -سبحانه- لنبيه: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾[20]، فأمره بالصبر، وأخبره أن وعد الله حق، وأمره أن يستغفر لذنبه[21].
ولا تقع فتنة إلا من ترك ما أمر الله به؛ فإنه -سبحانه- أمر بالحق، وأمر بالصبر؛ فالفتنة إما من ترك الحق، وإما من ترك الصبر[22].
فالمظلوم المحق الذي لا يقصر في علمه: يؤمر بالصبر، فإذا لم يصبر؛ فقد ترك المأمور.
وإن كان مجتهدا في معرفة الحق، ولم يصبر؛ فليس هذا بوجه الحق مطلقا؛ لكن هذا وجه نوع حق -فيما أصابه[23]-، فينبغي أن يصبر عليه.
وإن كان مقصرا في معرفة الحق؛ فصارت ثلاثة ذنوب: أنه لم يجتهد في معرفة الحق، وأنه لم يصبه، وأنه لم يصبر[24].
وقد يكون مصيبا فيما عرفه من الحق -فيما يتعلق بنفسه-، ولم يكن مصيبا في معرفة حكم الله في غيره؛ وذلك بأن يكون قد علم الحق في أصل يُختلف فيه -بسماع وخبر، أو بقياس ونظر، أو بمعرفة وبصر[25]-، ويظن -مع ذلك- أن ذلك الغير التارك للإقرار بذلك الحق: عاص أو فاسق أو كافر، ولا يكون الأمر كذلك؛ لأن ذلك الغير يكون مجتهدا، قد استفرغ وسعه، ولا يقدر على معرفة الأول؛ لعدم المقتضى ووجود المانع[26].
وأمور القلوب لها أسباب كثيرة، ولا يعرف كل أحد حال غيره من إيذاء له بقول أو فعل[27].
وقد يحسب المؤذَى -إذا كان مظلوما لا ريب فيه- أن ذلك المؤذِي محضُ باغٍ عليه، ويحسب أنه يدفع ظلمه بكل ممكن، ويكون مخطئا في هذين الأصلين؛ إذ قد يكون المؤذي متأولا مخطئا، وإن كان ظالما لا تأويل له؛ فلا يحل دفع ظلمه بما فيه فتنة بين الأمة، وبما فيه شر أعظم من ظلمه؛ بل يؤمر المظلوم ها هنا بالصبر؛ فإن ذلك في حقه محنة وفتنة[28].
وإنما يقع المظلوم في هذا لجزعه وضعف صبره، أو لقلة علمه وضعف رأيه[29]؛ فإنه قد يحسب أن القتال -ونحوه من الفتن[30]- يدفع الظلم عنه،ولا يعلم أنه يضاعف الشر -كما هو الواقع[31]-، وقد يكون جزعه يمنعه من الصبر.
والله -سبحانه- وصف الأئمة بالصبر واليقين، فقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[32]، وقال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[33].
وذلك أن المظلوم -وإن كان مأذونا له في دفع الظلم عنه بقوله تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾[34]-؛ فذلك مشروط بشرطين:
أحدهما: القدرة على ذلك.
والثاني: ألا يعتدي.
فإذا كان عاجزا، أو كان الانتصار يفضي إلى عدوان زائد؛ لم يجز، وهذا هو أصل النهى عن الفتنة، فكان إذا كان المنتصر عاجزا، وانتصاره فيه عدوان؛ فهذا هذا[35].
ومع ذلك: فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -بحسب إظهار السنة والشريعة-، والنهي عن البدعة والضلالة -بحسب الإمكان-؛ كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة[36].
وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك، فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة: فإما أن يأمر بهما جميعا، أو ينهى عنهما جميعا؛ وليس كذلك؛ بل يأمر وينهى ويصبر عن الفتنة[37]؛ كما قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾[38]، وقال عبادة: «بايعنا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة، في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم -أو نقول- بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»[39]، فأمرهم بالطاعة، ونهاهم عن منازعة الأمر أهله، وأمرهم بالقيام بالحق.
