نقض شبهة الحدادية
في إطلاق اسم التبديع
دون حكمه([1])
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين -كالمبتدعة والمشركين-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فإن من شبهات الحدادية -أهل الغلو في باب التبديع-: قولهم: من كان من أهل السنة، ووقع في بدعة -وإن كان جاهلا أو متأوِّلا([2])-؛ فإنه يبدَّع بإطلاق الاسم، فيقال: «فلان مبتدع»، وأما أحكام البدعة المعروفة في الدارين؛ فإنه يُتَوَقَّف عن العمل بها معه؛ لمكان جهله أو تأويله.
ويتأوَّلون في ذلك ما استفاض من كلام السلف: من قال كذا، أو فعل كذا؛ فهو مبتدع.
ويتأوَّلون -أيضا- قول الإمامين أبي حاتم وأبي زرعة الرازيَّيْن في «معتقدهما» المعروف: «ومن وقف في القرآن جاهلا؛ بُدِّع، وعُلِّم، ولم يكفَّر».
ويتأوَّلون -أيضا- بعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ كقوله: «من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم، إلى ما يخالف ذلك؛ كان مخطئا في ذلك؛ بل مبتدعا -وإن كان مجتهدا مغفورا له خطؤه-» اهـ([3]).
وقوله: «فهذا هو الفرقان بين أهل الإيمان والسنة وأهل النفاق والبدعة، وإن كان هؤلاء لهم من الإيمان نصيب وافر من اتباع السنة؛ لكن فيهم من النفاق والبدعة -بحسب ما تقدموا فيه بين يدي الله ورسوله، وخالفوا الله ورسوله-، ثم إن لم يعلموا أن ذلك يخالف الرسول، ولو علموا لما قالوه؛ لم يكونوا منافقين؛ بل ناقصي الإيمان مبتدعين، وخطؤهم مغفور لهم، لا يعاقبون عليه -وإن نقصوا به-» اهـ([4]).
وقوله: «قد يكون كل من المتنازعَيْن مبتدعا، وكلاهما جاهل متأول» اهـ([5]).
* قال أبو حازم -ألهمه الله حجته-:
اعلم -رحمك الله- أن عبارات العلماء متضافرة على اشتراط إقامة الحجة في التبديع -إجمالا([6])-، مفرِّقين في ذلك بين النوع والعين، ومن كلامهم في ذلك([7]):
قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ومن خالف ما ثبت بالكتاب والسنة؛ فإنه يكون إما كافرا، وإما فاسقا([8])، وإما عاصيا؛ إلا أن يكون مؤمنا مجتهدا مخطئا، فيثاب على اجتهاده، ويغفر له خطؤه، وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذي تقوم عليه به الحجة؛ فإن الله يقول: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة، فخالفها؛ فإنه يعاقب بحسب ذلك: إما بالقتل، وإما بدونه؛ والله أعلم» اهـ([9]).
وقوله في موضع آخر-في سياق الكلام على معتقد أهل السنة-: «ليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا؛ فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له([10]) لا يجب أن يدخل فيها المتأوِّل، والقانت، وذو الحسنات الماحية، والمغفور له، وغير ذلك؛ فهذا أولى؛ بل موجَب هذا الكلام: أن من اعتقد ذلك؛ نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده؛ فقد يكون ناجيا، وقد لا يكون ناجيا؛ كما يقال: من صمت نجا» اهـ([11]).
وقوله في موطن آخر: «مع أني دائما -ومن جالسني يعلم ذلك مني-: أني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق([12]) ومعصية؛ إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها؛ كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى؛ وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعُمُّ الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد: لا بكفر، ولا بفسق، ولا معصية؛ كما أنكر شريح قراءة من قرأ: ﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ﴾، وقال: «إن الله لا يعجب»، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي، فقال: «إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أعلم منه، وكان يقرأ: {بل عجبتُ}»؛ وكما نازعت عائشة وغيرها من الصحابة في رؤية محمد ربه، وقالت: «من زعم أن محمدا رأى ربه؛ فقد أعظم على الله الفرية»، ومع هذا لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين لها: إنه مفتر على الله([13])؛ وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي، وفي تعذيب الميت ببكاء أهله، وغير ذلك، وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال، مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعا مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل -وإن كان باغيا- فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق.
وكنت أبين لهم أنما نُقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا؛ فهو أيضا حق؛ لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي: «مسألة الوعيد» اهـ المراد([14]).
وقوله في محل آخر-بعد أن بيَّنَ صحة الحكمِ بما يوجبه حكم الشرعِ في الأمور الظاهرة([15])-: «أما كونه عند المستمع معلوما، أو مظنونا، أو مجهولا، أو قطعيا، أو ظنيا، أو يجب قبوله، أو يحرم، أو يكفر جاحده، أو لا يكفر؛ فهذه أحكام عملية، تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال؛ فإذا رأيت إماما قد غلَّظ على قائل مقالته([16])، أو كفَّره فيها؛ فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها؛ إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه والتكفير له؛ فإن من جحد شيئا من الشرائع الظاهرة، وكان حديث العهد بالإسلام، أو ناشئا ببلد جهل؛ لا يكفر حتى تبلغه الحجة النبوية، وكذلك العكس: إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم، فاغتُفرت؛ لعدم بلوغ الحجة له([17])؛ فلا يُغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتُفر للأول؛ فلهذا يُبدَّع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها -إذا أنكر ذلك-، ولا تُبدَّع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الموتى يسمعون في قبورهم؛ فهذا أصل عظيم، فتدبره؛ فإنه نافع، وهو: أن ينظر في شيئين في المقالة: هل هي حق أم باطل، أم تقبل التقسيم، فتكون حقا باعتبار، باطلا باعتبار -وهو كثير وغالب-؛ ثم النظر الثاني في حكمه إثباتا، أو نفيا، أو تفصيلا، واختلاف أحوال الناس فيه؛ فمن سلك هذا المسلك؛ أصاب الحق قولا وعملا، وعرف إبطال القول وإحقاقه وحمده، فهذا هذا؛ والله يهدينا ويرشدنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه» اهـ([18]).
وقوله في موطن آخر-في شأن من رد باطلا بباطل ونحو ذلك-: «وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين -يوالون عليه ويعادون-؛ كان من نوع الخطأ، والله -سبحانه وتعالى- يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك؛ ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها: لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة([19])؛ بخلاف من والى موافِقَه، وعادى مخالفه، وفرق بين جماعة المسلمين، وكفَّر وفسَّق مخالفه -دون موافِقِه- في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه -دون موافقه-؛ فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات» اهـ([20]).
وقوله في موضع آخر: «ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع، من المنهي عنه في الكتاب والسنة، أو المخالف للكتاب والسنة: إذا صدر عن شخص من الأشخاص؛ فقد يكون على وجه يعذر فيه؛ إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته -كما قد قررته في غير هذا الموضع، وقررته أيضا في أصل «التكفير والتفسيق» المبني على أصل «الوعيد»-؛ فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجَبها في حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع([21])؛ هذا في عذاب الآخرة([22])؛ فإن المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار أو غير خالد، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق يدخل في هذه القاعدة، سواء كان بسبب بدعة اعتقادية أو عبادية، أو بسبب فجور في الدنيا -وهو الفسق بالأعمال-؛ فأما أحكام الدنيا؛ فكذلك أيضا؛ فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقا بدعوتهم؛ إذ لا عذاب إلا على من بلغته الرسالة، وكذلك عقوبة الفساق لا تثبت إلا بعد قيام الحجة» اهـ([23]).
وقوله في موضع آخر: «وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة([24])؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرَد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم؛ وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع؛ دخل في قوله: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾، وفي الصحيح: أن الله قال: «قد فعلت»، وبسط هذا له موضع آخر» اهـ([25]).