ولأجل ما يُظن من تعارض هذين؛ تَعْرض الحيرة في ذلك لطوائف من الناس[40]، والحائر الذي لا يدري -لعدم ظهور الحق، وتميُّز المفعول من المتروك- ما يفعل؛ إما لخفاء الحق عليه، أو لخفاء ما يناسب هواه عليه[41]» هذا آخر كلامه -رحمه الله-[42].
وأقول:
يا أهل السنة -شيوخا، وطلابا، وشبابا-!
هذا -والله- هو كشف الفتنة، ودواء الداء؛ ولنَجِدَنَّ خيره -لو أحسنَّا العمل به-.
فهل من باغٍ للخير؟! وهل من ساعٍ للإصلاح؟! وهل من مشمِّر للاجتماع والائتلاف؟!
اللهم بلغتُ، اللهم فاشهد.
وصلَّى الله وسلَّم على محمد وآله.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
ليلة الجمعة 21/رجب/1434
[2] رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم، من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه-؛ وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (2595) وغيره.
وقد ورد بيان «الحالقة» هنا بأنها تحلق الدين، وذلك في حديث الزبير -رضي الله عنه-، عند أحمد والترمذي وغيرهما؛ وإسناده ضعيف -كما قال أبو حاتم الرازي، وتبعه الألباني في «الإرواء» (3/238)-.
[3] رواه مسلم (2812) عن جابر -رضي الله عنه-.
[4] فمن أحدث الفتنة والفرقة ناصرا للحق والدين -بزعمه-؛ فهو من أجهل الناس وأضلهم، وهذا بخلاف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -كما سيأتي إيضاحه-.
[5] أمران لا بد منهما: الحق، والعدل؛ فكم من مصيب للأول -دون الثاني-.
[6] أي: عن الولوج فيها؛ فإصابته للحق والعدل لا تسوِّغ له إحداث الفتنة والتفرق والاختلاف.
[7] لأن الأذى لا بد منه -لاسيما من الجهال المذكورين-، فالصبر عليه واجب.
[8] فقد يكون المؤذِي نفسه متأوِّلا معذورا، يُغفر له خطؤه -رغم أذاه-؛ كرجل تكلم في أحد إخوانه، بناء على نقل ثقةٍ عنده، وذلك الثقة غير ثقة -في نفس الأمر-، أو غالط واهم في نقله، والمتكلِّم لا يعرف ذلك.
[9] هذا هو الواجب، وهذا هو سبيل العاقبة؛ لا مواجهة الظلم بالظلم، والباطل بالباطل.
[12] تأمل: متأولين أو غير متأولين.
[14] أي: لا ينفعه تأويله، فهو مبتدع -مع كونه متأوِّلا-، وهذا أحد ثلاثة أصناف:
من نشأ على بدعة ظاهرة -كالخروج، والقدر، والإرجاء-، ومن كان سنيا فوقع في بدعة ظاهرة، ومن كان سنيا فوقع في بدعة خفية -بعد قيام الحجة عليه-.
وأما من كان سنيا فوقع في بدعة خفية، ولم تقم عليه الحجة؛ فهو سني -على شاكلته-، لا يُبدَّع -ولو بمجرد التسمية-؛ وانظر -للأهمية- مقالي: «نقض شبهة الحدادية في إطلاق لفظ التبديع دون حكمه».
[16] فنحن -وإن أبغضنا المبتدعة، وحذَّرنا منهم-؛ إلا أننا لا نظلمهم؛ بل لا نفعل -وإن ظلمونا وتعدَّوْا علينا-؛ فكيف بإخواننا السلفيين؟!
[17] إي -والله-، والموفَّق من وفقه الله.
[18] كما تقدم في سعيه بالتحريش.
[19] فلو اتخذنا الفتن المذكورة ذريعة لإسقاط الخائضين فيها؛ لما بقي لنا أحد؛ وما أَحْوَجَنا إلى فهم ذلك.
[21] فكذلك المظلوم: عليه أن يصبر، ويوقن بفرج الله، ويستغفر لذنبه وتقصيره.
[22] احفظ هذا، واربطه بما تقدم ويأتي؛ تكن من الراشدين.
[23] أي: من الحق -باجتهاده-.
[24] وهذا كثير في أطراف الفتن: تجد أحدهم لا يصبر -وإن ظُلم-، مع كونه مقصرا في معرفة الحق في النزاع، غيرَ مصيب له -ابتداء-!!