وقوله في موضع آخر: «وعلى هذا؛ فالمتأول الذي أخطأ في تأويله في المسائل الخبرية والأمرية، وإن كان في قوله بدعة يخالف بها نصا أو إجماعا قديما، وهو لا يعلم أنه يخالف ذلك؛ بل قد أخطأ فيه -كما يخطىء المفتي والقاضي في كثير من مسائل الفتيا والقضاء باجتهاده-: يكون أيضا مثابا من جهة اجتهاده الموافق لطاعة الله تعالى، غير مثاب من جهة ما أخطأ فيه -وإن كان معفوا عنه-، ثم قد يحصل فيه تفريط في الواجب أو اتباع الهوى يكون ذنبا منه، وقد يقوى فيكون كبيرة، وقد تقوم عليه الحجة التي بعث الله -عز و جل- بهما رسله، ويعاندها مشاقا للرسول من بعد ما تبين له الهدى، متبعا غير سبيل المؤمنين، فيكون مرتدا منافقا، أو مرتدا ردة ظاهرة؛ فالكلام في الأشخاص لا بد فيه من هذا التفصيل» اهـ([26]).
* قال أبو حازم -أعانه الله-:
وفي هذا القدر كفاية، وما تقدم فيه من وقوع كثير من أئمة السلف -خاصة- في بعض البدع: رد مباشر على كلام المخالف؛ لما هو معلوم -بالاضطرار- من عدم تبديعهم -ولو بمجرد إطلاق الاسم-.
ولنستحضر هنا أن البدع عقدية وعملية -كما تقدم قريبا في كلام شيخ الإسلام-، والنوع الثاني -خاصة- هو الذي كثر وقوع الأئمة المذكورين فيه؛ فلو طردنا قاعدة المخالف في التسمية العينية؛ فشناعة ذلك لا تخفى، ولو فرقنا بين البدع العملية والعقدية؛ فتناقض ذلك لا يخفى.
وسر المسألة -في هذا الجانب-: أن «البدعة أمرها شديد، والمنسوب إليها سيء الحال بين أظهر المسلمين، فلا تعجلوا بالبدعة حتى تستيقنوا، وتعلموا: أحقا قال أحد الفريقين، أم باطلا، وكيف تستعجلون أن تنسبوا إلى البدعة أقواما في قول قالوه، ولا تدرون أنهم أصابوا الحق في قولهم ذلك أم أخطؤوه، ولا يمكنكم في مذهبكم أن تقولوا لواحد من الفريقين: لم تصب الحق بقولك، وليس كما قلت؛ فمن أسفه في مذهبه وأجهل ممن ينسب إلى البدعة أقواما، يقول: لا ندري أهو كما قالوا، أم ليس كذلك،ولا يأمن في مذهبه أن يكون أحد الفريقين أصابوا الحق والسنة، فسماهم «مبتدعة»([27])، ولا يأمن في دعواه أن يكون الحق باطلا، والسنة بدعة؛ هذا ضلال بين،وجهل غير صغير» اهـ([28]).
قلت: وإذا كانت صورة التدليس الاصطلاحية -في رواية الحديث- واقعة في شيء من مرويات بعض الصحابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك لا يجوز أن نسمي أحدا منهم «مدلسا»، وإنما ذلك معدود في مراسيلهم، فيقال: «مرسل صحابي» -والمسألة مبحوثة في أصول الحديث([29])-؛ فكذلك ما نحن فيه -ولا فرق-؛ فإن العالم السني إذا وقع في بدعة معذورا؛ فإنه تُحفَظ كرامته، ولا يشنع عليه -كما هو مقرر في مباحث «زلات العلماء»-، ومن لوازم ذلك: عدم تسميته «مبتدعا»؛ إذ إن التبديع من جملة التشنيع.
وقد بيَّنتُ ذلك في «الآيات البينات»، وأصله: في النصوص الشرعية؛ فدونك حديثَ ابن الدُّخْشُم وحاطب وغيرهما -رضي الله عنهم-: كيف لم يطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم -عينيا- ما اقتضته مخالفاتهم؛ لما حصل في حقهم من الموانع، فهذا دال -بجلاء- على أنه ليس كل من وقع في مخالفة؛ وقعت المخالفة عليه.
وأيضا: فإن تفريق المخالف -في نفسه- باطل متناقض؛ فإنه لمَّا فرق بين الاسم والحكم؛ قال: إنني أطلق اسم «المبتدع» على من وقع في بدعة؛ ولكنني لا أحكم عليه بمقتضاها؛ لاحتمال تخلف الوعيد في حقه.
فأقول: واحتمال تخلف الوعيد قائم -أيضا- عند حكمك عليه؛ فإن البدعة قد لا تكون مكفرة، فيكون صاحبها في المشيئة -وإن قلنا فيه: «مبتدع» حكما، لا اسما فقط-؛ فتأمل.
وسر المسألة: ما قاله شيخ الإسلام -رحمه الله-: «اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق([30]) هي من مسائل الأسماء والأحكام، التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة، وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا» اهـ([31]).
فتأمل كيف جمع بين الاسم والحكم، وأخبر أنه يترتب عليهما أمور في الدارين معا.
وتوضيح ذلك: أن المبتدع لو توقفنا عن حكمه في الآخرة؛ فلن نتوقف عن حكمه في الدنيا -من جهة الموالاة والمعاداة ونحو ذلك-، فلازمُ إطلاقِ مجردَ الاسم عليه -وإن تُوُقِّف في حكمه الأخروي-: أن يُتعامل معه في الدنيا بمعاملة أهل البدع، والمخالف ينفي ذلك، فعاد صنيعه في التسمية هباء منثورا!!
وما احتج به من صنيع السلف -وسيأتي الجواب عنه- هو أبلغ حجة عليه؛ فهل كانوا يكتفون بمجرد التسمية، أم يرتبون عليها هجرا وتحذيرا وغير ذلك؟!!
وإذ قد قررنا أن تبديع الأعيان مرتهن بإقامة الحجة؛ فإقامة الحجة -عموما- يُفرَّق فيها بين الأمور الظاهرات الجليات، والأمور الخفيات المُشكِلات.
قال شيخ الإِسلامِ -رحمه الله-: «وقد ينكر أحد القائلين على القائلِ الآخرِ قولَه إنكارا يجعله كافرا, أو مبتدعا فاسقا([32])، يستحق الهجر -وإن لم يستحق ذلك-, وهو أيضا اجتهاد, وقد يكون ذلك التغليظ صحيحا في بعضِ الأشخاصِ أو بعضِ الأحوال؛ لظهور السنة التي يكفر من خالفها؛ أو لما في القول الآخر من المفسدة الذي يبدع قائله([33]), فهذه أمور ينبغي أن يعرفها العاقل» اهـ([34]).
وقال في موضع آخر -في الحديث عن أهل الكلامِ ومن شاكلهم, وقد ذكر عن أئمتهم شيئا من أنواعِ الردة والكفر-: «وهذا إذا كان في المقالات الخفية؛ فقد يقال: إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة، التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين؛ بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- بُعث بها وكفَّر مخالفها؛ مثل: أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله: من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك -فإن هذا أظهر شعائر الإسلام-، ومثل: أمره بالصلوات الخمس، وإيجابه لها، وتعظيم شأنها، ومثل: معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل: تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك؛ ثم تجد كثيرا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين([35])» اهـ([36]).
وضابط الفرق بين المسائل الظاهرة والخفية: وضوح الدليل، وظهور الحجة([37])، مع ضرورة النظر في ذلك إلى الواقع؛ فقد تكون المسألة ظاهرة في مكان أو زمان معيَّنَيْن، خفية في غيرهما، وكذلك الأمر في الأشخاص.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام -كما تقدم نقله-: «أما كونه عند المستمع معلوما، أو مظنونا، أو مجهولا، أو قطعيا، أو ظنيا، أو يجب قبوله، أو يحرم، أو يكفر جاحده، أو لا يكفر؛ فهذه أحكام عملية، تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال...» إلى آخره.
ويقول -كما تقدم نقله أيضا-: «وعلى هذا؛ فالمتأول الذي أخطأ في تأويله في المسائل الخبرية والأمرية، وإن كان في قوله بدعة يخالف بها نصا أو إجماعا قديما، وهو لا يعلم أنه يخالف ذلك([38])...» إلى آخره.