[25] هذه وسائل الإدراك الثلاث.
[26] رحم الله شيخ الإسلام! ما كان أعمق علمَه! وما كان أنفذ بصيرتَه! وما كان أدق اطلاعَه على مواطن الأدواء!
ونحن بأمسِّ الحاجة لإدراك هذا الفقه الجليل، والعمل به؛ فلْتتسع صدورنا في مواطن النزاع، ولْنحسن الظن بإخواننا، الذين هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا؛ فلا مجال -ولله الحمد- في هذا الكلام لمبتدع قد بان أمره، وانكشفت سَوْأَتُه؛ فإليك عنا يا «مأربي» (!!) ويا «حلبي» (!!)، ليس هذا بعُشِّكما؛ فادْرُجا!!
وإنما كلام شيخ الإسلام في أهل السنة، وفي المسائل الغامضة المشكلة، التي لم تظهر فيها الحجة، ولم تتبين فيها المحجة، وهذا صريح قوله: «في أصل يُختلف فيه -بسماع وخبر، أو بقياس ونظر، أو بمعرفة وبصر-»؛ فمهما ظهر لأحد الإخوة من الأمر في هذه المسائل؛ فلْيعتبر بحال أخيه الذي هو -بعدُ- في طور الجهل أو البحث، ولْيصبر عليه، ولْيرفق به؛ وكذا في مواطن نقل الكلام، والقيل والقال؛ التي صارت وقود الفتن -الآن-، وعظمت بها البلية واشتدت الرَّزية؛ وإنا لله، وإنا إليه راجعون.
[27] هذه لفتة من الإمام إلى أحوال القلوب؛ فإن علاقتها بمقامنا قوية ظاهرة، ووالذي نفسي بيده، ما نُؤتَى إلا من نقص ما قلوبنا من الإخلاص والتجرد والافتقار؛ فيا مقلِّب القلوب، طهِّر قلوبنا، وثبِّتها على دينك.
[28] هذا تأكيد لما تقدم، وفيه: أن دفع الظلم لا يكون بما فيه فتنة للأمة، فلا يُمنع -إذن- من مطلق دفع الظلم -كما سيأتي تقريره-.
[29] تأمل تشخيص الطبيب الخِرِّيت، واعتبره بالواقع؛ تجدْه كذلك!
[30] فليست الفتنة مقصورة على القتال؛ بل قال الإمام: «ونحوه»، فيدخل فيه -مما يجري الآن للأسف-: الكذب، والجهل، والكبر، والتعصب، وحب الظهور، والتعلق بالخلق؛ وهَلُمَّ جرّا.
[35] هذا التوضيح في غاية الأهمية، وهو أن ما تقدم من الأمر بالصبر على الظلم: لا يعني -أبدا- سكوت المظلوم؛ بل له أن يدفع عن نفسه، ويرد ما وقع عليه من الظلم؛ ولكن بالعدل، وعدم الاعتداء المفضي إلى الفتنة -كما تقدم-، فلا يحل له أن يكذب على ظالمه، أو يؤذيه، أو يتعرض لعزيز عليه -من شيخ أو نحوه-؛ وهذا هو ما سيأتي في الكلام بعده على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[36] فنحن نأمر بالمعروف -بالمعروف-، وننهى عن المنكر -من غير منكر-، ونرد الباطل والمخالفات -من غير ظلم ولا فتنة-.
[37] فليست الفتنة في نفس الأمر والنهي؛ بل تاركهما -في هذه الحالة- كمن قال فيهم الله: ﴿أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ [التوبة: 49]، فلا يجوز -إذن- أن يُعترض على الآمر الناهي في نفس أمره ونهيه، وإنما يُعترض على طريقته المؤدية إلى الفتنة -كما تقدم-.
[39] رواه البخاري (18، ومواضع)، ومسلم (1709).
[40] فمن أراد دفعَ الحيرة، وبَرْدَ اليقين؛ فعليه بما تقدم من الفرقان العلمي الشرعي.
[41] فالأمر بحسب النية، فليس من أراد الحق فأخطأه كمن أراد الهوى فأخطأه.
|