وهذا هو المقصود بما تقدم من كلامه في إمكان المغفرة لمن أخطأ -حتى في الأصول-، فمحله: عند خفاء المسألة على المعيَّن -وإن كانت في نفسها ظاهرة-.
وفي هذا يقول العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- لما سئل عن الفرق بين المسائل الظاهرة والخفية في التكفير: «الخفية بينة، مثل هذه المسألة: لو فرضنا أنه يقول: أنا أعيش في قوم يذبحون للأولياء، ولا أعلم أن هذا حرام؛ فهذه تكون خفية؛ لأن الخفاء والظهور أمر نسبي، قد يكون ظاهراً عندي ما هو خفيٌ عليك، وظاهرٌ عندك ما هو خفي عليَّ» اهـ([39]).
قلت: واعتبر في ذلك بمسألة القرآن التي مَرَّ الكلام عليها؛ فمع تبديع الأئمة للَّفظية، إلا أن الإمام أحمد -رحمه الله- لم يبدع تلميذه أبا طالب، الذي حكى عنه -غلطا- أن اللفظ بالقرآن غير مخلوق([40])، ومعلوم أنه قد قال بذلك بعض الفضلاء من الأئمة([41])؛ فها هي مسألة القرآن -مع ظهورها- قد خفيت على بعض الأعيان، واستحضر ما تقدم في كلام شيخ الإسلام عما وقع فيه كثير من السلف، والأمثلة كثيرة، ولاستيفائها مقام آخر -إن شاء الله-.
فالحاصل: أنه ليس كل من وقع في البدعة صار مبتدعا -ولو بمجرد التسمية-، وأنه يُفرَّق في ذلك بين الأمور الظاهرة والخفية، فيُبدَّع -عينا- كل من تلبس بشيء من القسم الأول -من غير إقامة حجة-؛ لأنها قائمة بالفعل؛ بخلاف القسم الثاني، وهذا التفصيل هو الذي تؤيده وتجتمع عليه تقريرات العلماء، ولا يرد عليه إشكال ولا إقصاء؛ وبالله التوفيق([42]).
وأما ما تأوَّله المخالف؛ فجوابه كما يلي:
أما إطلاقات السلف في التبديع؛ فإنما هي في بيان رتبة الأقوال والأعمال -في نفسها-، لا في الحكم على الأعيان -كما تقدم في كلام شيخ الإسلام-، وهذا كإطلاقاتهم في التكفير -سواء-([43]).
وأما قول الإمامين الرازيَّيْن؛ فتبديع من وقف في القرآن -وإن كان جاهلا- إنما كان لقيام الحجة، وانتشارها في الآفاق، فكان لا يتصور إلا التمسك بجادة أهل السنة في هذه المسألة: «القرآن كلام الله، غير مخلوق»، ولا يتصور أن يخالفها أحد -من اللفظية والواقفة وغيرهم- إلا وهو صاحب هوى، مُولَع بالإحداث -والعياذ بالله([44])-؛ فالكلام -إذن- في المسائل الظاهرة، التي لم تَخْفَ على المعيَّن([45])، ولم يكن تأويله فيها معتبرا؛ كشأن الخوارج، وأئمة البدع: واصل، وعمرو، ومَعْبَد، وجَهْم، وبِشر، ونظرائهم.
وأما كلام شيخ الإسلام؛ فقد نقلتُ عنه ما هو صريح في شأن الأعيان، وكلامه يفسر بعضه بعضا، فتعين حمل ما ذكره المخالف على الأنواع([46])، أو المسائل الظاهرة، أو المبتدعين الأصليين([47]).
هذا آخر المراد من كشف الشبهة المذكورة، والحمد لله رب العالمين.
كتبه
أبو حازم القاهري السلفي
الخميس 13/رجب/1434
([1]) أصل هذا المقال: رسالة أرسلتها -منذ أكثر من عام- إلى آية من الآيات في التهوُّك والتنقُّل -وأنا أتعمد عدم التصريح باسمه؛ إهانة له، وإخمادا لذكره-، وقد وقفتُ عليها -وأنا أقلِّب بصري في محفوظاتي-، فرأيت نشرها -بعد إجراء ما يستدعيه المقام من التعديل والاختصار-، والله الموفِّق.
([2]) هذا هو موطن النزاع، فالمبتدع الأصلي لا خلاف فيه بيننا وبينهم -في هذا الجانب-.
([3]) «مجموع الفتاوى» (13/361).
([4]) «مجموع الفتاوى» (13/63).
([5]) «مجموع الفتاوى» (23/356).
([6]) وأما تفصيلا؛ فيفرقون بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية -كما سيأتي بيانه-.
([7]) وسأكتفي بكلام شيخ الإسلام -رحمه الله-؛ لما ذكرته من داعي الاختصار، وليكون ردا على ما تأوله المخالف من كلامه.
([8]) أي: مبتدعا؛ لأنه غاير بين الفسق والمعصية، فتعيَّن حمل الفسق على البدعة، ومعلوم أن البدعة -إذا لم تكن مكفِّرة- فهي مفسِّقة؛ ولهذا يعتبرها المحدِّثون من أسباب الطعن في العدالة، ويقولون في صاحبها: «فاسق ببدعته».
([9]) «مجموع الفتاوى» (1/113).
([11]) «مجموع الفتاوى» (3/179).
([12]) أي: بدعة -كما تقدم-، وهكذا مراده بالتفسيق فيما يأتي من كلامه.
([13]) هذا أقوى الردود على المخالف -كما سيأتي بيانه-، مع التنبيه على أن الرؤية التي أثبتها ابن عباس هي رؤية القلب، والرؤية التي نفتها عائشة هي رؤية البصر، وقد أوضح ذلك شيخُ الإسلام نفسه في مواضع أخرى من كلامه.
([14]) «مجموع الفتاوى» (3/229-231)، وانظره -بنحوه- أيضا (12/492-493).
([15]) وسيأتي نقله -إن شاء الله- في بيان الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية.
([16]) ومن ذلك: تبديعه بها.
([17]) ولهذا لم يَسُغْ تبديعه -ولو بمجرد إطلاق الاسم-، وهذا أقوى الردود على المخالف -كما سبق التنويه به-.
([18]) «مجموع الفتاوى» (6/60-61).
([19]) فلم يُبَدَّعوا -ولو بمجرد إطلاق الاسم-.
([20]) «مجموع الفتاوى» (3/349).
([21]) هذا من أصرح ما يكون في الدلالة على المدَّعَى، وقد تقدمت الإشارة إلى مراده بالتفسيق، والتنصيص على البدع موجود في صدر كلامه -كما ترى-.
([22]) لا تدل هذه العبارة على حصر ما تقدم في شأن الحكم الأخروي؛ بحيث يُفرَّق بينه وبين إطلاق الاسم الدنيوي؛ لما تقدم ويأتي.
([23]) «مجموع الفتاوى» (10/371-372).
([24]) فلم يُبَدَّعوا -ولو بمجرد إطلاق الاسم-.
([25]) «مجموع الفتاوى» (19/191-192).
([26]) «شرح الأصفهانية» (183).
([27]) تأمل كيف كان مجرد التسمية عند السلف أمرا خطيرا، له عواقبه وآثاره.
([28]) «الرد على الجهمية» للدارمي (193).
([29]) وما أجمل قول الإمام ابن المبارك -$- مما يشبه تماما ما نحن فيه: «السيف الذي وقع بين الصحابة: فتنة، ولا أقول لأحد منهم: هو مفتون» اهـ من «السير» (15/423).
([30]) ومن الفسق: البدعة -كما تقدم-.
([31]) «مجموع الفتاوى» (12/468).
([32]) تذكر ما سبق من علاقة البدعة بالفسق.
([33]) هذا -أيضا- من التعليلات الهامة؛ فقد لا تكون السنة ظاهرة؛ ولكن يكون للقول المبتدَع مفاسد تسوِّغ تبديع قائله، ومعلوم أن هذا ليس مطردا؛ بل هو باب اجتهادي صِرف -كما نص عليه في كلامه-، ومثل هذا يُرَدُّ إلى أهله، لا إلى الحداد وأشكاله!!
([34]) «مجموع الفتاوى» (6/60).
([35]) أي: من غير إقامة حجة.
([36]) «مجموع الفتاوى» (4/54)، وانظره -بنحوه- أيضا (18/54).
([37]) قال شيخ الإسلام في «الاستقامة» (1/13): «وليس المقصود هنا ذكر البدع الظاهرة، التي تظهر للعامة أنها بدعة؛ كبدعة الخوارج، والروافض، ونحو ذلك» اهـ.
([38]) فالمسألة -إذن- ظاهرة؛ ولكنها خفيت على المعيَّن هنا.
([39]) «لقاءات الباب المفتوح» (48/16).
([40]) وتفصيل الخبر في ذلك موجود في «السنة» للخلال.
([41]) راجع الجزء الثاني عشر من «مجموع الفتاوى».
([42]) ويُراجع -للأهمية- جواب العلامة ربيع بن هادي -حفظه الله- المشهور في اشتراط إقامة الحجة في التبديع.
([43]) ومن هنا تُعلم خطورة الحدادية، وأنهم -حقا- مخانيث الخوارج؛ فإنما كان بلاء الخوارج من إعمال الإطلاقات في التكفير على الأعيان، وها هم الحدادية يسلكون نفس المسلك في التبديع؛ وراجع -للأهمية- مقالي: «نظرية الكمال».
([44]) ويمكننا أن نلاحظ ذلك في جواب الإمام أحمد المعروف في شأن الوقف، لما قال: «ولِمَ يسكت؟ ولولا ما وقع فيه الناس؛ كان يسعه السكوت؛ ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا؛ لأي شيء لا يتكلمون؟».
فإن قيل: فما بال الرازيَّيْن لم يكفِّرا الواقف الجاهل، وإن كانا قد بدَّعاه؟
قلت: إنما بدَّعاه لتركه التصريح بنفي الخلق عن القرآن، فالناس كلهم من حوله يقولون: «القرآن كلام الله، غير مخلوق»؛ فلماذا لا يصرح مثلهم؟! فلم تُقبل دعوى الجهل في ترك التصريح، وأما كفر الواقف؛ فليس لمجرد ذلك؛ بل لشكِّه في المعتقد الحق، ولهذا كفَّر السلف الواقفة الشاكَّة -من غير إقامة للحجة، ولا قبول لدعوى الجهل أيضا-، فالمسألة -إذن- من المسائل الظاهرة التي لا تستوجب إقامة الحجة؛ ولكنْ فرقٌ بين الوقف على جهة ترك التصريح -وهي الصورة المبدِّعة-، والوقف على جهة الشك -وهي الصورة المكفِّرة-؛ فتنبه.
([45]) استحضر ما سبق من شأن أبي طالب وغيره.
([46]) وهذا ظاهر في النقل الأول الذي تأوَّله المخالف.
([47]) وهذا ظاهر في النقل الثاني والثالث:
فأما الثاني؛ فإن شيخ الإسلام يقول فيه: «فهذا هو الفرقان بين أهل الإيمان والسنة، وأهل النفاق والبدعة»، وقد قال قبله: «وأهل البدع لا يجعلون اعتمادهم -في الباطن ونفس الأمر- على ما تلقوه عن الرسول؛ بل على ما رأوه أو ذاقوه، ثم إن وجدوا السنة توافقه، وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه؛ أعرضوا عنها -تفويضا-، أو حرفوها -تأويلا-» اهـ.
وأما الثالث؛ فقد قال فيه: «فأما مسائل الدين التي يتنازع فيها كثير من الناس في هذه البلاد، مثل مسألة: الحرف والصوت ونحوها؛ فقد يكون كل من المتنازعين مبتدعا، وكلاهما جاهل متأول» اهـ.
لتحميل المقالة منسقة وبصيغة بي دي أف، اضغط هنا
|